لا شيوخ بعد اليوم
مدير التحرير
قُـلْ لشيخِك، أن لا يحتكر الدّنيا والآخرة. أن يرحم تسكّعنا عند قدم قصره، ننظر لقِرميده، ولا يسعفنا بصرُنا لحاق نهاية سوره العظيم – غضضْناه حتى ضعُف. هذا الشّيخ متخيّلاً جيّدًا: ربما لا يحتاج دخوله الجنّة سوى رفع قصره بغرفه إليها. ومعلّمًا جيِّدًا في باب: الدّنيا العابرة كداخل من باب غرفة وخارج من أخرى، في سيّاراته الفارهة التي اقتناها لذلك، ومتاع الحياة الدّنيا من ذهب وقناطير ونسوة، فراجع حساباته ومقتنياته التي لا تراها حين يلقي خطبة عليك. بعد الدّنيا أعرف؛ عند باب الجنّة سيهشّنا: كنتم تسمعون الأغاني، وتلبسون البنطال، طريق السّعير من هناك!!
يا شيخ، كنّا نصلّي ونصوم، ولم نعبد إلاّ إيّاه، شريعتكم نفسها، أقول لكِ من هناك، كنتِ متبرّجة وكاسية عارية، النّار مثواكِ!!
هذا الشّيخ لا يبدو أنّه يحبّنا، نغّص حياتنا، وأهلكَنا، انظرْ لتعقيداته ماثلة في آبائنا، وتناقضاته بارزة في أبنائنا، يقف ضدّنا. يا شيخ، نريد حقوقًا، تريدون تغريبًا!! يا شيخ نريد وطنًا، ستصيّروه وثنًا!! يا شيخ، قلْ لواليك إنّنا نريد. يا والي، افتكْ بالخوارج، أرباب الفتنة!! يا شيخ نحبّ الله، نقسم لك. كذَبَة!! إنْ في قلوبكم إلاّ نفاق ما أنتم بمخفيه. يا شيخ، نحن فقراء. اسكُتوا، لا تتشوّه سمعة الدّولة، ابلعوا أنينكم عنا!! يا شيخ، حاولنا تتبّع الحقيقة فحسب. اسكتوا؛ أنتم لا تساوون بصقة شيخنا الأكبر!!
يا شيخ، نضحّي لك بقلب أحدنا، لترى كيف لا يحوي خريطة مؤامرة. لا أريده، للكبائر ظلمة إخالها في وجهه.
قلْ لشيخك، إنّ الكِتاب ليس له، ولا لطلاّبه، وإنّ الرسول لم يُبعث لطائفته، ولا لحكومته، وإنّ الصّحابة حين نشروا الضّياء، لم يربطوا الأسفار على دوابّهم، ونحن الجَهَلَة الذين لا نعرف فقه التّنزيل، وتقعيد التّأويل، وأصول الفقه، الذين لا نفرّق بين السّيوطي والسّخاوي، لا الأوزاعي، ولا الخزاعي، ونسمع بالجويني، ولا نملك معلومة عن ابن عبد الباري، نحن الخوارج المحتملين، العامّة الذين تحدّثونهم بما يحتملون، وطغمة ليست من أهل الحلّ والعقد، نحن نرجو الحقّ ومستحقّاته كما لا تتوقّع.
وحركات إظهار شيء من الدّين، وإهمال سواه، أهمّ منه، صرنا نفهمها يا شيخ، الحمد لله، لم يعد مجديًا ما تَحبِك، ويُحبَك لك، ما تهوّل لأحقاب، يهون في برهة، ما تحذّرنا منه مرعدًا، ما تغضّه عنهم متلطّفًا. أما الذين لا تعنيهم كثيرًا، فانظرْ إليهم، تعليمك الخصوصي في رؤوسهم: يعيش سادرًا، لا دين، دنيا قليلاً، وفي أمرٍ ما، يشهر فتواك بصرامة، بالعناد نفسه، الأعجب يا شيخ، أن يكون الأمر الـ “ما”، غير مصيريّ ولا فتّاك، ولا يخلّ بجناب التّوحيد الواجب، بسيطًا، كـ”امرأة” مثلاً.
قلْ لشيخك، يأخذ نحيبه الذي دوّى في غرفنا، بعد أن لم نره غير ضاحك، وأنّنا سنحرق صوره أينما نجدها، لنخفّف عنه السّؤال عن خلقها يوم القيامة، بعد أن أغرانا بتقطيع صورنا الوحيدة، ونحن صغار، قال لنا: ماذا ستصنعون إذا سُئلتم عن خلقها واضطرمت فيها النّيران وأنتم، فقطّعنا تائبين ملامحنا البريئة، وهي لم تشِ بخطيئة.
قلْ لشيخك، إني سأغدو إلى الدّنيا، وسأنقّب قناتها بحثًا عن الأموال، وسأطرق الأبواب، ما خسّت وما شرفت، لأبحث عن الشّهرة. نحن الذين قرّبنا حذاءك إليك، تبجيلاً، عشيّة وعظتنا شرّ هذه الدّنيا الفانية، التي علّمتنا أنها أحقر من جناح بعوضة، فمرّت الأيام، ملتزمين بموعظة زهده، وفجأتنا بأنّه فارس الدّنيا، شاغل الصّحائف، بما لا يدع له وقتًا ليسمع شكوانا، شاهق القصر، بما لا يسمح لسواعدنا الضّامرة، رشق فنائه الباحة بالأحذية، هذا الشّيخ، التي دُنْيته، أجمل من ذيل طاووس.
قلْ لشيخك، لم تعدْ تغرينا لحيتُك، وأن تجعل ثوبك قصيرًا، لا يذكرنا بلا عبئك، تملك بمظهرك هذه المناصب، والصّدارة، واحترام التديّن، ومسك زمام الأحاديث الطّيبة ببلاغتك، وجلد المخالفة بحافظتك. لا نهجو مظهرك، لكن توقّف عن الشّعور بالفرادة، ولتخفّف تجهّمك، ما بالك، لا حاجة لذلك، لتؤثّر بك الأرزاق الطّيبة، الحيوانات الأليفة في الفناء، النّسوة في الدّار، تصانيف الأخلاق الحسنة على الرّفوف، وما وعد الله الهيّنين اللّيّنين في الآخرة، لتكفّ عن الاستعلاء الذي يخلفه اعتقاد فساد النّاس وغفلتهم. قد يفتح الله على سيجارة ما لا يفتحه على سبحة تدور بالتّمتمة طوال النّهار، ويجيء الخير من مُنتنٍ ما لا يقبل من عود كمبودي، تأتي المساعدة من “ميني كوبر”، ما لا تصنعه “جموس” مجتمعة، وإنّ شعرًا مكدّشًا، قد ينثني في الغيب عن ريبة، مالا تصبر عنها لحية بحجمه، وإنّ رأسًا مغطّى “بكاب”، يفكر لخير الإسلام أعمق مما يظنّ نفسه شماغًا مهدّلاً. واسحب القائمة على تنّورة، وعباءة رأس، وحاجب.
وإنْ رأيت شوهًا في عقولنا، أنّ معلوماتنا قدر حفنة، أنّ سطحيّتنا غير صالحة للمخالطة، فلأننا تعلّمنا في المؤسّسات التي باركتها، في بلاد الكفّار، الذين دعوتنا لجهادهم، فنفضنا دنيانا وهببنا، لبلاد لم نسمع عنها إلاّ من فيك، ذهبنا، ويا للغرابة، مكثتَ أنت، بعضنا قضى هناك، بعضنا مأسور هناك، وهنا، لم تكفّر عن خطيئتك، لم تتذكّر ما صنعت، ساكت كبريء. وأن تكتشف روعة الكفّار هؤلاء فجأة، لا يؤهلك لعقد المقارنات، تخرج منها بسوء أمرنا، أنتَ نفسك، أوهمْتَنا كثيرًا كم كان هذا الغرب غبيًّا.
قلْ لشيخك، أن يكون الشّرع لكلّ الأزمنة والأمكنة، لا يعني أن يكون هو المعنيّ بذلك، يعوم في ما لا يبحره يومًا، يخوض ما لا يملك عدّته، يستريب ويحقّر ما لم يدرك أهميّته، وفوق ذاك؛ لم يأتِ بالفواتح والجدائد فيما يمتهن. مع أنّه يدّعي أنّه نسْل الشّيوخ الأفاضل، أنّهم قدواته، أولئك الجذور والبحور، إذا اطّلعت له على فنّ، لم تظنّ أنّه تفرّغ لغيره، ولا “مكتبة شاملة”، ولا “قوقل” لهم.
هات لي شيخًا لا يقف لتخرق ملابسه، كالشّيرازي، ولم يخرج من بيته، لعريه، كالبخاري، هات لي شيخًا باع الأمراء في السّوق، كابن عبد السّلام، ويطلبه الخلفاء لبغداد، فيرفض، فيأتونه هم في المدينة، كمالك. وإلاّ فهناك أربعون شيخًا شهدوا لخليفة، أن ما عليه يوم القيامة من حساب ولا عقاب.
قلْ لشيخك، إنّي لن أبتسم، ولن أتفاءل، وسأصمّ عينيّ عن دعوات الحياة السّعيدة التي يوزع، وإنّ كثيرًا من السّاربين في حياتهم، حين أمسكوا قلمًا لم يكتبوا سوى السّواد المرّ الواقع. هات لنا سعادة في الأمكنة، والأزمنة التي سدتها، ثم سنضحك إنْ أردنا، وإنّنا حين نضحك فليس نتاج تربيتك، إنّنا نضحك نتاج حياتنا الوحيدة التي لا تعرف، ولن نخطئ مجدّدًا بإقحامك بها.
لا تقلْ له، تعال أنتَ هنا، هل وجدْت شيخك مُدرجًا في سورة الأنبياء؟ جرّبْ أن لا تحبّه، وانظرْ للسّماء، هل تجد كسفًا منها صوبك؟ جرّب أن تنقده، تشتمه بأدب، هل ستتلوّى متسمّمًا، كما حذرونا؟ لحمه لحمنا، على الأقلّ؛ نحن العامّة جميعًا، الأكل من لحمنا، كأكلنا ونحن موتى، ولا جرم، ولا وحشيّة بعد ذلك، أما التّسمّم؛ فما أكثر ما عشنا بعد وجبات مطاعم الحارات المنزوية.
عدد المشاهدات : 721
Tags: شيوخ
شارك مع أصدقائك
Comments are closed.