في معنى أن نكبر

في معنى أن نكبر

عبدالعزيز البرتاوي

لا يتكرر العمر، ولا اللحظة. لا تستعادُ الثانية العابرة، ولا يمكن إيقاف “الدقيقة” الدقيقة. إن لم يكن ثمة ما يمسك بتلابيب اللحظة، فإنها تنكبّ رأسًا، في هاوية النسيان، والحسرة ربما. تأمَّل كتاب تاريخ. أي سنة شئت. استقرئ أحداثها، وتفرّس أخبارها، وعدّ ناسها، ستجد ما لا يملأ عموم العام. لقد اختار التاريخ، ما جاء قسر أمر النسيان، ومضى الباقي إلى غير تخليد ولا رجعة.

حتى وأنت ترتكب قراءة الأحرف البالية هذه، وأنا أرتكب رصفها، والشبكة تمارس حفظها، نعيش عمرًا زائلًا، قد لا يكون فيه من التخليد، أكثر من آهةٍ، إن شابه الكلام أمرًا لدينا، وغير لا مبالاة عابرة، على كثير من الحبر، وأكثرَ من التفاهة.

تمضي أعمارنا. نكبر نحن الذين كنّا أطفالًا، ها نحن ذا، نرتكب الذكرى، وقد نتجرأ لنصح آخرٍ غريب، وقد نقول كلامًا يشبه الحكمة، أو نلوّح لنسيان عنيدٍ، بكفٍ من الذكرى والتجربة.

الممثلون الذين طالما فُتنّا بوسامة شبابهم، تجعدات وجوههم الآن، تُرينا حسابنا على فاتورة الشاشة. البرامج التي أطربت أفئدتنا وأبصارنا صغارًا، تُشعر قلوبنا الآن بالتعب والمرارة، ونحن نشاهد على سبيل الصدفة أحدها، في موقع يحفظ ما قدم من البرامج والأخبار والطرف.

رقم العام الذي كان قريبًا، من عامنا الذي نعيش اللحظة، ونحن نجري، لنُجري حجزَ رحلة أو سكن أو وظيفة أو إعانة، صار بعيدًا، نتتبعه بحثًا خلف أعوام كثيرة، تمرّ أرقامها على بياض الشاشة، وسواد الأيام.

رجال الجيران الذين طالما شاهدت مزاحهم مع أبي، لم يعودوا يضحكون. كسا الشيب  صدوغهم، وحزّت وجوههم حجوزات الأيام وحزازاتها، وأنينٌ، يشبه شكوى تأخر دواء، ونجوى موعد طبيب.

نهرم نحن الذين ما كان بحسباننا أن نكبر يومًا، بهذه الصورة المريعة. نحبو للسنيّ الأولى. نخطو لما بعدها. نركض لعتبات العشرين، وفي لمح بصر، نكون مواشكين شرفات الثلاثين، بانتظار اتكاءة على درابزين الأربعين، نحو سلم الهاوية.

نلتفت، أي مفازة قطعنا. أي سراب شربنا. أي أعوام تلك التي مرّت، وكرّت كتتابع حبّات سبحة. الحدث الذي زلزلنا يومًا حسبناه واقفًا في سدّة أيام التاريخ، يمرّ اليوم، كذكرى، لا نأبه بها، ولا تحتاج منّا سوى ثوانٍ لتهجي حروفها في أجندة “حدث في مثل هذا اليوم”.

غزو العراق الذي طالما رقّص أرقنا، هاهو الآن يغدو شيئًا سخيفًا، يشبه ذاك الذين كنّا نسمعه من كبارٍ قبلنا، عن حرب كونية سابقة، أو اجتياح لم نشاهده سوى في صفحة كتاب تاريخي. فلسطين، التي كانت تقسم أن لا خمسين عامًا أخرى من الذلة والاحتلال، تعدّ العدّة للاحتفال بما تبقى منها بمرور 100 عام. وقد يأتي أطفالنا ليسألوا أي حماقة هذه الممتدة من 100 عام، وقد نذكر ما نجيبهم به، وقد لا نذكر سوى ما تقوله مذيعة اللحظة في قناة تطبيع عربية.

نتجزأ. نحن الذي كبرنا على أغاني الوحدة الكاذبة. تفتت تحت أعيننا يمنُنا، وصار يمينات ويسارات كثيرة، والسودان سودانان، بخرطوم مقطوع، والعراق، يا للعراق، كان دولةً، وصار حذاءً ينتعله حفاة الضمير، ومشردو طوائف العالم الجائع والمسعور.

كان في هذا الربيع العربي، ما يومض كشعلة. ما يبهج ليلنا كشمعة. ما يصلح كمفتتح أبيض لحكاية نقصّها للذين سيقرؤون سوادنا التالي. لكنهم، لم يطفؤوها فحسب، بل وبدموعنا. هات دمعتك، لنطفأ شمعتك، هذا ما يفعله مرتزقة النفط، في عالم عبريّ كئيب.

إن كنت إسرائيليًا، وشاءت لك الأقدار، بمحض صدفة، أن تقرأ هذا، فإني أغبطك أيها الملعون. تنام في كنف دولة جلّ أمرها بناء ما تهدمه الأيام منك. تقويم ما يعوجه الزمن عليك. تدشين جامعات مثالية التعليم لك. تقديم خدمات طبية لا يحظى بها أكثر هذا العالم. تطوير معامل ومصانع لعلكم تخلدون. وإن كنت عربيًا، وتحسن القراءة سيدي، فأعزيك. واقفًا في نفس صفك. أتقبل العزاء منك أيضًا، لقد اكتشفنا سوية، أن إسرائيل هي الدولة الشرعية الوحيدة، وأننا المحتلون. وكل أكاذيب المقاومة والممانعة والصمود والتحدي ودحر الأعداء، لم تكن سوى لإلهائنا عن هذه الحقيقة. ها نحن الآن، في أبأس ما تكونه هذه الأوطان الزرائب، مخمور ابن مخمور، يملك من الأرصدة ما لا تملكه قبيلة، وعاهرة من شرق أوروبا، تحصل على احترام في مطار عربيّ، يصفع فيه ابن أشراف، كان حظهم من الجغرافيا، سمرة البشرة، وسواد الخيبة.

كبرنا، لكننا نصغر يا صديقي. تهدمنا الأيام، وقد نعاونها. توقفنا كمائن الشرطة في دروب الأماكن الغريبة، فنضع أيدينا على قلوبنا من غير ما تهمة. يفرج الأحمق عنّا، وببسمة شاكرين له زوال جرمنا، نمضي صوب نقطة تفتيش أخرى. “في كل عواصم هذا الوطن العربيّ قتلتم فرحي”، بل وأنت تشهد أطفال الشام الحزين، يملؤون عواصم تركيا وشرق أوروبا، يتسولون الغرباء، ويفترشون شتاء الأرصفة، أضيف لمظفر: “بل في كل عواصم هذا العالم، يقتلون فرحنا”.

يا أيها العمر رفقًا بنا. دع سنوات الأيام وحدها تكبّرنا، وخذ عنّا سنيّ الشدائد، وأهوال النشرة. لا نريد أيامهم الوطنية، ولا أعياد انتصاراتهم على شعوبهم، ولا مراسم التباس السيوف بالدفوف. نريد لحظتنا نحن. نريد أعيادنا الذاتية، لا تلك التي قرّرها محتلّ قسّمنا عشرين قسمًا، وها نحن نواشك أن نكون ضعفها. يا رباه، أي أعياد وطنية تكون ليالينا الحالكة، حين يصير كل هذا التقسيم. وأي مواسم انتصارات في أوطان، أكثر ما فيها الهزيمة.

سنوقف أعمارنا. سنوقفها، أو نوقفها على أفراحنا الصغيرة. سنشارك هذا العالم الطيّب ما نريد من محبّة. لن نطرد الغريب، بحجة إصلاح الوطن. الوطن فاسد بأقاربه وعقاربه. لن نحارب العدوّ الذي لم يفكّر بنا. وسنبصق في وجه الصديق الذي يضع السمّ في أفواهنا، من فرط القرابة. لن نسمح لسافل، أن يحدد ما نفكّر به. من نعادي، ومن نوالي. بحجة حفظ أمن البلد، ورعاية هذا الولد. سنؤمن بما نشاء من أفكار، ونحيا على ذلك. فإن أبوا، فحلاوة الموت منفردًا على فكرة تختارها، لا تشبهها مرارة الحياة على فكرة تقسرك عليها كفّ غريب.

سنكبر كبارًا. أو لنمت صغارًا. ليس في الحياة متسع كثير، لأولئك الذين يطأطئون رؤوسهم لكل عاصفة. إنّ عاصفتين وثلاثًا، ستمرن رؤوسهم على الانحناء، وتليّنها للتلفّت صوب كل شيء، والتمايل أمام أهون ريح. ووقتها، ستقلعهم العوادي، كما هشيم، في ليلة عاصفة، لا أرضًا أفادوا، ولا سماءً غنموا.

سنكبر متشبّثين بآمالنا، أو نموت بآلامنا.

سنكبر كما نريد، لا كما يريد الغريب، متلبسًا ثياب الناصح القريب. صوت الصديق، وهيبة حامي الحمى. خشوع اللص، وركاكة الشيخ مقوّمًا ما انحرف من عقيدة الشعب، عن صراط الملك. إن أسفل أنواع العقيدة، تلك التي يسوّقها كاذب، ويحميها شرطيّ. إن أرذل الأفكار، ما جاءت به شاشة رسمية، وحضّ عليه شيخ تقطر لحيته زيتَ نفط، وماء ذلّة.

لن نغيّر أفكارنا كما أردية. ولو فعلنا، فبطوع أمرنا. لن نختار الفكرة، لأن جريدة رخيصة تروّج لها. ولن نرفض أخرى، لأن مثقفًا حليق الذقن والذهن، يدعو إليها. سنموت واقفين كما نخلٍ، أو نحيا شامخين كماه.

سنحضّ أنفسنا، ولو بالكلام. الحظّ قولًا، فعل. وسنأمل، ونصنع في خيالاتنا شموسًا، لا تطفئها كل هذه السجون. خذونا إلى ما وراء الشمس، إن شئتم، ليس وراء الشمس، سوى شروق جديد.

عدد المشاهدات : 4191

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.