في تفاهة التفاؤل

في تفاهة التفاؤل

مدير التحرير

الأمم، مثلها مثل المعتقدات السياسيّة، قابلة لأن تكون متفائلة قدر ما هي قابلة لأن تكون متشائمة. الولايات المتحدة واحدةٌ من قلّةٍ من البلدان حيث التفاؤل يكاد أن يكون أيديولوجيا الدولة. ولا تضاهيها في ذلك إلا كوريا الشمالية. ترى قطاعاتٌ واسعة من أبناء الأمّة أنّ التنّمر من شيَم الوطنيّة، فيما السلبيّة تكاد أن تكون جريمة فكريّة. أمّا التشاؤم، فيُنظر إليه على أنّه فعلٌ تخريبيّ إلى حدٍّ كبير. حتى في الأزمنة الرديئة، يظلّ يهيمن على اللاوعي القوميّ استيهامٌ جمعيٌّ عن الجبروت واللانهائيّة. يستحيل انتخابُ رئيسٍ أميركيّ نصح الأمّةَ بأنّ أحسن أحوالها انقضت، قدر استحالة انتخاب قرد تشمبانزي للرئاسة، مع أنّ هذا الأخير كاد أن يصل في مناسبةٍ أو مناسبتين. لاحظَ مؤرّخٌ أميركيّ مؤخّرًا أنّ «الخُطَب الافتتاحيّة الرئاسيّة تفاؤليّةٌ على الدوام، بغضّ النظر عن الأحوال». ولم يكن يقصد توجيه النقد بهذه الملاحظة. ثمّة ابتهاجيّةٌ لا إراديّةٌ في بعض أوجه الثقافة الأميركيّة، مع أنّ الفصاحة التي تقول «أنا-أستطيع-أن-أفعل-أيّ-شيء» تشي بخوفٍ شبه مَرَضيّ من الفشل.

في دراسةٍ رثّة الأسلوب، حدَّ الإنهاك، بعنوان «بيولوجيا الأمل»، يسعى الأكاديميّ الأميركي ليونيل تايغر إلى إرساء أيديولوجيا الأمل في بلاده على أساسٍ علميّ. فتجده يشتغل على قرودٍ مخدّرةٍ وعلى موادّ لتكييف الأمزجة وعلى تفاعلاتٍ كيميائيّة عُثِر عليها في بِراز أهلٍ يبكون أطفالهم الموتى. والافتراض أنّه لو قُدّر اكتشاف الأساس الفيزيولوجيّ للمَرَح، لبات بالإمكان القضاء على الاحتجاج السياسيّ وتأمين مواطَنة في حالةٍ من النشوة الدائمة. ذلك أنّ الأمل منشّطٌ سياسيٌّ فعّال. ويلاحظ تايغر أنّ «المغالاة في التفاؤل قابلةٌ لأن تصير واجبًا إنسانيًّا مشتركًا يجمع أبناء البشر». يبدو أنّ ستالين وماو حملا رأيًا مشابهًا. فالواجب الأخلاقيّ المفروض علينا يقتضي الإصرار على أنّ كلّ شيءٍ على ما يرام، حتى ولو لم يكن كذلك بالبداهة.

في الاتّجاه ذاته، يُبلغنا مؤلّفو كتابٍ يحمل عنوان «الأمل في عصر القلق» أنّ «التفاؤل هو أنجع الأدوية لأنّه يمثّل منطقة تكيُّفٍ وُسطى بين ردّ الفعل المتوتّر بالغ الحِدّة وعقدة الانسحاب الاستسلاميّة». يضمن لنا الأمل «مستوياتٍ مناسبةً من الموصِلات العصبيّة، والهورمونات، والكَرَويات الليمفويّة وغيرها من الموادّ حاسمةِ الأهميّة بالنسبة للصحّة». وإنّ نقصان المادّة مضرٌّ بصحّتك الشخصيّة والسياسيّة. ولعلّ ثمّة علماء في كاليفورنيا ينشطون منذ الآن في تعبئة تلك الموادّ في عبواتٍ للأدوية.

كان الفيلسوف الأميركيّ وليام جيمس يضجر من هذه الرؤية زائدة الحلاوة، فتساءل قائلا: «هل حقًّا أنّ آخر كلمةٍ هي الكلمة العذبة؟ وهل أنّ كلّ ما يقال في الكون هو «نعم، نعم»؟ أليست حقيقة الـ«لا» كامنةً في صميم الحياة ذاتها؟ أليست «الجِدّية» ذاتها التي ننسبها للحياة تعني أنّ اللاءات والخسائر تشكّل، لا محالة، جزءًا من الحياة ذاتها؟ أليس ثمّة تضحياتٍ أصيلة في مكانٍ ما؟ أليس ثمّة طَعمٌ قاسٍ ومُرّ باستمرار في ثُفالة كلّ كأس؟».

إنّ سياسات البيت الأبيض زمن جورج بوش، القائمة على «القاعدة الإيمانيّة» لا على «قاعدة الواقع»، حالةٌ أميركيّة مألوفة الى حدّ الخَبَل. ذلك أنّ الواقع كائنٌ متشائمٌ يتعيّن علينا أن نصمّ آذاننا عن حديثه الخؤون. ما دامت الحقيقة كريهة غالبًا، لا بدّ من قهرها بالإرادة التي لا تُقهر. ذلك منوّعٌ من منوّعات التفاؤل يصعب تمييزُه عن المرض العقليّ. إنّ هذا النّوع من الابتهاجيّة شكلٌ من أشكال الإنكار النفسانيّ. وعلى كلِّ ما تبديه من حيويّةٍ فائقة، فالابتهاجيّة ليست في حقيقتها أكثر من حالةٍ من الهرب الأخلاقيّ. إنّها عدوّ الأمل، والأمل ضروريّ تحديدًا لأنّه يُمكّن المرءَ من أن يعترف بمدى خطورة وضعٍ معيّن. في المقابل، الزهو الذي يدفع بالمتفائل إلى الأمل يقوده أيضًا إلى سوء تقديرٍ للعقبات التي يتعيّن عليه أن يواجهها، فينتهي به الأمر إلى نوعٍ من الطمأنينة لا يُرجى منه نفعٌ كبير. إنّ التفاؤل لا يأخذ اليأس بالجدّية التي يستحقّها. وقد عُرف عن الامبراطور فرانتس جوزِف قوله: «الأمور في برلين خطيرة ولكنّها ليست ميؤوسًا منها، إلا أنّها في ڤيينا ميئوسٌ منها ولكنّها ليست خطيرة».

إنّ الابتهاجيّة واحدةٌ من أسخف المشاعر. ترتبط في الذهن بشخصٍ يتقافز زاهيًا بسترته المخطّطة وبأنفٍ دُسّت فيه كرةٌ من البلاستيك الأحمر. حتّى إنّ مفردة «بهجة» happiness، بالمقارنة مع bonheur «فرح» الفرنسيّة أو المفردة الإغريقيّة العتيقة eudaemonia تحمل طعم علبة الشوكولاتة، في حين أنّ مفردة «الرضى» contentment توحي ببلادة البقر.

يشكّ الفيلسوف الفرنسيّ غبرييل مارسيل في إمكان وجود تفاؤلٍ يتّسم بالعمق. فالأحرى النظر إليه على أنّه نوعٌ منحطٌّ وساذجٌ من الأمل ميؤوسٌ من علاجه. ثمّة هشاشةٌ لا تُحتمل في التفاؤل، مثلما ثمّة استغراقٌ ذاتيٌّ مروّعٌ في التشاؤم، يتغذّى من استمتاع المتشائم بكآبته بلا خفاء. التفاؤل، مثله مثل التشاؤم، يغطّي العالمَ بأسره بواسطة طبقةٍ صقيلةٍ ذات لونٍ واحد، متعاميًا عن أيّ تلوينٍ أو تمييز. وطالما أنّ التفاؤل حالةٌ ذهنيّة عامّة، يصير بالإمكان استبدالُ كلّ شيءٍ بكلّ شيء، بناءً على قيمة الروح التبادليّة. إنّ المتفائل المتزمّت يستجيب لكلّ شيءٍ بالطريقة الحثيثة ذاتها المبرمجة سلفًا، فيطيح بالصدفة كما بالطوارئ.

وفي هذا العالم المحكوم بالحتميّة، الأشياء مقدَّرٌ لها أن تسير على ما يرام، بحُكم قابليّةٍ للتوقّع سابقة على الولادة، على اعتبارها حجّة دامغة بالمطلق.

 

________
* هذا النص، للفيلسوف، والمنظّر الأدبي، والمفكّر الماركسيّ، تيري إيجلتون. تم نشره وترجمته في مجلة “بدايات” المرموقة.

عدد المشاهدات : 1267

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.