لو قُدّر لي أن أختار أبي، لاخترتُ أبي

لو قُدّر لي أن أختار أبي، لاخترتُ أبي

هديل الفضل

سأقولها بدايةً، حتى لا تقتلكم النهاية، الأب الذي أحببته قد مات. توفّي أبي في الصباح، بعد أن ودّعناه ذاهبين إلى المدرسة، أنهى إفطاره رفقةَ أمي، وذهب لينام. وبلا استغاثة، أو صراخ، أنهى حياته بهدوء.  

عشت معه اثني عشر عامًا، طفلةً مدلّلة، ومحبّةً عنيدة. لم أكن لأتركه لحظة يتواجد فيها، إلا وكنّا معًا، وإن خرج، نخرج معًا. أحببت كل الألعاب التي كان يحاول ابتكارها، لإسعادي، أعظمها، اللعبة التي تبدأ حين أرتمي في حضنه، وهي عبارة عن عناق طويل يعتصرني فيه، ويضحك على تحمّله وتشبّثي.

كنت أحبّ أن أخرج معه في الطريق الطويل، ذاهبين آيبين من وإلى القرية التي لطالما عشق هواءها وترابها ونخلها الذي يستظلّ فيه قيلولته التي قاسمتُه شمسها كثيرًا. ومثلما جمعتني به رفقة الدروب، جمعنا أيضًا حُبّ الضحك، إذ مرارًا كثيرةً، بدا كما لو لم يكن يملك شيئًا، سوى ضحكاته وحبّ إضحاكه للآخرين.

أبي، كان بهجتي، فرحي اللامنقطع، ضحكتي المتصلة. كان مطرًا باردًا، في قيظ صحراء عمري. وأقول كحقيقة: ليس بغزل، ما تقوله فتاة بأبيها المتوفّى منذ خمسة عشر عامًا.

لا أتذكر عنه الصلابة والقسوة إلا في أمرين؛ الولد يجب ألا يضربَ الأنثى. لتُكسر يدُ من يفعل ذلك. والشاي، يجب أن يكون دمَ غزال، ونصف ليمونة يغمّسها في كوب الشاي آن يكون متعبًا. وهذا يذكّرني الآن، بأني لم أرَه يومًا يتناول دواءً، سوى “دواء الكحّة”، جرعةً من العلبة، كما لو كان يشرب ماءً.

“البطل”، لقبه آنذاك وإلى الآن. مرّة، في مشفى هنا، وسط المدينة، سألتني موظفة قلت لها اسمي كاملًا، “أبوك البطل؟” قلت نعم. وقالت بعدها، “كان أبي يحبه، ليرحمهما الله”.

بطلي أنتَ، وستبقى، في كل مرة أرى فيها أولئك الذين يحطّمون الصخور على صدورهم، والمسامير تحت ظهورهم، أتذكركَ. بطلي، الذي سمعتُ عنك كثيرًا من أفواههم، وتمنيت لو شاهدتك مرة، لأتذكرك كما كنت أراك، لا كما قالوا.

وأنا أتذكرك الآن، أتذكر ضحكك، آه يا أبي، لطالما تمنيت لو أمنحك أسناني التي فقدتَها إثر حادثة، أسنانك التي كنت تتحدى في قوتها رجالًا لتحمل أكياسًا تزن عشر كيلوات أو أطفالًا.

أبي، إن أشدّ ما يحزنني، يوم طلبت مني أن أساعدك على حفظ سُوَر جزء عمّ، ولكنني كنت مشغولة باللعب، قلت لي سأعطيك مكافأة إن حفظتها، وحاولت معك جاهدةً لتحفظها، لأحصل على مكافأتي، لكنكَ رحلت قبلها، ولم يحصل كلانا على شيء.

يوم رحيلك يا أبي، لم يكن يومًا عاديًّا، يؤلمني في كل مرة أتحدَّث عنه. كان الجوّ غائمًا، ووعدتنا بنزهة بعد رجوعنا من المدرسة، لم تكن تعلم شيئًا ولم نشعُر بنزهتك التي لا أوبة منها. كنتَ أمام النَّار كعادتك الصباحية في كل شتاء، تشعِل نارك وتتأملها، تتلذّذ بشايِك، يتعتّق فوقها على مهل. ودعتك، ولم أعلم أنه وداع أخير.

احتضنتك، ولم أشعر بأني لن أشمّ رائحة النار فيك مرة أخرى. وقبل الظهر، عدت من المدرسة، وأخبروني قصة تعبك كيلا يفجعنا خبر وفاتك، لكن في لحظة ما، سمعت عمتي تصرخ وتقول لا .. لم يمت أخي. وصرخة أمي خارج المنزل، كانت ترنّ بين الجدران داخله. كان صراخنا وبكاؤنا صدىً لصراخهم وشهقاتهم. تساقطنا، كلٌ في مكانه، كصاعقة أصابت بيدرًا، أو لوحة شطرنج، قُتل ملكها.

آه لو كنت أعلم، لبقيت في حضنك وودعتك وقبّلتك وبكيتُ بين ذراعيك، حتى تمسح دمعي وتودعني وداعًا لائقًا بفتاة لن تشفى من رحيلك أبدًا.

كانت السماء تبكيك معي حين جنّ الليل، تغسل بكائي ببكائها. في ذاكرتي تلك الليلة الرهيبة، انزويت إلى سطح البيت، لا مكان يليق بحزن فتاة في هذه المدينة، سوى السطح. لربما يقرّبها قليلًا إلى السماء. وغرقت في تأمل المطر، كنت مبتهجةً بالمطر يا أبي، أرجو أن تسامحني، لم أفهم معنى أن تموت، أي أن ترحل أبدًا، رحلة سرمدية تحت تراب لا يعرفك.

لكنك تحب المطر يا أبي، وأعلم أنك ابتهجت معي تحت التراب، وربما دمعت عيناك، لأنك لن تراه يسقط من أعالي الجبال، ولن تستطيع أن تمسحه حين يبتلّ به رأسك، ولن تستطيع الضحك ملئ شفتيك، وهو يحمّم نخيلك البواسق، ولن تشعُر به وهو يبلّل غطاءك الأبيض الطاهر، معطرًا بمسك رائحتك والرحيل.

ذكرى موتك تجعلني أبتسم، ذهبتَ في أحب الأوقات إليّ، وقت المطَر. وفي اللحظة التي كانوا يبكونك فيها، وآن ابتهال المعزيات، كنت أرقص تحت المطر، رقصة جنائزية مليئة بالدموع التي غسلها المطر والضحكات. كنتُ “زوربا” الأنثى، وكنت يا أبي كل جُزري وبحاري وتقاليدها.

سائقك يا أبي، بكى حين أوقفته أختي الصغرى في أول ليلة بعد وفاتك، قالت لا تذهب، سيجيئ أبي الآن، وأمسكت بثوبه الباكستاني، حتى تجيء، وجعلها تتركه بهدوء. أتت لأمي تبكي وتشتكي، لقد رحل السائق ولم ينتظر أبي، فبكت أمي وبكينا جميعًا، كيف تفهم طفلة أنّ أباها، ذلك العائد الأبديّ، أبدًا لن يعود، ولن يكون هناك “سائق أبي” مرة أخرى.

لم أتقبّل فكرة موتك، يلزمني أن أعيش طويلًا، ربما مائة عام، حتى أقول اسمك أو قصة عنك دون أن أجهش بالبكاء. لم أستطع مرة أن أتحدث عنك، حديثًا منزوع الدمع، لأني لا أقول جملة واحدة إلا بكيت، وربما أبكي قبل أن أبدأ.

عندما استكثرت أيام غيابك، وقلت لا بد أنه مات، رجوتُ أن تعود روحك للمكان الذي تحبّ، فانتظرتك في غرفتك كثيرًا، لكنك لم تأتِ، قلت لنفسي، عليه أن يرى صبركِ وشدة تعلّقك، وانتظرتك، في الوقت الأحبّ إليك، عصرًا، في غرفة راحتك، بلا نور كيلا أخيف روحَك البيضاء السّماوية. أحتضن صورتك وأغفو على فراشك، لكنهم أخذوه في النهاية، مع كل أشيائك، خشوا علينا الألم من تذكرك، وأيّ ألم أقسى وأقوى من ألم نسيانك؟ لكنهم لا يشعرون.

ولم تأتِ يومًا، ولا حتى كلمح البصر، فصرت أتخيلك، وأروي قصصًا منك لي، على لساني لقلبي، وأتشفّى منك بشقائي، فأحرم نفسي من كل الأشياء التي اعتدت أن تدلّلني بها، ولم تحنّ روحك ولم تأتِ.

قبل عامين، قالت أختي أنها رأتك جميلًا في حلمها الليلة الماضية، وقصّت لنا كيف كنت، وأنك احتضنتها، حسدناها جميعًا، واتفقنا أن نبكي، فضحكنا على بكائنا، هزّتنا ملامح ذكراك، وهزئنا من شوقنا إليك. أنا لا أرى حلمها الآن، لأني أملك حُلمي، الذي رأيتك فيه تراقب نخيلك المنسيّ، وواقعي الذي نسيتُ روحي فيه.

كبرتُ يا أبي، ففهمتُ أنك معي وحولي، تفرح بي ولي. فهمت روحك، واستشعرتها، فكنت أراك مرة قوس قزح. بسمتكَ برق، وضحكتك رعد. رأيتك مرة مطرًا، ومرة رائحة ليمون، ونكهة برتقال، فاكهتك التي تحب. وأحايين كثيرة تكون ظلًا لي، في كل مكان لا ظلّ فيه. أبي، كنتَ ولا زلتَ، كالأفُقِ، قريبًا جدًا، ممتدًا بكل مكان حولي، لكني لا يمكن أن ألمسكَ، أو ألتقيك.

إنني أكتب هذا ليس لأنني أحبّك فقط، بل لأنني أرغب في أن يخرج حزني ودمعي كله كلمات تلو الكلمات. لأقول لك، أنني لن أكفّ عن بكائك، بطريقة أو بأخرى. لأنني ما أزال أسمع صرختي وصرخة أمّي في كل مرة يُذكر فيها اسمك. لأنني أتذكر رائحة ثوبك، البنّي كلون عينيك اللامعتين، والذي كان آخر ما شاهدته على أوسم الرجال، يوم وداعك.

ولأن حياتي ناقصة دونك، أصبحت كصلاة دون وضوء، شجرة بلا جذور، وثمرة بلا بذرة. أنا يا أبي، لست أقول شيئا مما أرغب قوله، أعجز أن أكتب حُبّي إليك، ليس لأني لا أرغب في ذلك، بل لأنك لن تقرأه، وهذا يؤلمني، يؤلم قلب الفتاة ذات الاثنتي عشرة ربيعًا.

‏منذ عدة أيام، حدث خسوف للقمر، حزنت للقمر وآلمني نقصه، لكنه لم يكن إلا ساعتين، وعاد بدرًا. لكنك تعلم، أنك خسوف لا يتلاشى، وغياب لا يُشبهه أيّ غياب. و‏لو كنت هنا، موجودًا معي في هذا الصّباح العابق برائحة المطر والحَنين، لما ذهبتُ إلى عملي؛ لكنتُ معك الآن، أشرب قهوتي وتعبق منك رائحة السَّمر.

أبي، ما يُسلّي روحي، هو أنه لا أحد يستطيع أن ينتزع ذكرى طفولتي معك؛ ذكرانا التي تخفّف وجعي وتسلّي روحي حين أتوق لقربك. كرائحة الطّيب ذكراك، تأتي بخفة، وفي لحظة تزول. مخلّفًا وراءك في كلّ مرة، ابتسامة عزاء.

كنت أبحث دائمًا عن وجهك، بين النّخيل والشوارع التي سرنا فيها معًا، والغرف التي اعتدت تمضية وقتك فيها. كتبت عدة رسائل، وتركتها تحت الوسائد، وقلت بعضها بصوت خفيض، علّكَ تسمعني، وخشيت أن يسمعني الآخرون، أن يسمعوا شوقي وحنيني وبكائي. لم أبكِ ولا مرة واحدة على صدر أمّي، أشعُر به رحبًا واسعًا ودافئًا، خشيتُ أن أحزنها أكثر. إني الآن أرغب في هذا، لكنها لن تتفهّم بكائي بعد كل تلك السنين.

تقول أمّي غاضبة: “أنتِ لا تخافين!”، وأقول بقوة: لا، فأنتِ دائمًا تقولين “الأمن دائم، والخوف ساعة”، ولن أقضِي أيامي كلها مترقبة هذه الساعة، خائفة من الخوف نفسه. هل تعرف لماذا يا أبي لا أخشى شيئًا، لقد ملكت مثل قلبك يا أبي، قويّ العاطفة، محبًا شرسًا، مغامرًا وأنانيًّا. تأخذني معك لأخطر الأماكن، وتصفق بيديك تاركًا السيارة تقود نفسها حتى تنهي “فصل الطرب الخاص بأغنيتك”، هل تملكني الخوف حينها؟ لا .. لم أفعل؛ بل شاركتك انسجامك وعفوية تصفيقك وشجعتك على ترك المقود، لتصبح الرحلة أكثر مرحًا ومغامرة. إن مغامراتي معك، محفورة في روحي، كواحدة من لحظات الإلهام في حياتي.

إنني يا أبي خجلى منك، فأنا أخشى أن تكسر قلبي الحَياة أكثر مما فعلت إلى هذه اللحظة. أخشى أن أرضى بالهدوء، بالحياة العادية، بالأشخاص العاديين، بالزوج والأبناء والأقاويل والمشاحنات والصّمت. كنتَ تزهد في كل شيء لا بهجة فيه، وسأقاتل، لأبقى مثلك.

بعد مماتك، كرهت كل آباء الفتيات والصديقات والقريبات وبنات الأخوات، وتمنيت لو أننا متساوون، بلا آباء، لم أرضَ بداخلي أبدًا أن أعيش بلا أب، ولا زلت أكره كوني أتمنى لو تعود يومًا، بمعجزة ما، أن أحتضنك، ونقضي الظهيرة معًا، تحت نخلتك التي تحبّها، ويكون الرّطب وقته قد حلّ، فتهزّ علينا جذع النخلة، وتمسح الغبار عنها بيديك، ونأكلها.

لا زلت كل صباح حين أدلفُ المقهى بهدوء، أفتش في الطاولات، يقف قلبي حين يقول لي سهوًا نادل المقهى اللطيف: لقد تمّ دفع حساب قهوتك، يا ترى، هل عاد أبي، وفعلها؟

 

عدد المشاهدات : 3898

 
 

شارك مع أصدقائك

2 Comments