قردٌ وعصفورٌ وإنسان

قردٌ وعصفورٌ وإنسان

عبدالعزيز البرتاوي

كان الوقت صباحًا. نصب ابن عمّي الكبير شِراكًا، بمعاونة جدّي، وعمّي الآخر. أبوه كان قد تُوفّي قبل ذلك في حادث سير، في منطقة الجنوب، الشّهيرة بحوادث السّير الشّنيعة فيها، لسوء التّخطيط، ووفرة الإهمال. الشّراك كان معدًا لاستقبال صيد، لا يمكن صيده كثيرًا.

وقعت الفريسة المنذهلة في الفخّ. كانت قردًا، يتفجّر حيويّة وشبابًا. ما لم يحسبه ناصبو الشّراك: ردّة فعل القرَدة التي تجمهرت بوفرة، كوقفة اعتصام عنيدة، وضراوة القرد الأسير. أمّا ما حسبوه، فلم يكن يغادر إطار المتعة وتخويف القردة، من الاقتراب من كروم الأعناب المشتهرة في الجنوب، ليس أكثر.

حاول القرد التملّص من أنياب فخّه. كانت أنيابه أكثر عجزًا، وأقلّ كفاءة. تبسّم ابن عميّ لعمّي الآخر. شاركهم الجدّ الوقور ذلك. لكن همهمة وحمحمة كانت تحاصر البيت. قريبًا من )40( قردًا أعلنوا أن لن نبرح الأرض، حتى يغادر المأفون الغبيّ هذا معنا. حاولوا تخويفهم بادئ الأمر. يمنة ويسرة، لكنّ الأمر كان أكثر من مساومة، وأقلّ من تخويف.

خافوا حين ذاك على سيّاراتهم المركونة أسفل المنزل. على كروم العنب المعرّشة أن تُستباح جهرة. على نوافذ البيت الزّجاجيّة، وعلى الأطفال ربّما. ثمّة مجموعة قردة غاضبة، لا تفهم لغة تفاوضيّة، تعلن أن لن تبرح الأرض إلاّ برفيقها المعتقل. –وفي الأمر ما فيه، من درس لأوطان كثيرة، عن معنى قيمة الفرد–نقطة واحدة على الفاء- بالنسبة للجماعة الجادّة في الحياة، ولو على هيئة قطيع قرود-.

للمتْعة أيضًا: أتى عمّي بعمامة عربيّة، تليق بملك من هذا الزّمان. وبثوب أبيض وبعناء وضحك، ومراوغات، ألبسوا الأسير الميّت هلعًا تحت رحمة الشّراك وناصبيه. ثوبًا وعمامة. قربت الصّورة كثيرًا، ما كان يفكر فيه داروين، قبل مئتي عام، وما كان ولا يزال ينكره عمّي وابن عمي الآخر، حتى الآن. جدّي كان قد تُوفّي بعد هذا بفترة.

هنا بدأت عقدة الأمر: القرود المعتصمة ازدادت هياجًا، وهي تبحث عن قردها ولا تراه. الرّجال الذين كانوا ثلاثة، ثمّة رابع غريب الشّكل بينهم. لهذا، وحفاظًا على الأمن واستتباب الأمور، ولكي لا تخرج القضيّة عن حدّ المُتْعة، أمر جدّي بإطلاق المعتقل.

استجابا. فكّا وثاقه على مهل. وأمراه بالانصراف. القرد المعتاد على خبْث البشر، لم يصدّق كونه طليقًا، لكنّه ما إن تحرّك قليلاً، حتى رأى نفسه يثب في الهواء، يعبّ أطنان حريّة وأوكسجين. القرود المتجمهرة، فتحت عينيها على وسع اندهاشهما، أيّ رجل هذا القادر على قفزة كهذه. وفي لمح البصر ابتدأ المشهد التالي: (40) قردًا في قطيع يثير الغبار، وبسرعة البرق، متجاوزين البيوت والأشجار والحيطان، صاعدين الجبل القريب من مرأى القرية، وخلفهم معتمّ بثوب أبيض، يكاد يوشك الوصول إليهم إلاّ قليلاً.

الثّلاثة الرّجال لم يتخيّلوا هذا المشهد، ولا الفرجة الماتعة هذه. حسبت القرود أنّ رجلاً سريعًا يلحقها. والقرد المُطلَق إساره، من دهشة لا يتوقّف لحاقًا بقطيعه الهارب أمامه خوف إسار آخر، ويقسم لهم أغلظ الأيمان والإيمان أنّه لا يزال قردًا أصيلاً، ولو اعتمّ كعربيّ. الجبل البعيد، يشهد القطيع الهارب، وفي إثره المسكين المطلق للتّوّ، ولا توقُّف من الاثنين.

سقطا على الأرض ضحكًا. الرجالان المراقبان. لقد سجّلا بحيلة- لم يتوقّعاها- مشهدًا لم تنسه الذّاكرة، ولذا تناقلته العائلة بالحكاية.

أين توقّفت القرود لتتحقّق من هويّة الرّجل الفائق القدرة على المطاردة هذه. ما الذي قدّمه لهم، ليعلن قرديّته. هل قتلته؟ هل تركوه نهب الفيافي البعيدة؟ لا أحد يعرف. ما يذكره الجميع بعد ذاك، أنّ القرية المعتادة على زيارة القرود الهمجيّة كلّ ساعة، لم تشهد القطيع أسبوعًا كاملاً على الأقلّ.

قريبًا من تاريخ هذه القصّة، قبل خمسين عامًا على الأقلّ ربّما، كان جيزري كوزينسكي، الرّوائيّ الأمريكيّ من أصل بولندي، يكتب قصّته الشّهيرة “العصفور المبرقش”. عن أطفال بولونديّين يصطادون العصافير، ويلوّنون ريشها، ثم يطلقون سراحها. حين تعود العصافير إلى حريّتها، تلحق بسربها، فلا تتعرّف عليها العصافير الأخرى، فتهاجمها وتقتلها.

يقول الكاتب الأورغويّ الجميل (كارلوس ليسكانو): من بين قراءاتي في السّجن، بقيت هذه القصّة المفزعة في ذاكرتي. ويعلّق: “إنّه لأمر مفزع، أن تكون مختلفًا”.

هذا ما جرى في عالمين آخرين، من قارّتين مختلفتين، لكن يبدو أنّ النّمط الكائناتيّ، هو هوَ، لا يتغيّر كثيرًا، أكان في الطّيور، أم في القرود، أم في البشر. في شرق أوروبا، أم في جنوب آسيا. أن تكون مختلفًا، باهظ التّكلفة ما يعنيه ذلك. أن تدفع للجهتين: جهة الاختلاف، وجهة ملاحقة القطيع الشّرس. أن تعرّض نفسك للاشتباه في المرايا، والأعين.

ربّما أنّ ما يفارق الصّورتين، صورة القرود الهاربة من رفيق اعتصمت لأجله، وصورة الطّيور القاتلة لأحدها مختلف اللّون، مع صورة البشريّ المختلف، أن يتمّ توعية الإنسان بذلك. أن لا يعتبر الزيّ المخالف، اختلافًا يوجب الإقصاء، ولا اللّون المغاير، جريمة تقتضي القتل. وأن الأصل هو جوهر هذا الإنسان، والبحث بعد ذلك فيما غيّره، أو استوجب به هذه المخالفة “الشّكليّة”. وبهذا وحده يمكن للإنسان، أن لا يكون قردًا هاربًا، ولا طيرًا قاتلاً.

عدد المشاهدات : 610

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.