فأل تحت الأنقاض

فأل تحت الأنقاض

عبدالعزيز البرتاوي

لا توجد عيادة في هذا البلد، لتشخيص حالات الإحباط. لو وُجدت لأُحبطت هيَ، لفرط قلّة مرتاديها. المحبط عادةً، إحباطًا، لا يذهب لعلاج إحباطه.

 

أتمشى، إلى لا مكان. آئبًا، من ما لم أذهب. أفكر، في لا شيء. وأتعب، ممّا لم أعمل. أسوّف حتى في إنهاء تسويفي، أو تأجيله إلى تسويفٍ قادم. أتملى هذه الوجوه. أتفحّص أقدامها. تنزلق الكآبة على كلّ شيء. من فرحوا بالربيع، حصد الخريف كلّ آمالهم. حتى في المستوى الكرويّ، صار العالم أكثر رداءةً. في السينما، صار الممثّل يأتي لتقويسة حاجبيه وارتسام عضلاته، أكثر مما يأتي لاحترافه قلع قلب المشاهد المشدوه، تمثيلًا وتشكيلا.

 

أقلّب صفحات الأيام، آتية على شكل جريدة. يكتب جهاد الخازن في صحيفة “الحياة” الميتة، حزمة شتائم، لا في كتيبة لاعبي ريال مدريد، ولا نادي الهلال، لأن جمهور الجريدة، والحيادية، ونزاهة الصحافة، لا ولن ترضى عن ذلك، بل في كتيبة محمد بن عبدالله. يشتم الخلفاء الراشدين، يصف العقّاد، العالم الموسوعيّ بالدروشة، وبكونه لم يؤلف عن محمد ورجاله كتاب “عبقريات”، بل كومة “اعتذاريات” عن أخطاء الصحابة، وجرائم الحرب التي ارتكبها خالد ابن الوليد، وحقد عمر ابن الخطاب، الذي كان أول قرارات خلافته “الراشدة”، تسوية مشاجرة قديمة بينه وبين خالد، طاردًا بسببها، أعظم عسكريي العالم من طيّ الخدمة، لأجل مشاجرة طفولة.

 

ليكمل بعده سمير عطالله، في صحيفة “النهار” الأسود، منظومة ردحٍ للربيع العربي، لم يرَ من خلال غبشه، سوى أكذوبة “جهاد النكاح”، آت على ذكرها في مقالة واحدة، سبع مرات، والثامنة بالدولار. لأن سيّد البترول يدفع أكثر، ولأن سمير، المتشدق بالثقافة الفرنسية الرفيعة، لم يقرأ تحقيق اللوموند الفرنسية، قبل أسبوعين، عن حقيقة “جهاد النكاح”، وكونه أكذوبة صنعتها المخابرات السورية، لتشويه صورة الثورة. آتٍ وغادٍ على ذكر مآثر الآخرين، وحطّ كل ما يحيط بهذا الربيع، الذي أينع يباسًا، في ظلّ إعلام يشوّه ملامح وجهٍ، لم يكتمل بعد. وهو البليغ العليم.

 

هذا ما أعطاناه لبنان في أسبوع. تأمّل ملاحق صحافته، تجد وإن كنت أعمى، بوازغ سخافته. أرفع المواضيع، ما جاس في أتفه الأمور. أقلّها حظَا بالرؤية، بالطبع ما كان أعلاها بالرأي. ولبنان، مدرسة الحداثة التي كانت، ثمّ صارت الآن نموذج شماتة، لصومال أبيض جديد. لا بحر له، وقراصنته، أقل مروءة من استهداف سفن الأعداء فحسب.

 

يلعن العراق بعضه. يفكّك ما لم يتفكّك منه. تنساب دجلة دمعةً، تنافس الفرات طوًلا وحزنا. لا حظّ للعراق في النشرة. حظوظه من يوم النشور أوفر. تتشظى أجساد بنيه، كل ما التمّ برلمانه. وتنساب طرقه، مفضية إلى الموت، لا لكون آخرها مقبرة، بل لكون سياراته، للتفجير والتفخيخ، لا لتركبوها، ولا زينة.

 

أيها المحتّلون، لا تتعبوا. احتلالنا دائم، ولو رحلتم. استقيلوا، وقِيلوا. فإن شياطين حكمنا لا تقيل. ما تفكرون به من أحلك السواد، بياضٌ لا توازيه أنقى عتماتنا. خذوا من دمنا ونفطنا وأرضنا وحلمنا وخبزنا، ودعوا لنا النشرة. نحصي كم بقي منّا. انتهى عهد كانت المذيعة تعدّ قتلانا، وصارت تعدّ من بقي من أحيانا، لتعلن أنسنا بإنسنا. صار الخراب سمة. والإصلاح تهمة. صار إثمًا يُردي شيب الرجال، ضيّق الزنازن، وبارد العتمات.

 

أنا من وطنٍ مسكين. لا يقود رجاله أنفسهم، بينما يناضلون لتقود نساؤه سياراتهم. وطن تجمعه شائعة “مكرمة”، وتفرقه بادرة اعتقال. يركب فيه أمير ظهر خادم، بينما تناضل امرأة لتركب مقعد سيارة. ينام بنوه على أمل إجازة من عِلم. ويستيقظ موظفوه على هبة من حلم. يتناقل ركبانه خبر شفاء سيّدٍ، أو موتِ آخر، لتعمّ هبة، وتتنزل مرحمة. وطنٌ أوله “شرهة”، وآخره مقعد على رصيف يجاور قصور وليّ الأمر، من أخذه بحدّ السيف، وأبقاه عليه.

 

أفتح شرفتي، أحدّق. أي مجهول هذا الذي يسيّجونه بتخطيطات مستعمر سابق. نشيد واحد، ونشيج متعدّد.

حواجز إسمنتية تسوّر كل مبان الحكومة. هل نحن في بلدنا، أم بلد الأعداء. من يحارب من. رجال شرطة عابسون. صحافة شوفوينية حقيرة. صحيفة الشرق، تنشر متشفية صورة “أجنبيّ” يسكب الدمع على صفحتها الأولى، وتقول أن دموعه هذه، لم تشفع له ليبقى في وطننا العزيز. مقتل “أجنبيّ” آخر، أثناء الحملة “التصحيحية”. نحن نعرف جيدًا، كيف تصدر “فيز” كل هولاء “الأجانب”. من هو الناهب الأول لخيرات البلد. اللصّ الحقيقيّ، ومن جاء ليأخذ منّا، ونأخذ منه. يعمر بلدنا، ونعمر جيبه الصغير، ليعود على أطفال بعيدين، بما يسدّ الرمق، ويكسو عريّ الشتاء.

 

لا كتب مثيرة. رجاء الصانع تعلن عن رواية جديدة. وبنات جدة، لم يكتب أحد روايتهم بعد. وزارة ثقافة، أبرز ما فيها مؤتمراتها، ووصايا الشفاه، وتوصيات الورق. لم أعد صالحًا للقراءة. لا لأقرأ. ولا لأُقرأ. بليدًا. كابيًا. اتأمل صحيفة، وأقذف بأخرى، تعنون شامتة بقتلى الإخوان عرض الحائط. صار موت المخالف رخيصًا، ككاركتير لرسام مجهول. أو إعلان مبيد حشريّ. لم يمت في سوريا حتى الآن، سوى 100 ألف. وسبعة ملايين آخرين، في الهجرة والشتات. لكن مساعينا الحكومية، لا زالت صامدة لحلّ أزمة “من بقي” من الشعب السوريّ، والثورة المجيدة.

 

أمشى على غير هدى. أكتب، على غير فكرة. أهذي. أعوي. لا صحراءَ لي، شبّكها وليّ وليّ الأمر، أمين بيعته، وأمين بيعي. لا بحرَ لي. قصر جلالته، يحاذي الشاطيء، ولا يصحّ اقتراب المجهولين من أمن محميّته. لا سماءَ لي، حتى هلال عامي، يكتشفه أعور بعد مضيّ يومين من السنة الجديدة.

 

الإبل التي طالما حملت قوافل الفتوح لأرجاء عالم مديد، صارت ذليلة محنيّة الأعناق، أمام تكايا بقايا القبائل العربية البائدة، تتنافس في مزايين، تخوضها الآن الدجاج. دجاجة واحدة بسبعة عشر ألفًا. إنه وطن الرخاء. لكلّ شيء مزاد لمزايينه، إلا الإنسان. المزاد لقبائحه.

 

كلما ارتطمت سيارتي بحفرة، وأنّ قلبي لوجعها، تذكرت بخشوع ابن الخطاب. ترى يا عمر، الشاة التي خفت أن لا تعبّد لها طريقًا في العراق، صار رعاتها الآن لا يملّون شكاية وليّ الأمر، من حفر شوارعه، ونهب سواهره. والعراق ذاك، لم تعد شياهه في الطريق. صارت في البرلمان، أو على دبابات الإحتلال.

 

ينتكس العالم كلّ يوم أكثر. حتى غنج عاهراته صار سافلًا، تمثيلّيا. ملبسًا بالنايلون والسيلكون. وأسود بيوته، لا يملّون منادته بالبيت الأبيض، حتى لو سكنه أسود. أضلّ حيواناته سفالةً ونكوصًا أسد. وأعتم بيادق احتلاله “نوري”. وقائد أم دنياه “سيسي”.

 

ماذا أكتب. أنا لا أكتب. ماذا أكذب. أنا أكذب. أخطّ لأحطّ. أحاول بالكلمات حتّ هذا الحزن. تربيت هذي الروح، لا لتستيقظ، بل لتنام أكثر. هذا الليل طويل، وأكثر مما يجب لآمل توقّع حلمٍ آت.

 

لو كان في هذي الوطن عيادات إحباط، لكنت مرتادها الأول. رائدها. لو كان ثمّة طبيب إحباط، لأحبط وهو يجسّ بصدري كلّ هذا الإحباط.

عدد المشاهدات : 2126

 
 

شارك مع أصدقائك

One Comment