لستُ بقارئة

لستُ بقارئة

سارة عبدالعزيز

إذًا، تود أن تكون قارئًا؟ دعني أتحدث كقارئة -مجازًا وربما مزاجًا- وبإمكاني أن أُسدي إليك بعض النصائح التي يجب عليك اتباعها. ستحتاج في البَدء إلى ابتياعِ كمٍ كبيرٍ من الشموع، وأقراصٍ مدمجة لموسيقى موزارت وبيتهوڤن، أم كلثوم وعبدالحليم؟ ربما، المهم ألّا تستمع لشخصٍ لم يَمُت بعد. اذهب إلى المكتبة، لا تخش المجلدات الضخمة، لن تكون بحاجةٍ لقراءتها، ابحث عن الكتب القصيرة الصغيرة، تلك التي يُمكنك إنهاؤها بسرعة؛ لتتمكن من مراكمة قائمة قراءاتك الرفيعة في القودريدز، ابحث عن العناوين الصعبة، عن الكلمات التي لا تُفهم؛ لأن ذلك سيجعلك تبدو جيدًا عندما يسألك أحد أصدقائك عن اسم آخر كتابٍ قرأته. الآن عُد إلى المنزل، لا تبتدئ القراءة، انتظر غروب الشمس، أعِدّ لنفسك كوبًا من القهوة، داكنة لا حليب فيها، إذ أن أي قهوةٍ تجيء مخالفة لذلك، تعد غير لائقة بقارئ، أشعِل شموعك، وابتدئ القراءة، دوِّن كل الجمل القابلة للاقتباس والالتباس، لتتمكن من الاستعانة بها في حواراتك اليومية، وكلما سُئلت عن شَيْءٍ تجهله، تصفّح الويكپيديا، المعلومة القصيرة و إن كانت خاطئة خَيْرٌ و أحفظُ لماء الوجه من الإقرار بجهلك، والأهم من ذلك كله، آمِن إِيمَانًا مطلقًا بأن الكتب، المصدر الوحيد للمعلومة، والقابل للقراءة.

انتظر لحظة، هل كانت النصيحة الأخيرة صحيحة؟ أَوفعلُ القراءة ضيقٌ حدّ أن يُحصر ما بين دفّات الكتب؟ ماذا عن أفعال القراءة اليومية التي نقوم بها دون وجودالكتب؟ أوَلا نقرأ نحن تصرفات مَن حولنا؟ أوَلا نحللها و نؤولها؟ هل نحن بحاجةٍ حقًّا لأن نكون مبصرين لنقرأ؟ إن رائحة عطر والدة، تحفظه عن ظهر قلبٍ: قراءة، لثغة طفلٍ تتفتح على لسانه براعم الكلمات الأولى: قراءة، عبير وردة تتأمل الشمسَ، قراءة. والعالم صفحةٌ مكتوبةٌ بلغة برايل، وكل ما تلمسه فيها بيديك من الموجودات قراءة. النظر قراءة، السمع قراءة، الشمّ قراءة، اللمس قراءة، الإحساس قراءة، وأي حصرٍ لها على حاسةٍ واحدة يضيّق بحر المعاني التي كان بالإمكان أن نقرأها.

القراءة المفتوحة، حوار مع العالم والاشياء والآخرين. والكتب أيضًا، حوار. اسم الكاتب المنقوش على غلاف الكتاب يحاورنا على امتداد الصفحات، يفيض علينا بأفكاره ومعتقداته، تماماً كما الحوارات العادية، ولكن الفارق الوحيد هو أننا نملك في الحوارات العادية حق أن نُجيب، أن نملك رد فعلٍ ما، في حين أن الكتب تطالبنا بأن نُنصت، دون أن نُجيب. و الحال كذلك فإن نتيجة الحوارات العادية تتمثل في اختلاط الأفكار وتزاوجها، بينما حوار الكتب وحالة انعدام رد الفعل التي تُحتِّم علينا الاستسلام أمام غريبٍ، شاءت الاقدار أن يكون كاتبًا، ونكون قُرّاءً، فأيّ نتيجة يمكن أن تُجنى منها؟

أو ربما.. ربما نحن نملك حق أن يكون لنا رد الفعل الخاص بِنَا، قد يكون الحوار تامًّا، لكن في رؤوسنا فقط. قد يكون الأمر أعقد مما نظن، لكل سطرٍ رد الفعل الخاص به في أذهاننا، لكل جملةٍ إجابة، ولكننا لا ننطق بها، وإنما تتراكم في رؤوسنا، إجابة فوق إجابة، تنتظر فرصةً سانحةً لتظهر، قد تظهر عبر تصرفٍ ما، عبر حوارٍ أو نصٍ أو حتى إيمانٍ ومُعتقد. تجيء لتقول بأنها هُنَا، بأن للقراءة نتيجةً متحققة، لا يمكن حصرها في شيءٍمُحدد، وإنما هي الشخص بأكمله. إذ كلّما قرأنا، تغيرنا.

وإذ قديمًا، سطّر حكيم يوناني، لن أذكر اسمه، حتى لا أقع في فخ التباهي باقتباس ما، حكمته التي تقول: أنت لا تستحم في ماء النهر مرتين، فإنني أقول، وكاقتباس من حضرة أنَاي القارئة هذه المرة، “أنت لا تقرأ نفس الكتاب مرتين”. إذ كل قراءة، هي اكتشافٌ آخر، ولو تمت في نفس الصفحة، أو نفس السياق أو الكتاب.

على أية حال، ما بعد القراءة، هاك عنواني الصعب أقدمه لك لتدسّه في كومة العناوين التي تُظهرك على صورة ثقافية أكبر مما أنت عليها ، هاك نصي، قصيرٌ بما فيه الكفاية لتُنصت إليه دونما تثاؤب، طويلٌ بما فيه الكفاية لتقتبس منه ما يكفي لتبدو جيدًا في حوار الغد. و هذه أم كلثوم، المتوفاة قبل ما يقارب الأربعين سنة، تغني لك: “وأهي غلطة .. ومُش حتعود”.

 

_____________________
* النصّ الفائز بجائزة قارئ العام، لمسابقة “أقرأ”، التابعة لبرنامج إثراء – شركة أرامكو، لعام 2016م.

عدد المشاهدات : 1559

 
 

شارك مع أصدقائك

One Comment