لقاء مع بيتر هاندكه

مدير التحرير

لا أعرف بأيّ معجزة رضخ الكاتب النمساوي بيتر هاندكِه لإصراري على محاورته، فوافق على محاولتي الثالثة للقائه بعدما كان رفض محاولتي الأولى وتجاهل الثانية. وعندما اتصلت به على الرقم الذي دوّنه لي في رسالته، وأخبرته عن سفري إلى باريس بعد أيام، قال بصوته الخافت المتلعثم وبنبرته المتقطّعة التيليغرافية: “لنلتق إذًا يوم الأربعاء في منزلي. خذي الـ RER C من السان ميشال. البيت على بُعد أمتار من المحطة. تعالي عند الواحدة ظهرًا. سوف نتناول الغداء معًا”. وهكذا صار.

كان يومًا باريسيًا ماطرًا، وعندما وصلتُ أخيرًا إلى الضاحية التي يقيم فيها هاندكِه بعد مشوار طويل قضيته واقفة في القطار خوفًا من أن أفوّت المحطة، شعرتُ بأنّي انتقلتُ إلى زمن آخر. مشيت في الشارع الهادئ على وحشة، ولم أكن في حاجة إلى أن أقرأ الرقم على الجدار لكي أعرف أني بلغتُ مقصدي. فكل شيء في المكان كان يصرخ: هذا بيته! هذا بيته! من الممر المعتم الطويل الذي يعزل المنزل المختبئ عن الطريق الرئيسية، إلى أوراق الشجر الصفراء المكوّمة بإهمال لذيذ على الأرض، مرورًا بالصمت المهيب السائد في المكان، وصولاً إلى البوابة الخشبية العتيقة والعالية التي كأنها تقول للناس: ابتعدوا! نقرتُ الجرس مرّة، ثم مرّة أخرى بعد دقائق، فانفتحت البوابة واستقبلني رجل طويل القامة هزيلها بابتسامة مرتبكة. ما أن عبرنا الساحة ودخلنا البيت الفسيح ولكن المتقشّف الذي يقيم فيه الكاتب بتقطّع منذ عام 1991، حتى قال لي: “آمل أنكِ تحبّين الفطر”. ولحسن الحظ أنّي أحبّه فعلاً، إذ كان طعام الغداء، الذي حضّره بنفسه، قائمًا على أطباق متنوعة من الفطر المقلي والمشوي والمتبّل مع السلطة وغيرها من البدائل، وهو فطر يقوم بقطفه من الغابة المجاورة كل صباح. 

بيتر هاندكِه كائن برّي، منعزل، صموت، غريب. اضطرابه وتوتّره وحيرته تكاد تكون مؤثرة. روحه تشيع مرارة طاعنة، وهو يتكلم همسًا، بجمل قصيرة وذات إيقاع. “لن نتطرّق إلى السياسة، أليس كذلك؟”، بادرني ونحن نأكل، فقلتُ له: “هل تحاول أن تتغداني قبل أن أتعشّاك؟”، مترجمةً مثلنا اللبناني الشهير. فهم المثل، وشرح لي أن ثمّة حكمة مشابهة بعض الشيء في بلاده. ولد هاندكِه في غريفن، في كنف عائلة متواضعة من المزارعين النمساويين. أمّه سلوفانية ووالده مجهول، فربّاه زوج أمه الذي كان سكّيرًا. بدأ الكتابة في سن السادسة عشرة، وعندما وافقت دار “سوركامب” على نشر روايته الأولى عام 1965، في عنوان “الدبابير”، تخلّى عن دراسته الحقوق وكرّس مذّاك كل وقته للكتابة.

وقد “أحترف” الكاتب المواقف المتطرفة والجدلية والصدامية، وأشتهر منذ عام 1966، بسبب هجوماته على مبادئ مجموعة 47 التي كانت تضم أسماء بارزة على غرار غونتر غراس وهاينريش بول، وكانت تهيمن على البانوراما الأدبية الألمانية في تلك المرحلة.  يسجّـل بيتر هاندكِه اليوم موقف قطيعة شبه نهائية مع الحياة العلـنية، ولذلك كان رقمًا صعبًا بين الحوارات التي أتوق إلى تحقيقها. وهو منعزل وممتنع عن الكلام خصوصًا، رغبة منه في وضع حدّ لسيل الإنتقادات التي يتعرض لها باستمرار مع كل إطلالة وحوار وتصريح، وفي قطع الطريق أمام جميع الذين يهاجمونه وليسوا قلّة. وقد تكون أشرس حملة شُـنّت عليه تلك التي أثارها دعمه نظام ميلوسفيتـش، خصوصًا بعدما أصدر كتابه “العدالة لصربيا”. دعمٌ رسّخه هاندكِه أيضًا في كتابه “عالم إجرامي وقح”، حيث أغار بعنف على الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي والغرب برمته لمهاجمتهم صربيا واجتياحهم لها، قائلاً إنهم يخترعون بذلك “أوشفيتز” جديدة. وهو أيضًا دعمُ أستحق عليه وسامًا من رتبة الفرسان الصرب أثناء زيارة قام بها إلى بلغراد عام 1999. ولم يتردد يومذاك في الخروج من الكنسية الكاثوليكية بسبب موقفها من الصراع.

لهذه الأسباب وغيرها أطلق الفيلسوف السلوفيني سلافوي زيزك، والروائي الصربي بورا كوسيتش لقب “الوحش” على هاندكِه، في حين أنتقده بيتر شنايدر على “تحيّزه المهين”، واتهمه الفيلسوف أندره غلوكسمان بـنفي التطهير العرقي الصربي. إلا أن هاندكِه لم يعر هذه الإتهامات أيّ أهمية، وهو الذي يظهر، منذ بدايات مسيرته اللامعة كروائي وشاعر وكاتب مسرحي، ميلاً واضحًا إلى الإستفزاز والتحدي، وقد كتب: “أنا كما أنا. فكّروا كما شئتم. وكلما ظننتم أنكم أصبحتم أكثر قدرة على الحديث عنّي، ازدادت حرّيتي إزاءكم”. ولكن مما لا شك فيه أن هذه المسألة أنعكست سلبًا عليه في الأوساط الأدبية، فبات كالمنبوذ إلى حدٍّ ما، كما أثّر الأمر في رواج كتبه، وكُثر هم الذين أقسموا، بعدما سمعوا تعليقاته على الحرب في يوغوسلافيا، بألاّ يقرأوا له كتابًا واحدًا بعد ذلك اليوم.

أخبرني بيتر هاندكِه عن رغبته في زيارة لبنان وسوريا ولكن في شكل غير رسمي، وأن يركب الباصات كأيّ مواطن عادي ويتجول مع حقيبة على ظهره. “كيف النقليات العامة في بلادكم؟”. فضّلتُ أن أمغمغ الجواب كي لا أحبط عزيمته. أخبرني أيضًا أنه يتعلم العربية بمفرده منذ خمسة أعوام، ودلّني على كتاب يقرأه لإبن العربي. “أقرأ كل يوم جملتين أو ثلاث وأتأمل فيها طويلاً”. هذا رجل قلق ويوحي بالهشاشة. فيه الطفل المذعور بقدر ما فيه الثعلب الحذر. خسر هاندكِه والدته ماريا عام 1971، إذ انتحرت هذه تاركة وراءها رسالة تقول فيها إنه بات من غير المعقول لها أن تستمر في العيش، وقد خلّف هذا الإنتحار في روحه جرحًا دائم النزف. سألني أيّ كتبه أحبُّ على قلبي، وعندما أجبته بأنه: “الأسى اللامبالي”، الذي يروي فيه قصّة انتحار والدته، حزن وقال: “لا، هذا كتاب كئيب جدًا. لا أريده أن يكون هو كتابكِ المفضل”.

ثم تحدثنا عن عمله الأخير، “دون جوان”، الذي صدر للتَو بالألمانية، وأخبرني كيف ولدت فكرته. كان هاندكِه على ما يبدو يتنزه وحيدًا في الغابة على عادته، عندما فاجأه مشهد ثنائي يمارس الحبّ بين الأشجار. آنذاك جمد في مكانه وشعر بأنه “ملزم” البقاء والمشاهدة، وهكذا كان. ظلّ واقفًا كالمتلصص حتى اللحظة الأخيرة من دون أن ينتبه العاشقان إلى وجوده، ومن هنا لمعت شرارة “دون جوان”. البعض يرى كتابة هاندكِه عبقرية، وآخرون يعتبرونها هرمسية وملتصقة أكثر من اللازم بتجربته الحميمة. ولكن مما لا شك فيه أنها مربكة، مثله، ومثل واقعه اللازمني الذي لا يمكن القبض عليه. وأنها تزداد غريزية عملاً وراء عمل. 

على مرّ مؤلفاته الكثيرة، وهي تنوّعت بين الرواية والشعر و النقد والمحاولة والريبورتاج والسيناريو، نال بيتر هاندكِه عددًا كبيرًا من الجوائز الأدبية المهمة النمساوية والألمانية. من أعماله نذكر: “فقدان الصورة” و”سنتي في خليج لا أحد” و”الساعة التي لم يكن الواحد منّا يعرف شيئًا عن الآخر” و”الغياب” و”فن السؤال” و”الريح والبحر” و”أقيم في برج عاجي” و”قلق حارس المرمى لحظة البينالتي” و”العودة البطيئة” و”ثقل العالم” و”المرأة العسراء”. عندما أعطيته نسختين من “المرأة العسراء” بالعربية ليوقّعهما لي، طلب الإحتفاظ بواحدة، وكتب على الثانية إهداء إلى مترجمته البارعة ماري طوق. “هل ستعرّفينني إليها عندما أجيء بيروت؟”. “طبعًا”.

“أضروري أن نجري الحوار؟”: هذا السؤال كان يتكرر كلازمة على لسان هاندكِه طوال الغداء، فأخبرته كم أنه من النادر في أيامنا أن يموّل جهاز إعلامي رحلة كهذه لغاية ثقافية، وأنه لا يعقل أن أعود خالية الوفاض. حتى أثناء الحوار، لم ينفك يسألني: “هل انتهينا؟”. أمام تقاعس هذا الرجل الستّيني المتذمّر والمزاجي، والممازح بخفر، أحسستُ كأنّي أمّ تحثّ ابنها على إنهاء واجباته، أو كطبيبة أسنان تثير الذعر في نفسه. فقلتُ له ذلك.

* كلما اقتربتْ يدي من جهاز التسجيل شعرتُ بأنّي جرّاحة تسنّن أدواتها أمام عينيك لفرط اضطرابكَ وتبدّل ملامحك. 

– أعذريني لكنّي لا أحب إجراء المقابلات. الأسئلة توتّرني.

* كان عليّ إذا أن أجلب البنج معي.

– لا، لا، إذ كنتُ ربما لأقول تحت تأثيره أشياء خطيرة.

* سوف تقول أشياء خطيرة بلا بنج. كفانا دورانًا حول الموضوع، ولنبدأ. هل أنت مستعد؟

– لا.

*- أعدكَ بأن العملية لن تكون مؤلمة.

ضحك هاندكه، فاستغللتُ بارقة استرخائه و أطلقتُّ لمبضعي العنان.

***

*قرأنا لك في الشعر والرواية والمسرح والريبورتاج: إلى أيّ عالم تشعر بأنك تنتمي أكثر من سواه، ولماذا؟

– في هذه المرحلة من حياتي أنتمي انتماءً صاعقًا ومطلقًا إلى الرواية لأنها الأكثر تلاؤمًا مع تـنفّسي وإيقاعي. إلا أنّي لم أتخلّ عن الشعر. الشعر هو لحظة ألم، وعندي من تلك الكثير، ولكن عليّ أن أنتظر. أن أنتظر المزيد من الجروح. أعني جروح الفرح أيضًا. ثمّة أمور تنقصني لكي أكتب الشعر. لكي أستحق أن أكتب الشعر. أن يدوسني الزمن أكثر مثلاً. يجب أن أمام الشعر، وأنا لا أريد أن أستعجله كي لا يجفل منّي. لذلك أنتظر.. و أنتظر.

*حدّثني عن جروح الفرح هذه.

هي جروح يجب ألاّ نستهين بها. الناس يركّزون دومًا على أوجاع الحزن، ولا ينتبهون، أو ربما هم لا يريدون أن ينتبهوا، إلى أن للسعادة أوجاعها المبرحة أيضًا. أنا لا أستطيع أن أفرح من دون أن يخدشني الفرح بشراسة. الفرح شعور عدائي، ربما حتى أكثر من الحزن لأنّي نفسيًا وفيزيولوجيًا أكثر انسجامًا مع الثاني. أستغرب نفسي خفيفًا. 

 

*لا تبدو لي رجلاً غالب الفرح في أي حال…

– لا، هذا صحيح، فأنا نادرًا ما أفرح. وربما ليس فرحًا بالمعنى المتعارف عليه. لكني أحسّ آنذاك بأنَّني منهوب من حقيقتي.

*في الحديث عن أعمال النهب، السينمائي فيم فندرز حوّل عددًا من رواياتك، أفلامًا. ما موقفك إزاء تبنّي أبٍ آخر لأبنائك؟ هل تشعر هناك أيضًا بأنك “منهوب” في مكانٍ ما، رغم موافقتك على عملية التبنّي؟

– أحيانًا يُحرّرني هذا التبنّي من عبوديتي لكتابي. المخرج يرى الأمور على نحو مختلف تمامًا عن الكاتب. ثم إن فيم فندرز لديه إحساس هائل بالفضاء والإيقاع والموسيقى، وقد منح أعمالي بعدًا وأفقًا جديدين في غاية الجمال. أصلاً كتابي ليس ملكي. إن مجرد اتخاذ قرار الكتابة هو تنازل عن ملكيتنا لأفكارنا، إذ أننا نشرّعها آنذاك للعامة. لذلك أعتبر أن أحد كتب كافكا مثلاً قد يكون لي أكثر من كتابي الخاص. أنا أغتني برحلة الآخر ورؤاه. كما أن الموسيقى التي يختارها فندرز غالبًا ما تتناسب مع موسيقاي الداخلية التي أسمعها أثناء الكتابة. قبلاً كنت أستمع إلى الموسيقى فعليًا عندما أجلس لأكتب. اليوم لم أعد أطيق أن ترافقني أيّ موسيقى. 

*وماذا عن حفيف الأوراق في بستانك الذي نسمعه الآن؟

– باستثناء حفيف الأوراق في بستاني، أحسنتِ. تلك هي موسيقاي المفضلة اليوم. هي التي تنسجم أكثر ما تنسجم مع رغبتي الهامسة في الكتابة.

*قلتَ يوما إنّ الرغبة وحدها لا تكفي لكي نكتب، يجب أن يُضاف إليها الأسى…

– أجل، الأسى أو الإلحاحية. أعني شعورنا المأسوي بمشكلات العالم. إذا تضافرت طاقة الأسى العظيمة مع رغبة الكتابة، آنذاك تولد الشرارة وتحدث المعجزة. أشعر دائمًا عندما أكتب بأنَّني في رحلة استكشافية، بأنَّني أسير على طريق ما نحو المجهول. وأحاول أثناء مسيري استغلال الصور التي أراها، والتي لمستني بعمق. تلك الصور الداخلية، الرائعة، شبه الصوفية التي تأتي إليّ عندما لا أكون أتوقعها. 

*أمن تلك الصور تولد الإلحاحية التي تتكلّم عنها؟ 

– بالضبط. فهي محرّض لجوج يحثني على الكتابة، على المضي قدمًا في الرحلة. كما قلت، الرغبة وحدها لا تكفي. يجب أن نشعر بأنه من الملح أن نكتب. إنها في رأيي طريقة أخرى في عيش الحياة وفي الصمود أمام عوائقها. لستُ أعني تجاربها الصعبة فحسب، بل يوتوبياتها أيضًا، أيّ تلك اللحظات التي تكمن فيها نشوة مطلقة بسبب شيء عشناه أو أختبرناه. إنها رسالة في البحر يجب أن نوصلها إلى الشاطئ. تلك مهمتنا ومسؤوليتنا.

*رسالتنا، مهمتنا، مسؤوليتنا: أنتَ تفاجئني. لطالما ظننتُ وأنا أقرأك أنكَ من أشدّ المدافعين عن مجانية فعل الكتابة…

– نعم ولكن ذلك أمرٌ يصعب تحقيقه. كل رواية جيدة يجب أن تتضمّن عددًا كبيرًا من المقاطع التي لا يحدث فيها شيء، ولكن ينبغي لهذا اللاشيء أن يبثّ طاقة تمرّ من الكلمات إلى القارئ: أكرّر، كأنها تجربة صوفية. مهم جدًا هذا الفراغ. أعني الفراغ المشحون بالطاقة. بسبب طاقة الفراغ هذه نقوم ونهمّ بالسير في طريق الكتابة، ونلتزم تلك الطريق من دون أن نعرف الهدف. وعدم معرفتنا هدف الرحلة هو أقصى درجات المجانية. 

*تتحدث عن الإلتزام ثم عن المجانية!

– أعرف، يشكّل ذلك تناقضًا، لكنّ الكاتب ملتزم، ملتزم شيئًا لا يمكننا تحديده، ولا يمكنه إنقاذنا. الأمر هو في آنٍ واحد في غاية الإبتذال أو العاديّة، وفي غاية التعقيد. إنَّنا ملتزمون مثلاً: مشهد طفل يركض على الطريق، أو امرأة عجوز تخرج من بيتها تحت المطر للقيام بمشترياتها: نراقب تلك العجوز ونفكّر بأنها ربما تخرج من بيتها للمرة الأخيرة في حياتها، فنشغف بها وبفكرتها حتى نكاد نرتجف من فرط الشغف، وهذا الشغف هو ما يدفعنا إلى بدء المسير. نقول: هذه هي. إن الأمر يشبه نوعًا من التعبّد. ليس ديانةً، ولكن ربما هو ديانة في الوقت ذاته: لنسمّها ديانة الطريق. ونحن ملتزمون هذه الطريق، وملتزمون صورها التي تلامس روحنا وتؤثر فينا وتوقظنا وتقيّدنا وتهزّنا. لستُ أزعم أن تلك أيديولوجيا خاصة بي، لكنها قناعات تدفعني رغم كل شيء إلى “المشي”. 

*وفي ديانة الطريق هذه، هل المشي مرادف لرواية حكاية من حكايات العالم؟

– إن التخييل، وقصّ حدث أو حكاية ما بغية جعلهما ناقلاً يهدف إلى رواية تجربة من تجارب الحياة أو إلى إعطاء درس فيها، باتا مراسا بلا جدوى في رأيي. لا بل إن تطوّر الأدب لا يمكن أن يحدث إلّا من خلال تطهيره تدريجًا من كل عناصر السرد الزائدة التي لا نفع منها. فأنا ككاتب لا يهمني أن أبرز الواقع أو أن أتحدث عنه أو أن أقبض عليه، بل ما يهمّني هو أن أبرز واقعي أنا. 

*ولكن أليس في هذا انكماش على الأنا ورفض لواقع الآخر؟

– ربما، وكثرٌ من أصحاب العقول المعيارية يهاجمون أولئك الذين يرفضون مثلي أن يرووا قصّة بمعنى الرواية التقليدي، ويبحثون بدلاً من ذلك عن أساليب جديدة لوصف العالم ولإختباره. إنهم ينتقدون أولئك الذين يجرون تجارب على اللغة نتيجة شغفهم بها، فيتهمونهم بأنهم شكلانيون و”جماليون”. هذا هراء. لِـمَ يكون الأدب فقط معادلاً للإقتراب الأقصى من اليومي؟ لِـمَ لا يكون أيضًا إعادة اختراع لواقعنا الخاص، الفردي، الشخصي، الحلمي، مترافقًا مع دفع اللغة إلى السموّ فوق اليومي والمبتذل؟ 

*ولكن أنتَ من تحدّثت للتَو عن الطفل الذي يركض في الشارع، والمرأة العجوز التي تخرج من بيتها تحت المطر…

– صحيح، لكنّي قلت أيضًا إنهما حافزان للإنطلاق في الدربّ. أيّ أنهما ليسا القصّة في ذاتها بل دافعها. هما أوّل المطر. الأدب يتخطاهما، وليس هذا ابتعادًا عن الواقع، كما يدّعي المعارضون، بل على العكس من ذلك هو كتابة للواقع المحلوم، أيّ الأقرب إلى حقيقتنا.

*لا عجب في ما تقول فقد وصفت نفسك يومًا بأنك تقيم في برج عاجي…

– ليكنْ. “المحبّون” قالوا عنّي ذلك، وأنا وافقت. لكنّ برجي العاجي أكثر اقترابًا من حقيقة العالم وجوهره، من لغتهم العادية. ثم أنا أشعر بأنّني إذ أكتب، أكتب كقارئ.

*ماذا تعني؟

– أعني أنَّني أفكّر كقارئ عندما أكتب. القارئ الذي فيّ لا يريد أن يجد في ما يقرأه نسخة طبق الأصل عمّا يحياه في حياته. الإخلاص للواقع في الأدب قلبًا وقالبًا ليس فضيلة. القارئ يرغب على ما أعتقد أن يحلّق، أن يستكشف آفاقًا أخرى، إن على مستوى المضمون أو اللغة. لا أستطيع أن أحدّد لكِ ذلك بصياغة واضحة وماتيماتيكية، لأنّي عاجز عن إيجاد أشكال دقيقة ومبلورة لكتابتي أستطيع تأطيرها داخلها. غالبًا ما أقول إنّي عاجز حتى عن إيجاد شكل لحياتي نفسها، ومن النفاق في رأيي أن نتوق إلى تناغم ما بين أشكال الحياة وأشكال الكتابة. ولهذا السبب ربما أتوانى عن إطلاق أحكام أدبية نهائية وصارمة، لأنَّني عاجز عن العيش بناء على مفاهيم صلبة عمومًا، وعاجز عن الكتابة بناء على هذه خصوصًا. 

*وفق أيّ منطق وطريقة تكتب إذًا؟

– قد يفاجئكِ أن أقول إن الطريقة هي أوّل وأكثر ما يهمني. إذ أنَّني لا أسعى إلى أن أخلق أدبًا بلا طريقة، انطلاقًا من الحياة، بل أن أخلق الطرائق في ذاتها. الحياة هي أفضل من يكتب القصص، ومن المؤسف أنها لا تستطيع أن تكتب. أما أنا فليس عندي موضوعات أثيرة عديدة في كتابتي، بل موضوع واحد فحسب: وهو أن أرى ذاتي بوضوح أشدّ، أن أعرف نفسي أكثر- أو ألا أعرفها، والأمر سيّان-، أن أكتشف ما أقوم به خطأ وما أفكّر فيه خطأ وما يخطر لي بلا تفكير وما أقوله بلا تفكير، أيّ ما أقوله أوتوماتيكيًا، وأن أتعلّم أيضًا ما الذي يفكّره ويقوله ويقوم به آخرون بلا تفكير. موضوعي الجوهري هو إذًا أن أصبح من خلال رحلة الكتابة أكثر وعيًا  وانتباهًا وتبصّرًا، وأن أجعل آخرين كذلك أكثر وعيًا وانتباهًا وتبصّرًا، لكي نتمكّن أنا وسواي من أن نكون قيد الوجود على نحو أكثر دقّة وحساسية، ولكي أتفاهم أكثر مع الآخرين وأقيم معهم علاقات أفضل على مرّ الزمن.

*بما أنك أتيت على ذكر الزمن، لكتابتك علاقة خاصة مع البعد الزمني لأنها تبدو معلّقة، ومتحرّرة منه. فكيف تشعر أنت بمرور الوقت؟ لا أخاطب هنا الكاتب فحسب، بل الرجل أيضًا.

– الزمن في الأدب هو سرّ كبير بالنسبة لي. وهذا يخيفني أحيانًا لأنّي أعود لا أعرف أين أنا. في الحياة أيضًا هو لغز. مثلما قال غوته، “الحياة قصيرة، لكنّ النهار طويل”. أسبوع واحد قد يظهر طويلاً إلى حدّ مرعب، في حين أن ما حصل منذ خمسة أعوام يبدو لي غالبًا قريبًا للغاية. ذلك غريب جدًا. عندما كنت فتيًا، عشت ضجرًا صاعقًا وكنت أشعر بالوقت وحلاً سميكًا لزجًا يبطئ مسيري، ثم طوال ثلاثين عامًا من حياتي لم أختبر لحظة ملل واحدة، فمرّت هذه بلمح البصر. ولكن الآن، مع تقدّمي في السن كما يُقال، أشعر بأن مطرقة الضجر تعاود ضربي بقوة.

*لماذا “كما يُقال”: هل ترفض الإقرار بأنك تقدّمت في السن؟

– أتجنّب التفكير في ذلك. أعرف أنّي تقدمت في السن تحديدًا بسبب شعوري بالضجر. ضجري الآن هو نوع من التخمة. أضجر كثيرًا، إلاّ عندما أكون في الغابة أو عندما أقرأ أو عندما أشرب النبيذ في مقهى القرية الذي يديره أصدقاء مغاربة. آنذاك أستمع إليهم وهو يتابعون نشرات الأخبار ويتناقشون في ما بينهم، وأحاول أن التقط كلمة من هنا وكلمة من هناك. لكنها محض فسحات ضيقة من التسلية. وهي ليست تسلية حقًا، بل نسيانًا للضجر على الأصح. حتى عندما أشاهد فيلمًا مع ابنتي أضجر. ذلك هو عدوي الحقيقي. ولا أعرف كيف أقاومه أو أكافحه أو أردّ شرّه عنّي. أقول لنفسي دائمًا إنّي يجب ربما أن أتعرّف إلى أناس جدد لكي أشعر بضجر أقل…

*أراهن أنك تندم بعد ذلك…

– وأيّ ندم! (يضحك). أصفع نفسي وأقول: تبًا لي ولنصائحي! ليتني لم أتعرف عليهم! كم كنتُ أفضل حالاً مع ضجري بدونهم. 

*فعلاً، غالبًا ما يُقال عنك أنك منزوٍ ومنطو وغامض ومتحفظ وصاحب طباع صعبة، وقد استغربتُ وكدتُ لا أصدقك عندما تحدثت للتَو عن توقك إلى تحسين علاقاتك مع الآخرين! 

– أنا أتوق إلى تحسينها، نعم، ولكن من دون الاضطرار إلى الإحتكاك بهم بالضرورة! صدقيني، أنا منفتح على العالم أكثر من اللازم، وكثيرًا ما ألوم نفسي على هذا العيب لأنَّني تعرضت لخيبات ممضّة جراء ذلك. ولهذا السبب قررت أن أغلق أبوابي بعض الشيء على نفسي. أنا من طينة الأشخاص المتحمسين، وكنت أرغب دائمًا أن أتشارك حماستي مع شخص آخر، لأنَّني مقتنع بأن الحماسة هي أثمن ما نملك: أن تشعلنا فكرة ما، أن تهزّنا من كبوتنا وتعيدنا إلى اليقظة. غالبًا ما أتحمّس لأفكاري، وغالبًا ما يواجهني، كلما تحمّستُ وعبّرت، عدم فهم الآخر وخبثه.

*أخالك تتكلم عما واجهته مثلاً إثر موقفك من الصرب وكتابك “العدالة لصربيا” الذي أثار إشكاليات محتدمة. 

– هذا وغيره. لا أرغب أن أتوغّل في تفاصيل تلك المسألة، ولكن يثير حفيظتي أن تكون الأحداث في الصحف مكتوبة بالأسود على الأبيض على نحو يوحي بأنها مفاهيم منزَلة. لم يعد الناس يعطون آراء، بل إنهم يصدرون أحكامًا. كل إنسان إله، ناهيك بالمرتزقة الكثر الذين احتلوا اللغة والكتابة ولوّثوها. الصور والكلمات يمكن أن تستغل لأبشع أساليب الخداع، وأنا أحتقر الصحافيين والمراقبين الذين بادلوا مهنتهم الأصلية بمهنة القاضي ومطبّق العدالة، بواسطة خطاب ديماغوجي كاذب. تلك هي الإستبدادية الحقيقية، وذلك هو للأسف النظام السائد اليوم. 

*وماذا عنك؟ هل تشعر أنك خارج أيّ نظام، وأنت القائل بضرورة تحويل العجز عن العيش داخل نظام معيّن، مقدرةً على عدم العيش داخل نظام؟

– آه بالتأكيد، وذلك منذ ولادتي. منذ رأيت النور لم أكن يومًا قادرًا على الإنتماء إلى نظام ما أو إلى أيديولوجيا أو جماعة محدّدة. لطالما رصدتُ ذاتي كـ”لا منتمٍ”، كغريب أو دخيل أو خارج على القانون، وذلك في شكل ما هو ما قادني إلى الكتابة. كنت أريد أن أروي ذلك بدلاً من أن أخفيه. فعلاً، لقد اشتغلتُ عجزي عن العيش داخل نظام وحوّلته قوة، قوة تتيح لي أن أتملّص من النظام، أن أخرج عليه، ألاّ أرضخ لمقرراته وقوانينه. قوتي هذه نابعة أيضًا ربما من إيماني بأهميتي.

*هل تعتقد أنك مصاب بجنون العظمة؟

– لنقل إنّي مقتنع بأنَّني الملك. وبأن الأدب، واللغة، والكلمات مملكتي. كلّ من يجرح الكتابة يجرحني شخصيًا، وتنتابني الرغبة في طرده من بيتي، من مملكتي. ثمّة عدد هائل من الكتّاب المزعومين الذين يعتدون على الكتابة. كتّاب مزوّرون، مدّعون، منتهكون، وذلك حتى في الأدب الواقعي الذي كنّا نظنه غير قابل للهشاشة. يمكنك أن تكتبي كتابين بالكلمات نفسها، ولكنهما قد يختلفان بالإيقاع الداخلي، بطريقة تنسيق الكلمات، وهنا سر الإبداع: أن تخلقي جملاً ومقاطع جديدة، طازجة، بريئة. بريق الكلمات مختبئ دائمًا. هو ليس خارجيًا ولا واضحًا، ولا يلمع إلا في الأدب العالي المستوى. إنه الإيقاع نفسه الذي نجده في الموسيقى الجيدة. السر يكمن في الوقفات أيضًا. في فسحات الصمت المخصصة لاستعادة الأنفاس. اليوم لم يعد هناك إيقاع. على غرار أيام الشيوعية، عندما كان 90 في المئة من الكتّاب ليسوا كتّابا حقيقيين، نعيش الآن الأزمة نفسها، و90 في المئة من كتّابنا المعاصرين ليسوا كتّابًا. وهم يقتلون الأدب. 

*وهم يقتلونه في وضح الضوء، غالبًا أمام كاميرات التلفزيونات وعلى صفحات الجرائد وعبر موجات الإذاعات، فكما تعلم نحن نعيش عصر الشهرة الإعلامية.

– أجل، يا للفظاعة! هناك كثر يهربون من خلال الأدب، كأنه منفذ، لكنهم لا يملكون أيّ موهبة. هم فقط يرغبون في قول ما يخطر على بالهم، وهذا لا يكفي. ليت دور النشر تكون أكثر تشددًا، ليت إصدار كتاب يصبح عملية تعجيزية، لعلّنا نتخلص من بعض هؤلاء البارازيتات…

*ولكن للأسف قد يؤدي تشدد دور النشر إلى الأمر المضاد، أيّ إلى النشر حصرًا لأولئك البارازيتات، كما تسمّيهم، لأنهم هم الذين يعودون بالأموال على الدار غالبًا، فالناجح اليوم كمّا هو أدب الهراء، ألا ترى معي؟

– صحيح، لكنّي كنتُ أعني التشدد على صعيد مستوى النص لا على صعيد قابليته للتسويق.

*تبدو لي تلك يوتوبيا أخرى من يوتوبياتك. كل شيء في عالمنا يسير في الإتجاه المعاكس.

– نعم، في اتجاه البيع، اتجاه التسويق، اتجاه المعيار الإعلاني والإنتاجي. تمامًا مثل الرسم: فالرسام الذي تباع لوحته بأعلى ثمن هو الأفضل والأهم. ولكن من قال ذلك؟ السوق. هذا الخطر يداهمنا أيضًا في الأدب. ونحن لا نحرّك ساكنًا. تعرفين، نحتاج إلى أن نزداد غضبًا. بدلاً من ذلك يزداد جلدنا سماكة. يجب أن نتخلّى عن الفتور واللامبالاة والبلادة إزاء ما يحصل. 

*أنتَ فعلت ذلك مرارًا وقد هوجمت كثيرًا، حد أنك قررت أنك سوف تمتنع عن التعليق وعن قول آرائك لأن ذلك حماقة.

– صحيح، لكنّه رد فعل. إنه غضب. 

*ولكن، أنعكس ذلك على شهرتك ككاتب وعلى إقبال الناس على كتبك.

– تلك هي طبيعة أوساطنا الأدبية الفاسدة: إما يحبونك أكثر من اللازم، أو يحتقرونك أكثر من اللازم. ليس هناك توازن، ليس هنالك حلّ وسط. هذا الأمر نكتشفه مع الوقت، عندما نصبح أكثر مكرًا وحيلة ونتعلم أن نفسّر الأمور الكامنة وراء السطح. هذه هي الحال عندنا في أوروبا. هل تعانون الشيء نفسه في العالم العربي؟

*لنقل إن الأوساط الأدبية تتشابه إلى حد بعيد.

– الوسط الأدبي هو وسط الكراهية بامتياز.  على الأصح وسط نكران الآخر عمومًا… نكران الآخر هو للضعفاء. القوي يكره، أما الضعيف فلا يعترف بوجود آخر سواه.

*أليس الملوك هكذا أيضًا؟

– (يبتسم وقد فهم التلميح). لا. الملك يعتقد أنه الأفضل، ليس أنه الوحيد. أظن أنّني لو كنت في مثل سنّكِ، لكان من الصعب عليّ مواجهة العالم كما هو اليوم. كذب ونفاق ومصالح ومظاهر. يجب أن نجتنب كل ذلك. حتى عندما يقرر المرء أن يغيب، أن ينسحب، يتفاجأ بأنه مكروه ومحارب. كما يقول المثل، “الغائب دائمًا على خطأ”. ثم ما هذا التكاثر العجيب للكتّاب، روائيين وشعراء! حتى عندما نذهب إلى الغابة، أو نجلس على حافة نهر، أو ندخل مغارة ما لكي ننزوي مع أنفسنا ونفكّر، نكتشف أنه ينعقد داخل المغارة نفسها مهرجان أدبي أو شعري أو موسيقي! لماذا يجتمع هؤلاء باستمرار؟ الهدف المزعوم هو أنهم يريدون أن يناقشوا أحوال الرواية أو الشعر المعاصر، فيما الحقيقة هي أنهم يلتقون ليغذوا نار حقدهم. 

*تبدو لي شخصًا حساسًا وبالغ التأثر.

– أنا أتأثر بكل ما يحصل في هذا العالم الذي يحوطني. حال العالم شأن يهمني. خصوصًا اليوم، مع كل الأوجاع الموجودة. عندما سحق الجيش السوفياتي ربيع براغ، بدأت سلسلة مريعة من الإنتحارات في تشيكوسلوفيا. وكانت كل صحف الغرب تقريبًا تسخر من هؤلاء المنتحرين، قائلة إنهم محض ريفيين يبحثون عن هدف ليتحولوا شهداء. أما أنا ففهمت تمامًا أولئك الأشخاص. فهمت ما الذي دفعهم إلى الإنتحار يومذاك.

*ولكن يُقال عن هذا الحدث تحديدًا أنه تحوّل نوعًا من المحاكاة المرضية وأن قلة كانوا ينتحرون لدوافع سياسية، أما الغالبية فكانوا يحذون حذو أقرانهم فحسب. لا بل قرأت أن تشيكيا لطالما سجّلت نسبة انتحار مرتفعة جدًا، وأن هذا المعدّل يدرك ذروته أيام الإثنين وفي فصل الربيع خصوصًا.

– نعم، ربما، ولكن يكفي أن يحذو رجل أو امرأة حذو منتحر، يكفي أن يكون النموذج المحتذى به ذاهبًا إلى الموت، لكي يكون المحتذي يعاني أصلاً حالاً من اليأس الفادح، ويعود سبب ذلك اليأس طبعًا إلى الخيبة الشاملة التي طالت البلاد بعد انهيار الأمل الذي عاشته براغ عام 1968. كذلك حصلت خيبة كبيرة منذ وقت غير بعيد، إذ كانت تلك المنطقة تعيش حالاً من النشوة والتفاؤل في أوائل التسعينات بعد تفكك النظام الشيوعي، ثم خابت آمالها من جديد. لذلك يجب أن نغض الطرف عن التغييرات العامة، وأن نلتفت إلى ذواتنا ونبحث فيها عن سبل تحسين العالم. هذا كله يدفعني إلى الإنطلاق في السير على درب الكتابة، إنه يحرضني ويستفزني.

*أن يستفزك هذا وغيره على الكتابة، يعني أنك تعتقد إلى حدّ ما بأن للأدب قدرة على تغيير الحياة. 

– لطالما كان الأدب بالنسبة لي السبيل إلى فهم نفسي قليلاً بالدرجة الأولى. لقد ساعدني لكي أعي أنَّني هنا، أنّني أعيش هنا، ولكي أقبل هذا الوعي من دون أن يثقل كاهلي أو يصيبني بالجنون. الأدب يعينني ككاتب وقارئ على السواء. إنه أعمق ما يمكن أن نعيشه. هو لا يغيّر الحياة، بل يوقظها، وبذلك يغيّر حياتنا. يغيّرنا نحن. منذ أدركت ما هو رهان الأدب بالنسبة لي، أصبحت شديد الإنتباه إلى الأدب في ذاته، وشديد التطلب إزاءه. ماذا يفعل الأدب؟ إنه يفجّر كل الصور والأفكار النهائية في العالم. لقد تغيّرتُ بفضل الأدب، وعندما تغيّرت تحت تأثيره، أدركت أنّني بدوري استطيع أن أغيّر الآخرين بأدبي. لقد أحدث فيّ كل من فلوبير وفوكنر وكافكا تغييرًا جذريًا هائلاً. الأدب يغير فكرتنا عن الحياة، وذلك في ذاته تغيير للحياة. الكلمات والصور تشتغل فيّ، تنحتني، تلكزني. هي تضع الحياة في الضوء، أو على الأقل تجعلها أقل ظلمة. صمت، ثم بنبرة طفل يريد التملّص من أداء فروضه: أشعر أني أدخل في حوارنا في متاهات متشعبة لا جدوى منها ولا معنى لها. إنّني أضيع وقتك، أليس كذلك؟

*أعرف لماذا تقول هذا: لأنك بدأت تفقد صبرك. أعدك بأننا سننتهي قريبًا… أخبرني، هل عندك طقوس كتابة؟

– عندما أكتب، أكتب طوال النهار. أكتب هنا غالبًا، حيث نحن جالسان الآن، لأن الضوء جيد في هذه البقعة، وقبالتي الأشجار وصخبها الهادئ غير المقتحم. أكتب بقلم رصاص، وأضع الممحاة قربي. لقد أعتدتُ هذه الطريقة البدائية، ولم أحاول يومًا استخدام الآلة الكاتبة ولا الكومبيوتر. ليس عندي موقف ضد ذلك لكنّني أحب صوت القلم على الورقة، ذلك الحفيف الخافت الذي يخترق صمت الغرفة. وما أن أبدأ رحلة الكتابة أكتب كل يوم، حتى النهاية. أفكر في البنية ليلاً، وقد أتوه في زوايا النص التي لم أكن أتخيّل وجودها قبل أن أشرع في العمل. لم أستطع يومًا أن أكون خطّيًا، بل إنّي أسير في نصّي على نحو متاهي، وأتمسّك بجملي كي لا أضيع نهائيًا. ولكن لا يحدث هذا كل يوم. تمرّ مراحل أصول وأجول فيها حول المكتب، وأروح وأجيء قرب الأوراق والقلم، لكنّي لا أجلس.

*وهل تتألم آنذاك، عندما لا تكون في “حالة” الكتابة؟

– عندما لا أكتب أشعر بمالينخوليا رهيبة، بحنين إلى الأيام التي كنتُ أكتب فيها. آنذاك يشبه الأمر حلمًا كنتُ أعيشه.

*ما هي حقيقتك أنت، وكم تختلف عن الحلم، وعن حقيقتنا نحن؟ قلت منذ قليل إن ما يهمّك هو واقعك أنت، لا الواقع عمومًا… 

– أعيش حقيقتي وواقعي أكثر ما أعيشهما عندما أكتب، وآمل دائمًا أنهما واقع الآخر أيضًا. حقيقتي أجدها في الحلم طبعًا. أجدها أيضًا في الشوارع. شوارع المدن التي أهيم فيها. شوارع باريس مثلاً، رغم أنّني لا أذهب إلى المدينة غالبًا، لأنها مفرطة الضجيج والعجقة. حقيقتي أجدها خصوصًا في جلوسي مع نفسي، وهو جلوس يتضمن خوض حرب. ولكن أنا أحب أن أخوض حربًا ضد نفسي. تلك هي أهم حرب نخوضها، أليس كذلك؟ يجب ألاّ يكون المرء مع الناس. من الأفضل أن يكون مع نفسه. وأن يحاربها.

*هل تفعل ذلك باستمرار؟

– لأكون صادقًا، غالبًا أحب نفسي كثيرًا ولا أضطر إلى محاربتها. (يضحك). أشعر بأني ملكٌ كما ذكرت لك. ولكن أحيانًا أخرى أشعر بأنّي لا أحد. بأنّي بلا أي قيمة. 

*وماذا عن الإطراءات الهائلة التي توجّه إليك؟

– لا تؤثر فيّ. 

*أنت إذًا تحبّ نفسك بسببك لا بسبب حبّ الآخرين لك.

– تمامًا. هذا هو الحبّ الأفضل. 

*وماذا عن المرأة وسط كل هذا الحبّ بينك وبينك؟

– دعكِ من هذا الموضوع! (يرتبك). شيء واحد أستطيع أن أقوله لكِ، هو أنّي أكتشفت أنّي تقدمت في السن ليس فقط عندما عاودني ضجري، بل أيضًا عندما كفّت فكرة المرأة عن مرافقتي باستمرار. لم أعد أبحث. باتت المسألة محض فواصل، فيما كانت في ما مضى هي المحور. ثم أنا لا أحبّ أن تزورني النساء هنا في بيتي.

*هل تغار على منزلك؟ ربما هو بمثابة امرأة بالنسبة إليك.

– تمامًا. منزلي هو لي، هو فسحتي الخاصة، ولا أحبّ أن يقتحم أحد هذه الفسحة، كي لا يخلخل توازنها وتناغمها.

* ورسائل المعجبين والمعجبات؟

– أحيانًا قليلة أفرح عندما يراسلني البعض حول كتبي وأتحمّس ثم أكتشف أنهم أشخاص لم يقرأوني حقًا. في المقابل، عندما أقرأ أنا شيئًا أحبّه، أود دائمًا لو أستطيع التعليق عليه لكاتبه. أن أعطيه إشارة بأنّني قرأته وأحسست به. ولكن نادرًا ما أستطيع فعل ذلك، خصوصًا أنّي لا أستخدم الإيميل، وهو على ما يبدو أفضل طريقة للتواصل في عصرنا.

* أخبرتني قبل أن نبدأ الحوار أنكَ تقرأ لإبن العربي، وأنكَ تتعلم العربية. فهل قرأت لأحد الكتّاب العرب وشعرت بهذه الرغبة في مراسلته؟

– قرأت لأدونيس. وأنا أعرفه. 

* غير أدونيس…

– قرأت لأمين معلوف، وبعض أعمال نجيب محفوظ، فقط لا غير. لكني آمل أن أتقن العربية وأقرأ الباقين بلغتهم قريبًا.

* وما رأيك في ما يُحكى عن كسرٍ بين الشرق والغرب؟

– (بعتاب) كنت أعرف أنك سوف تسألينني أسئلة من هذا النوع… قد يكون ثمّة سوء فهم بين الشرق والغرب، لكنّه من جهة الغرب سوء فهم قائم على الجهل التام، في حين أنه من جهة الشرق سوء فهم مطلوب ومقصود ومرغوب فيه، نابع من رفض الآخر. الشرق يعرف الغرب جيدًا، وذلك بديهي على أكثر من صعيد. عندما أشاهد مثلاً أفلامًا تركية أو إيرانية أو فلسطينية، أكتشف كم أن هؤلاء المخرجين يعرفون الثقافة الغربية وكم هم متأثرون بها. ليس ثمّة كسر إذًا. منذ بضعة أيام كنت أقرأ ابن عربي، محاولاً تفكيك المعاني كلمة كلمة بواسطة القاموس، وأثناء القراءة كنت أستمع إلى ديسك مغنّ كندي اسمه نيل يونغ، وانتبهت فجأة كم أنهما منسجمان معًا. كانا حركتين كونيتين متلائمتين إلى حد رائع. لذلك لا أفهم سبب هذه القطيعة. الغرب يقول إنه ليس لديه الوقت ليتعرّف أكثر إلى الشرق. أنا أقول إنه ليس مهتمًا بالتعرّف إليه، لأنه عندما نتوق إلى التعرّف إلى شيء أو شخص ما، نخلق الوقت. أما الشرق فخطأه أنه يرفض الإختلاط مع الغرب. يجب أن يتفاعل العالمان. خذي غوته مثلاً: كان يتكلم العربية قليلاً، وكان يكتبها أيضًا، رغم أنه كان رديئًا في كتابتها. يجب حقًا أن نكون معًا، أن يجد كل واحد منّا امتدادًا له في الآخر، وامتدادًا لثقافته، لفلسفته. ليعد العرب إلى شعرهم القديم، وهو في رأيي أكثر غنى من شعر الغرب. يمكننا أن نتعلم الحرية من هذا الشعر: أنظري مثلاً كيف كان الرومي يضمّن قصائده حس الفكاهة. أي أنه كان يعلّمنا كيف يمكن أن يأخذ النص اتجاهات عديدة وأن يشكل شبكة معقدة. لقد أصبحنا الآن مثل الزومبي. ننشد الفكر الموحّد. بل من الظلم حتى أن نستخدم كلمة “فكر” لوصف ما ألمّ بنا. 

* أنتَ تعيش في فرنسا منذ وقت طويل. هل تؤمن بكلمة وطن؟

– أجل، لكنّي لا أؤمن بها كـ patrie فقط بل كـ matrie كذلك. أيّ أن الوطن هو بلاد الأم أيضًا. أمي كانت سلافية، وقد قررتُ أني ابن أمي أيضًا، وأن أرضها أرضي. أصبح وطنيًا نمساويًا فقط عندما يهاجم أحدهم بلادي، أكان ذلك بالكلام أو بطريقة أخرى. لست وطنيًا سلفًا. أنا وطني كرد فعل. مثلاً، إذا ما أنتُـخِب رجل حقير لكي يتولى سدّة الحكم في النمسا، وقال طرف خارجي أنه يجب أن يُفرض حظر على البلاد كلها لأجل ذلك، آنذاك أثور وأصبح وطنيًا. أقول لهؤلاء: هذه ليست النمسا، أنتم لا تفهمون شيئًا. أذهبوا وأقرأوا ريلكه على الأقل، ثم عودوا وأصدروا أحكامكم علينا. 

* نصل إلى سؤالي الأخير…

– سؤال آخر؟!

* أعدك بأنه الأخير. هل أنت راضٍ عمّا حققته حتى الآن؟

– هل أبدو لكِ رجلاً راضيًا؟

* نعم، إلى حدّ بعيد…

– حسنًا، ربما أنا راضٍ عن نفسي قليلاً.

* وهل لاحظت أنّك تقول بلا انقطاع الشيء، ثم تخفف من وطأته بعكسه؟

– ربما لأنّي أعرف أنّي لا أعرف. أعرف أنّي لا أملك الأجوبة. وأنّي أجهل نفسي. قلت لك للتو إنّي راضٍ عن ذاتي قليلاً، لكنّي مسكون بقلق لا يُحتمل. قلق يهاجمني من حيث لا أدري فيشلّني تمامًا. قد يدوم دقيقتين أو ساعتين، وهو ليس قلقًا يولد نتيجة حدث خارجي، بل هو ربما ناتج من شعوري بأني أقوم بعمل لم يعد يهمّ أحدًا.

* كم تبالغ في استخدام الـ”ربما”!

– أجل، ربما…

يضحك الملك مجددًا. ثم يتنفس الصعداء لأنّي أطفئ جهاز التسجيل. تختفي تجاعيد القلق الأفقية على جبينه. أنهض فيستبقيني لفنجان قهوة وثرثرة “غير رسمية”. يساعدني أخيرًا في ارتداء المعطف. “أليس معكِ مظلة؟ إنها تمطر مدرارًا في الخارج!”. “لا بأس، قبّعتي تحميني”. يرافقني الملك حتى بوابة المملكة. يفتح المصراعين، نتصافح، أقول له مودّعة: “بيروت تنتظركَ في شباط”. “بالتأكيد”، يهزّ رأسه بحماسة. ثم أخرج وأتركه جميلاً كحلم لا يُعرف سـقفه، وحيدًا كأسد مع فكرة غابة. 

_______________
مقابلة من أرشيف جريدة “النهار”، أجرتها مع الكاتب، الصحفية جمانة حداد، وتمّت إعادة نشرها، إثر فوز بيتر مؤخرًا بجائزة نوبل. نشرت المقابلة أيضًا في كتاب: “صحبة لصوص النار”.

عدد المشاهدات : 471

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.