لا وحشة في قبر رضوى
فاطمة محمد
راضيةً، رحلت رضوى. نافخة روح الحكايات في الحروف لتحيا، ساكبة الماء على بذور الكلام لينبت، موقدةُ شُعلة التفاؤل في ظلام الهزائم. “أنا مُدرّسة، أرى في رسائل التشاؤم فعلاً غير أخلاقي”. رضوى الأمّ، والحبيبة، والكاتبة، والأستاذة الجامعيّة –دكتوراة من ماساتشوستس العريقة في الأدب الأفريقي-، والمناضلة، والباعثة لأمل الحريّة المسلوبة “إنّ كلّ كتاباتي محاولة لاستعادة إرادة منفيّة”، والباحثة عن الحقّ المدفون تحت أحذية الطغاة.
ما كانت حياتها ورديّة، ولم تعش مدللةً رغم كونها فتاة أمها الوحيدة بين إخوتها الذكور، وزهرة قلب “مريد” التي ما اقتلعتها من قلبه رياح الغُربة، ولا سطوة رجال الدولة، وبُعد المسافات. “وأنا أقرأ لك، أتخيّلك وأنت تكتب، أرى وجهك، جلستك، حركة يديك، مكتبك، فأشتاق أكثر”.
على سُلّم المكتبة المركزيّة لجامعة القاهرة زُرعت رضوى في قلب مريدٍ بذرة، ولم تلبث أن نبتت بجذور تلتفّ حول عروقه، وبقيت حبيبةُ الشاعر وزوجته وتميمته وأمّ طفلهما الوحيد “تميم”. “غريب أن أبقى محتفظة بنفس النظرة إلى شخص ما طوال ثلاثين عامًا. أن يمضي الزمن وتمر السنوات وتتبدل المشاهد وتبقى صورته كما قرّت في نفسي في لقاءاتنا الأولى”. كيف هو الحبّ عندها إذًا؟ “لا يمكن أن يكون الحبّ أعمى، فهو الذي يجعلنا نبصر”.
نضال حتى في الحبّ، والتحام برغم كل الأحداث السياسية التي حاولت تفريقهما. طرد “مريد” من مصر في عهد السادات وبقيت هي وطفلها يواجهان الحياة، بينما مريدها يرقبهما من خلف الشاشات في حجرةٍ باردة في قارّة بعيدة. حرارة شوق، تذيب صقيع المنفى.
بقامتها القصيرة وابتسامة لا تشبه إلاها، وضحكتها التي تصل القلب فلا تخرج منه، وتضلّ “تعود وتعود”، كانت تواجه هذه الدنيا المأساة. تصنع من أحزانها أشرعة تواجه فيها ريح المصاعب. وتمضي بخطوتها الأولى (الطريقُ إلى الخيمة الأخرى) –كتابها النقدي عن “غسّان كنفاني”- في درب القضية، ما زلّت ولا انحنت، ما تأخرت ولا استكانت.
أتخيل، لو كانت رضوى عاشور، ساكنة بمدينتي “جدة”، لما اختارت لبيتها عنوانًا، أفضل من المكان الذي تقع عليه السفارة الأمريكية. حيث يتقاطع الشارعان المفضيان إلى البحر: طريق الأندلس، وشارع فلسطين. وحيث تقاطع الجرح الدائم، المكتظ بالسيارات والخسارات، وحيث عاشت وكتبت وحكت وأمضت عمرها رضوى، راضية بالقضية. رضوى التي رحلت، دون أن تسكن جدة، ودون أن “ترى رام الله”. “لن تقف رضوى أمام السفارة الإسرائيلية في القاهرة لطلب تأشيرة أبداً، لقد قررت وانتهى الأمر”. هكذا قال مريد مرة، بعد كل هذا الغياب.
رضوى، كاسمها، ترفض التشاؤم بكلّ أشكاله وصوره، رغم أنها تؤمن في قرارة نفسها أنّ التغيير صعب، وأنّ حياةً واحدةً لا تكفي لنصل إلى ما نطمح “إنني من حزب النمل، من حزب قشّة الغريق، أتشبثُ بها ولا أفلتها أبدًا من يدي”، ومتسائلة: “ما الخطأ في أن يتعلّق الغريق بلوح خشب أو عود أو قشة؟ ما الجرم في أن يصنع لنفسه قنديلاً مزججًا، و ملوناً لكي يتحمل عتمة ألوانه؟”.
تصف نفسها فتقول: “رضوى بالتكوين والوراثة فيها هشاشة، قلِقة، تُثقلها المحاوف ووطأة مجريات الحياة. مُصابة على ما أظنّ باكتئابٍ من نوعٍ ما. اكتئاب مزمن لا تأخذه مأخذ الجد ما دامت قادرة على مغالبته أو تجاهله. تستيقظُ في الصباح مرهقة كأنها في نهاية يومٍ مضنٍ. تظنّ أنها غير قادرة على مغادرة الفراش والذهاب إلى عملها، ولكنّها في نهاية المطاف تقوم، وتستعد للخروج إلى العمل، وتخرج. تذهب إلى الجامعة، تدرّس، تحتفي بطلابها وزملائها، تبدو مشرقةً ومُقبلة”.
أجمل ما يميّز رضوى بساطتها وعفويتها في الكلام وفي ردّات الفعل، بل حتي في العادات اليوميّة، فالأستاذة الجامعية والأديبة العربية كانت تضحك وهي تخبرنا أنها تحبّ أن تركل أيّ حجرٍ يصادفها في الطريق. كانت تحبّ الحياة رغم كلّ متاعبها، وبالعاميّة المصرية مرّة حكت ما قالته لابنة أخيها: “الحياة واسعة وضيقة. لما نكون فيها نزرع ونقلع ونربي ونكبّر ونشيل ونحط ونروح ونرجع ونطلع وننزل ونحب ونكره ونحمل الهم وننتظر الفرج، تكون واسعة. ولأنا فيها عن يميننا ناس وشمالنا ناس وفوقنا وتحتنا ناس، الكل مهموم أو فرحان والكل فيها .. تبقى واسعة. ولو وقفنا بعيد، نقول ضيقة مثل خرم الأبرة ، ونقول ايه يعنى نعيش عشان نموت، ونبنى والبنا نهايته هدد، ونعمر والريح تاخد، ونكبّر ونفتح كفوفنا نلاقيها فاضية. أنا باقول لما نعيشها نشوفها واسعة حتى لو ضاقت، ولما نفكر فيها من بعيد نشوفها ضيقة وخانقة وبلا معنى ولا لزوم. كبيرة وضيقة يا بنت أخويا”.
آخر ما كتبته رضوى مذكراتها التي أسمتها (أثقل من رضوى)، والحقيقة أن لا شيء أثقل من رضوى سوى رضوى نفسها وما تكتبه، وما تحمله من همّ في ثنايا قلبها المتعب. المرأة القضية، سخّرت حرفها بهمّة، لهمّ خالد، حين انشغل غيرها بمعرفة الألوان التي تليق، وبكتابة ذاكرة الجسد الفاني، على السرر العابرة. أنجزت (ثلاثية غرناطة)، لتستعيد الأندلس، و(الطنطوريّة) لتوثّق احتلال فلسطين. بل حتى وهي تكتب مذكراتها، كانت المقاومة الفلسطينية حاضرة بين ثنايا الحروف والسطور، ثم جاءت “الثورة” المصريّة، بالتزامن مع فترة تلقيها العلاج في الولايات المتحدة الأميركيّة، ليكون أول ما تسأل عنه المرأة التي تملأ الرقع الملونة أجزاءًا من جسدها، وتترك مشارط الجرّاحين آثارًا على أجزاءه الأخرى: “ايه الأخبار يا تميم؟”.
آخر هذا العام، وفي المساء الأخير من شهر نوفمبر، في برودة صقيع هذا العالم، انكسر إطار الحياة، ليعبر الموت، حاملًا معه الجسد الذي أنهكه المرض، وتوالي القضايا، ومبعدًا إياه عن “مُريد”، اعتاد فقد الأوطان:
وهوى الفراق..
كشُرفةٍ سقطت بكلّ زهورها..
وكأنها زمنٌ تكسّر في المكان..
لابدّ من يومٍ كهذا..
كي نرى في كلّ فلسفةٍ غياب كمالها..
وهنا يزوغ يقيننا والشكّ، أو يتثبّتان..
“الأموات يحتاجوننا كما نحتاجهم، إن لم نوافهم بالسؤال يثقلهم الحزن و تركبهم الوحشـة”
رحلت رضوى، تاركة ظلّها “الملتزم” مُعلّقًا على جدران قلوبنا، وحروفها “القضية”، قناديلَ في عتمات الطرق. ظلّها الأحيا من حقيقة، والنامي كشجرة ثابتة، مستذكرين دائمًا، وفي كلّ درب لوّح العجز لنا فيه “أنّ الحكايات التي تنتهي، لا تنتهي، ما دامت قابلة لأن تُروى”.
عدد المشاهدات : 1475
Tags: أدب, الأندلس, رحيل, رضوى عاشور, فلسطين, كتابة, مريد البرغوثي, نضال
شارك مع أصدقائك
One Comment
Pingback: النشرة الأسبوعية الثالثة | ثرَاء