ماركيز .. أنا الآخر

ماركيز .. أنا الآخر

مدير التحرير

حين يكتب غابرييل غارسيا ماركيز عن بعض المفارقات والمواقف الغريبة التي تحدث في حياته اليومية، لا نملك إلا أن نتساءل: هل الرجل يتحدث بجدية؟! لكننا سنوقن بأن حديثه يتضمن الكثير من الحقيقة الممزوجة بنكهة أدبية بارعة، وبقية تفاصيل القصة، هي حقيقة من تصوير خيال لا يقل براعة عن حقيقة ما يرويه من حقيقة.

يكتب ماركيز في مقال “أنا الآخر” من كتاب “كيف تكتب الرواية ومقالات أخرى” أنه حين استيقظ ذات يوم من نومه في مكسيكو، قرأ في إحدى الصحف مقالا يتحدث فيه صاحبه عن أن ماركيز قد ألقى محاضرة في (بالما دي غران كاناريا) -جزر الكناري-، أي على الطرف الآخر من المحيط الأطلسي. ويقول ماركيز: إن المراسل الصحافي صاحب المقال لم يكتف بإيراد رواية مفصلة للحدث فقط، بل انه قدم كذلك موجزا موحيا لمحاضرة ماركيز المزعومة.

ويعترف غابرييل غارسيا ماركيز بدهاء الكاتب المبدع، أن أكثر ما فتنه في مقال المراسل الصحفي هو أن الموضوعات المطروحة المزعومة كانت أكثر ذكاء مما يمكن أن يخطر لغابرييل غارسيا ماركيز. بل ويضيف أن الطريقة التي عرضت بها كانت أكثر جاذبية مما يستطيعه ماركيز نفسه، و أن ما كتبه المراسل الصحافي لم يجد فيه ماركيز سوى عيب واحد وحيد، فمركيز لم يكن في مدينة بالما، لا في اليوم الفائت، كما ادعى صاحب المقال، ولا خلال السنوات الاثنتين والعشرين الماضية. كما أنه لم يلق في حياته، حتى ذلك الحين، محاضرة واحدة حول أي موضوع في أي مكان من العالم.

ورغم كل شيء لا يبدو على ماركيز أنه تبرم من هذا التصرف غير المسؤول من مراسل صحافي ادعى حقيقة مختلقة. في كتابه “كيف تكتب الرواية ومقالات أخرى”، وبالضبط في مقال “أنا الآخر” وهذا العنوان له أكثر من دلالة، لأن ماركيز في هذا المقال يصبح محل استنساخ إذا صح التعبير، وتدبج باسمه العديد من الأحداث والمواقف، وفي هذا الصدد يكتب ماركيز: “كثيرا ما يجري الإعلان عن حضوري في أماكن لا أكون فيها، وتقودني الصدف وحدها لأن أقرأ في صحف لا تخطر على بال، مقابلات معي لم أقدمها على الإطلاق، لكنني لا أستطيع إنكارها لأنها تعبر بنزاهة، وسطرا سطرا، عن أفكاري. بل ان أفضل مقابلة معي نشرت حتى اليوم، وكانت تعبر خير تعبير وبأكثر الأساليب وضوحا عن أشد منعطفات حياتي تعقيدا، ليس في مجال الأدب وحسب وإنما كذلك في السياسة، وفي ذوقي الشخصي، وفي أفراح قلبي وأتراحه، هي تلك المقابلة التي نشرت منذ سنتين في صحيفة مغمورة تصدر في كاراكاس، وكانت مختلقة حتى النفس الأخير منها، وبالتوقيع الكامل لامرأة لا أعرفها”، ولكنه يؤكد “لاشك في أنها تحبني كثيرا كي تعرفني إلى هذا الحد، حتى ولو كان ذلك من خلال أنا الآخر فقط”.

ثم أن ماركيز لم يعلق صدفة حول الصحيفة بأنها صحيفة مغمورة، وأنها نشرت المقال قبل سنتين، وفي مدينة كاراكاس بالذات. هناك دائما بسط لأرضية مقبولة ومنطقية لسرد واقعة يحشرها الكاتب في أذهاننا لنقتنع بها من خلال روعة السرد، وغرابة الأحداث، والأسلوب المتميز الذي ينهجه الكاتب، لإرغامنا على تقبل تلك المواقف بكل المتعة والحب أيضا. ولكي يؤكد صدقية تلك الأحداث بتفاصيلها المدهشة، يكتب ماركيز: “رغم أني قلت مرارًا، في جميع الوسائط المتاحة: إني لا أشارك في الاحتفالات العامة، ولا أرتدي زي الأستاذ الجامعي ولا أظهر في التلفزيون ولا أشارك في الدعاية لبيع كتبي ولا أساهم في أية مبادرة يمكن لها أن تحولني إلى استعراض. وإحجامي عن ذلك ليس تواضعا، وإنما لسبب أسوأ: إنه الخجل”.

اعتراف جميل من كاتب كبير، اعتراف محفوف بالكثير مما يمكننا تسميته بألعبانية الكاتب الحاذق الذي يفرض وجوده من خلال التلاعب الممتع بالحكي، ويستطيع تحقيق الدعاية لشخصه ‘بغض النظر عن جودة منتوجه الأدبي المبهر الذي لا أحد يجادل فيه’ من خلال ترك الآخرين يلعبون دورا بدلا عنه، ودائما يتوفقون في لعب هذا الدور لأنهم يمتلكون أدوات وملكة اختلاق وقائع وأحداث تتعلق بالكاتب غابرييل غارسيا ماركيز. ويعلل صاحب مائة عام من العزلة سبب تواريه عن الأنظار وعدم اندماجه في الأماكن العامة بسبب الخجل. هل حقا إلى هذه الدرجة يكون غابرييل غارسيا ماركيز خجولا؟!! يجب أن نضيف العبارة الموالية التي تلت عبارة ماركيز حول خجله: .. وهذا لا يكلفني أية مشقة، لأن أهم ما تعلمت عمله بعد أربعين سنة هو أن أقول لا، حين يجب علي أن أقول لا.

ليس المهم أخذ ما يقوله الكاتب بالواقعية المفترضة كما قلت في مقال نشر سابقا، المبدع حتى وهو يكتب مقالات تبدو جادة أكثر من الجدية نفسها، إلا أنه لا يتخلى في نفسه عن شخصية الكاتب الذي يترك لخياله العنان ليسرح ويشطح شطحات ممتعة مفعمة بالجاذبية. غابرييل غارسيا ماركيز حين يكتب، لا يكتب ليتقمص شخصية المؤرخ أو الصحفي أو المحقق، بل يكتب دائما وأبدا من منطلق كونه كاتبا مبدعا لا يحصر شساعة خياله في نطاق ضيق لا يخدمه هو شخصيا، ولا يخدم القارئ الذي يحظى دائما بوجبة لن تكون إلا مخللة بتوابل منتقاة بدقة كاتب يحمل قلما وخيالا لا نظير له. ولهذا أبهر ماركيز كل قراء العالم من خلال رواياته الخالدة، وهذه الروايات هي جزء من شخصية الكاتب صاحب الخيال الخلاق الذي لا يمكنه أن يتحدث عن واقعة كتابة مراسل صحفي واختلاقه لقصة إلقاء ماركيز لمحاضرة في جزر الكناري، لا يمكنه أن يكتب عن الحادثة بنمطية تقليدية وسطحية جدا لطالما ألفناها لدى العديد من محترفي الكتابة التي تبقى كتاباتهم في كل الأحوال لا تتجاوز قدراتهم الإبداعية.

ويستمر ماركيز في إبهارنا بحديثه الشيق في مقال “أنا الآخر” من كتابه “كيف تكتب الرواية ومقالات أخرى” إذ يحدثنا هذه المرة بأن واقعة محاضرة جزر الكناري الملفقة لم تكن هي الحدث الأكثر غرابة، وإنما هناك حادثة ينعتها ماركيز بدهاء وعن قصد بالمشؤومة. الحادثة التي وقعت له منذ سنوات مع شركة الخطوط الفرنسية بمناسبة رسالة لم يكتبها ماركيز مطلقا، وكانت شركة الخطوط الفرنسية قد تلقت احتجاجا رنانا وحانقا، يحمل توقيع غابرييل غارسيا ماركيز، وفيه يشكو من سوء المعاملة التي كان ضحية لها في الرحلة العادية التي تقوم بها الشركة بين مدريد وباريس، في يوم محدد (لماذا أضاف ماركيز عبارة ‘في يوم محدد’ ؟! ) وبعد تحقيق صارم، يكتب ماركيز، أنزلت الشركة بالمضيفة العقوبات المتعلقة بالقضية، وبعثت له إدارة العلاقات العامة رسالة اعتذار شديدة التهذيب والأسف. هنا أتساءل، وسيتساءل معي القارئ: كيف يستعصي على شركة طيران عالمية معروفة، ما إذا كان الكاتب ذائع الصيت غابرييل غارسيا ماركيز قد سافر في تلك الرحلة العادية، وفي ذلك اليوم المحدد الذي أصر ماركيز ليؤكده لنا؟ وكيف تمت معاقبة مضيفة بدون أسباب واضحة ومعطيات منطقية، وعلى أي أساس؟ رسالة الشركة تركت ماركيز في حيرة من أمره، فهو لم يسافر في الواقع أبدا في تلك الرحلة، كما يكتب في المقال. بل وأكثر من ذلك، يخبرنا ماركيز في مقاله “أطير دوما وأنا خائف، حتى انني لا أنتبه إلى كيفية معاملتهم لي (يقصد موظفو الطائرة) وأكرس كل طاقتي لتثبيت مقعدي بيدي كي أساعد الطائرة على البقاء محلقة في الجو، أو أحاول منع الأطفال من الركض في الممرات خشية أن يثقبوا أرضية الطائرة”.

ألا يذكرنا مثل هذا الكلام بحوادث تراكمت فيها المبالغة الباهرة الممتعة في رواية مائة عام من العزلة مثلا؟! بحيث يصور لنا ماركيز جوزيه أوركاديو بوينديا بالوصف التالي: “وفي أحد الأيام خرج من غرفته والجميع نيام، وعمد إلى عضادة الباب فانتزعها، وبقوته الهرقلية أخذ يهشم أدوات المعمل الكيميائي وأدوات المسبك وهو يصرخ ويهذي بكلام غير مفهوم..وكاد ينتقل إلى باقي غرف البيت يعمل فيها تهشيما لولا أن استنجد أورليانو بالجيران..فاحتاج الأمر إلى عشرة رجال لطرحه أرضا، والى أربعة عشر لتقييده، وعشرين لجره إلى شجرة الكستناء في الفناء حيث تركوه مربوطا بها”. (1)

ويصف في موقف آخر، وفي ذات الرواية وبالمبالغة ذاتها أيضا: “وعند منتصف الليل، بعد أن فاضت روح أوريليانو- جوزيه، تقاطر أكثر من أربعين شخص أمام المسرح وأفرغوا مسدساتهم في جسد الكابتن اكويل ريكاردو الطريح في الشارع..واضطرت إحدى الدوريات إلى نقل جثمانه فوق عربة يد لشدة ثقلها بما استقر فيها من رصاص”. (2)

إنها ليست مبالغة على الطريقة المألوفة التي غالبا ما تشعرنا بالتأفف والضيق، بل هو فن لحكي راق يمزجه غارسيا ماركيز بطعم الإبداع الممتع، ليجعل من كلامه أدبا فيه من المتخيل كل شيء، قبل أن يؤخذ من قبل القراء مأخذ الجد.

لم تتوقف قصة الرسالة المزيفة المرسلة إلى الخطوط الجوية الفرنسية عند ذلك الحد، فبعد أن يؤكد لنا الكاتب بأنه توجه إلى أقرب مكتب للشركة بسبب إحساسه بالخجل، ولأنه يريد توضيح الأمور. وهناك عرضوا عليه رسالة الاحتجاج، ولم يكن بإمكان ماركيز إنكارها، ليس لأسلوبها فقط، وإنما كذلك لأن اكتشاف زيف التوقيع كان سيكلف ماركيز جهدا.

براعة ماركيز في رواية الأحداث جد مثيرة للإعجاب، حتى أنه ينسي القارئ ما إذا كان يقرأ مجرد مقال فيه القليل من الحقيقة، والكثير من الخيال الواسع، بل أكثر من ذلك هو خيال لا يخلو من فكاهة مهذبة وفي قالب نظيف ومحكم البناء ليس بمقدور أحد محاكاته، رغم شكوى غابرييل غارسيا من “أنا الآخر”، هذه الشكوى التي يبررها -وكلمة يبررها أجدها الأنسب في هذا المقام- من خلال ما يورده في آخر مقاله “أنا الآخر” من كتابه الأنيق “كيف تكتب الرواية ومقالات أخرى” يكتب ماركيز حول أنا الآخر: “لا شك أن من كتب تلك الرسالة هو نفسه الذي ألقى المحاضرة في جزر الكناري، وهو الذي يفعل أمورا كثيرة لا أكاد أعلم بها إلا مصادفة، ففي معظم الأحيان، وحين أذهب إلى بيت أصدقاء لي، أبحث عن كتبي في مكتبتهم متظاهرًا بالتسلي، وأكتب لهم إهداء عليها دون أن ينتبهوا إلى ذلك. لكنني وفي أكثر من مناسبتين، وجدت أن الكتب مهداة، بخطي ذاته، وبتوقيع لا ينقصه ليكون توقيعي إلا أن أكون أنا من كتبه”. إنها عبارة جميلة جدا “وبتوقيع لا ينقصه ليكون توقيعي إلا أن أكون أنا من كتبه”، وبهذه العبارة الجميلة جدا يفهمنا غابرييل غارسيا ماركيز أن البعض من أصدقائه الذين يزورهم، والذين يبحث عن كتبه في مكتباتهم متظاهرا بالتسلي، هم وحدهم من يستطيع محاكاة توقيعاته بدقة لا ينقصها إلا أن يكون هو من كتبها. ويكرس هذا المفهوم بإيحاء لا تخطئه البديهة، بقوله: حدث على الأقل في أكثر من مناسبتين. بمعنى آخر: أن الحالة ليست كثيرة الحدوث، وهو أمر يزكّي مصداقيتها طبعا.

يسترسل ماركيز ويكتب في ذات المقال الآنف الذكر: “منذ نحو ثلاث سنوات، وكنت قد انتهيت من تناول الطعام في بيتي بمكسيكو، حين طرق الباب، وجاء ابني ليقول لي وهو ينفجر ضاحكا: “أبي، أنت جاء يبحث عنك”. قفزت من المقعد وأنا أفكر بانفعال لا يمكن كبحه: “هاهو ذا أخيرا”. لكنه لم يكن أنا الآخر، وإنما المهندس الشاب غابرييل غارسيا ماركيز، مهندس مكسيكي يصفه ماركيز بالمهذب، يحمل بالصدفة نفس الاسم الكامل للكاتب الكولومبي، هذا الشاب المكسيكي تصله أعداد هائلة من الرسائل موجهة إلى الروائي والأديب غابرييل غارسيا ماركيز، لكنها تصل بالخطأ إلى عنوان المهندس المكسيكي الشاب غابرييل غارسيا ماركيز بسبب التشابه المتطابق في الاسم، وهكذا يتوصل المهندس أخيرا إلى عنوان الكاتب ليسلمه الرسائل الكثيرة.

وهنا علي أن أقف لحظة لأتأمل ما إذا كان هناك حقا شخص في مكسيكو يحمل نفس اسم الكاتب ماركيز كما يخبرنا هذا الأخير، ربما لأن ماركيز يأتي بهذه القصة ليقول لنا بالحرف وفي نفس المقال الذي نحن بصدده: “لا، فالمهندس الشاب لم يكن أنا الآخر، وإنما هو شخص محترم جدا: إنه سميي. أما أنا الآخر فلن يجدني أبدا، لأنه لا يعرف أين أعيش، ولا كيف أنا، ولا يمكنه أن يتصور اننا مختلفان إلى هذا الحد. سيواصل التمتع بوجوده الوهمي، الباهر والغريب، في يختهه الخاص، وطائرته الخاصة، وقصوره الإمبراطورية حيث يحمم عشيقاته بالشامبانيا ويقضي على خصومه الرئيسيين بالضرب. سيواصل التغذي بأسطورتي، ثريا إلى أقصى حدود الثراء، شابا ووسيما إلى الأبد وسعيدا حتى الدمعة الأخيرة، فيما أواصل أنا الهرم دون أسف أمام آلتي الكاتبة، غير عابئ بهرائه وتعسفه، باحثا في كل ليلة عن أصدقاء حياتي، لنرتشف معا الكؤوس المعتادة، ولنحن دون عزاء إلى رائحة الجوافة. وهذا هو أفدح المظالم: فالآخر هو الذي ينعم بالشهرة، وأنا الذي يتخوزق بالحياة”.

استسلم تماما غابرييل غارسيا ماركيز في الفقرة الأخيرة من مقاله، لغواية الإبداع، وفجر اللغة والبلاغة وجمالية الوصف بشكل مدهش، وهو يفعل. لا شك أنه كان يرثي في نفسه ذلك الأنا الآخر، الذي انتهى منذ أمد بعيد. الشهرة والمجد والسعادة بمدلولاتها المحسوسة، تركها غابرييل غارسيا ماركيز خلف ظهره، وأضحى يرى فقط طيف أناه الآخر يبتعد ويسير بعيدا منتصرا منتشيا بما حققه في الحياة. أما هو الكاتب الهرم، يواصل دون أسف أمام آلته الكاتبة. فالآخر (ماركيز الشاب) هو الذي ينعم بالشهرة، أما أنا (ماركيز الهرم) فانه يتخوزق بالحياة. والنتيجة، أنا الآخر هو بالضبط الكاتب الكبير غابرييل غارسيا ماركيز .. ربما.

 

_______________________________________

1- ص 46 من رواية ‘مائة عام من العزلة”.
2- ص 95 و 96 من رواية “مائة عام من العزلة”.
* نشرت هذه المادة في صحيفة القدس العربي اللندنية. لـ مصطفى الحمداوي

عدد المشاهدات : 1803

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.