مخيَّلة كورماك مكارثي السُّمية
أشعار الباشا
كلمة للمترجِمة:
قرأت ثلاث روايات لكورماك مكارثي. روايتَي “الطريق” و” خط الدم أو حمرة الغسق في الغرب” بالعربية، و” كل الجياد الجميلة” بالإنجليزية. خلَصت إلى قناعة أدبية وفنية ولها ارتكازها الواقعي أيضًا، هي أن كورمارك مكارثي وبول أوستر أفضل، بل أعظم أديبين أمريكيين معاصرين منحانا وافر الحظ بوجودهما بيننا اليوم. لدي الكثير من الأشياء الجميلة لأقولها عن ديفيد والاس الذي كان معاصراً ومحبوباً وخفيف الظل بل وإبداعياً في كتاباته حتى شنق نفسه منذ سبعة أعوام لسبب مجهول. لكن منذ أن عقدت صداقة غرائبية بيني وبين مكارثي -أدَّت إلى إدمان تصفح كتبه المتوفرة لدي كل يوم- الكاتب والإنسان المتخيِّل الفريد، لا أستطيع مجاملة كاتب أمريكي موهوب ومشهور كمتفوق على مكارثي. مكارثي كاتب عجوز وحساس ويعبر عن حساسيته ضد العنف والقتل والتوحش البشري بالكتابة عنه. عندما تقف البشاعة أمام وجهك ستنفر منها حتماً إن كان في حوزتك بعض من إنسـانية. هذه إحدى غايات مكارثي الأساسية كتابيًّا، وهو الرجل الذي لا يكترث بعدد قرائِه ولا باستثارة حصيلتهم من الدهشة والإعجـاب، يستهدف تطوير ما يستطيع أن يطوره في جاهزية القارئ على التغيُّر إلى الأفضل فقط. لن تجده موضوعياً وأنت تقرأ انحيـازه لرعاة البقر الكاوبويز في العديد من أعماله. لكنك ستجده عبقرياً وأنت تستخرج الجوهرة من الحوارات بين أبطاله الخيِّرين والأعداء. مالت زاويتي الصغيرة نحو مكارثي عندما وجدت بضع تقاطعات طبائعية بيني و بينه، في الكتابة وفي الأفكار التي أعتقدها عن الكتابة. في استخدام الدم لعلاج مشكلة (هو أديب وأنا طبيبة حديثة العمل، أجريت في مسيرتي القصيرة ما يربو عن ثمانين جراحة ناجحة) والأهم من ذلك، ما وجدته يكتبه بصَوتي عن الشهرة وأهمية تكريم الناجحين الذي حققوا ما هم عليه لوحدهم دون دعم ولا عَون. أحب أن لا أتحدث عن شخصية مكارثي، وإنما أقدم اقتراحاً بقراءة رواية الطريق كمفتاح للتعرف على ملامح مكارثي الروائية. أما قسَماته الشخصية فهي مجسَّمة كتمثال الحريـة في رواية “ساتري” التي قدمها كسيرة شبه ذاتية لما يعتقده أهم التفاصيل في حيـاته.
وجدت تقريراً للسيد Richard B. Woodward الناقد الفني الأمريكي في صحيفة نيويورك تايمز، تمت كتابة التقرير ونشره في إبريل 1992. كان حينها المجتمع الأمريكي نفسه يجهل سوبرمان الرواية الذي يعيش معهم ولا يلقي عليهم تحية من باب التعفف لا الغرور. يتحدث تقرير ريتشارد وودوورد عن خلاصة ما خرج به عن مكارثي ومِن مكارثي بعد زيارة قام بها إليه. بدا لي المقال مثل كولاج لرُجل يريد أن يتوج مسيرته النقدية بشرَف وحُب. جداريَّـة مكتوبة بفوضوية خلاقة. يتنقَّل بين الماضي والحاضر ويحرص على تطعيم جميع الأفكار فيه بكلمات لصاحب الشأن الرفيع المُهمَل، مكارثي، والفخور بنفسه بعيداً عن برجوازية الأضواء. هناك قراء عرب قليلون يعرفون مكارثي مهتمين بالقراءة له. لهؤلاء فقط ومن أجلهم لم أقاوم ترجمة هذا المقال السابغ احتراماً عن أكثر روائي أمريكي عُنفاً لغايات نبيلة: العلم، التقدم، و لغة القرون الوسطى الأدبية التي يقوم المهرجون الحداثيون بإضاعتها.
النصّ:
“هل تعرف ثعابين موهافي؟” كورماك مكارثي يسأل. جاء هذا السؤال أثناء تناول الغداء في ميسيلا، نيو مكسيكو. لأن الكاتب المحكِّم، الذي قد يكون أفضل روائي مجهول في أمريكا، يريد توجيه الحديث بعيداً عن نفسه، ويبدو أنه يعتقد أن قصة رحلته التي قام بها مؤخراً بالقرب من تكساس – حدود المكسيك سوف تقوم ببعض التمويه. الكاتب الذي يقوم بطلاء أفعال الرجال المتوحشة بتفاصيل موجعة، نادراً ما يستخدم التحليل التخديري (علم نفس). مكارثي يخطُب كثيراً، أكثر مما يفضي بشيء. هو نوع روائي ذو لسان فضي يتذوق الأصناف الغريبة. يميل على طبقهِ ويدندن بعض الخصوصيات بلكنته التينيسيَّة الناعمة. “ثعابين موهافي لديها سموم عصبية، مثل الكوبرا تقريباً” يشرح، يعطي درساً في تاريخ طبيعة الحيوانات ذات اللونين وخريطة توزيعها في الغرب. يقول أنه اقترب من هذه المخلوقات عندما سافر وحيداً على طول الطريق بمركبته الفورد 1978 بالقرب من حديقة بيج بيند الوطنية. مكارثي لا يكتُب عن أماكن لم يزُرها، لا يكتب عن أماكن لم يقم فيها عشرات المرات بغزوات كشفية مماثلة في تكساس، نيو مكسيكو، أريزونا وريو غراندي عبوراً بتشيهواهوا. المسح الواسع لجنوب غرب الصحراء هو بمثابة استعارة لأفعال العنف العدمية في روايته الأخيرة “خط الدم” المنشورة في 1985، وهي غير مأهولة بالسكان. تجرُّ أرضاً تسيطر مرة أخرى على اللوحة الخلفية في رواية “كل الجياد الجميلة” والتي ستظهر في الشهر القادم من مجموعة كنوبف. (Knopf)
“من المثير للإهتمام للغاية، رؤية حيوان خارج البرية يقتلك قتلة ميت مقبور” قال مبتسماً. “الشيء الوحيد الذي رأيته يجيب على هذا الوصف هو دب أشيَب في ألاسكا”، وهذا شعور غريب، إذ أنه ليس هناك سياج، تعلمون أنه بعد أن يتعب من مطاردة الفريسة يذهب متحركاً في اتجاه آخر، والذي قد يكون أنت!”.
الحفاظ على مسافة محترمة من أفعى، مع عصا مخبوءة. اقتنع بهذا التحرز وانطلق بين الأعشاب. التقى اثنين من حراس الحديقة في ذلك اليوم وكان متردداً في مناقشة موضوع الأفاعي القاتلة المنتشرة بين الرحّالين. ولكن، النوع الواضح من الرجال مثل مكارثي، وضع المسألة في إطارها الصحيح فقال: “نحن لانعرف مدى خطورتها”. أجابا: “لم يصب أي شخص بالعض، لكننا نفترض أنه لو حصل فلن تبقَ على قيد الحياة.” أنهى أحدهما عبارته بعين ضاحكة. لديه حس طرفة ذو لهجة ساخرة تفوق في سمِّيتها اللهجة المستخدمة في روايات مكارثي، لكن العناصر نفسها مشتركة. مواجهة متوترة في أرض محظورة، كوميديا سوداء في مواجهة الحقائق، وفرصة جيدة لضربات مؤلمة. كل واحدة من رواياته الخمس السابقة تميزت بحس ملاحظة طبيعية شديد، نوع من الواقعية المرضيَّة. شخصياته غالباً ما يكونون منبوذين، أو معوزين أو مجرمين أو كلاهما. مشردين أو متقرفصين في أكواخ بلا كهرباء. إنهم يتكومون في أكواخ خشبية غير مأهولة في غابات على شرق تينيسي أو على ظهور خيل سائبة في الظروف القاسية. مساحـات شاغرة في الصحراء. الموت، يعلن عن نفسه في الكثير من الأحيـان. يصل إلى الأرض من سماء مفتوحة. وفجأة، يشق حنجرة أو يصيب وجهاً برصاصة. الهاوية تُفتح عند أية خطوة خاطئة.
مكارثي يقدِّر التوحش في الحيوان، والمناظر الطبيعية والإنسان، وعلى الرغم من أنه رجل في الثامنة والخمسين كان حسن الولادة، جيد التحدث والقراءة، إلا أنه قضى معظم حياته الراشدة خارج حدود هذا المخيم (الأدبي). من الصعب التفكير في كاتب أمريكي رئيسي من بين حقبة الكتاب في جيله كشخص هو الأقل مشاركة في الحياة الأدبية. لم يشارك أبداً في الصحافة المكتوبة، لم يمنح قراءات، ولم يقدم دعاية لكتُب، ولم يجرِ مقابلات. لم تباع أكثر من 5000 نسخة أصلية من إحدى رواياته. وبالنسبة لمعظم حياته المهنية، لم يكن لديه حتى وكيـل أعمال.
ولكن من بين أخويّة الكتاب المصغرة والأكاديميات، مكارثي لديه وقوف ثانٍ بجوار ما يسمى “لاشيء”، بعيداً عن التناسب مع اسمه أو أصله أو نسبة مبيعاته. لديه شخصية دينية مع صيته ككاتب، خصوصاً في الجنوب و إنكلترا. تتم مقارنة مكارثي أحياناً بجويس وفولكنر. ساول بيلو، الذي جلس أمام لجنة في عام 1981 ومنحته زمالة ماك آرثر، أو ما يسمى منحة العبقرية، كان يهتف منادياً بالتغلب على الإستخدام النمطي للغة، وأن يتم وهبها كل شيء من الحياة إلى الموت من خلال التعامل مع الجُمل. يقول المؤرخ والروائي شيلبي فوت: “مكارثي هو أحد الكتاب الشباب الذين يقل عمرهم عن عمري وقد أصابني بالحماس. قلت للجنة ماك آرثر أن مكارثي سيكون تكريماً لهم بقَدر ما كانت زمالتهم تكريماً له”.
الروائي والرجل ذو الرؤية المروعة الذي نادراً ما يركز على المرأة. مكارثي لا يكتب عن الجنس، ولا الحب والقضايا الداخلية. “كل الجياد الجميلة”، قصة مغامرة عن صبي من تكساس يتسابق مع صديقه إلى المكسيك. قصة مخففة و “حُلوة” غير معتادة من مكارثي، مثل مغامرة لـ هاك فين و توم سوير على ظهور الخيل. طبيعة جادة و هازلة لشخصيات فتيَّة. قصة سريعة تذكرنا ببدايات همنغواي، ينبغي لهذه القصة أن تجلب مكارثي لجمهور أوسَع ممن يقرأون له وفي الوقت نفسه ينبغي لها أن تؤمِّن سحرهُ الذكوري. ولكن مهما كان افتقارها للنطاق الموضوعي، فإن النثر في لغة مكارثي يستعيد الإرهاب وعظمة العالَم المادي مع جاذبية مسيحية يُمكن أن تحطم القارئ. صفحة من أي كتاب له، توضع كحد أدنى بين علامتَي اقتباس بدون أي علامة ترقيم أخرى، لا فاصلة ولا نقطة، ستفضي إلى أسلوبه ذي الضخامة والقوة في اختيار الكلمات. قسوة تعبير لا يمكن تصورها يستخدمها في أبسط الأشياء، من صوت الصنبور إلى صوت الباب. جنباً إلى جنب، كما في هذا المقطع النموذجي عن موت غلانتون من على ظهر الدابة من رواية “خط الدم”:
“في مساء اليوم التالي ومع ركوبهم وسيرهم نحو الحافة الغربية، فقدوا واحداً من البغال. انزلق لأسفل أخدود ضيق مع متفجرات عديمة الصوت في طقس جاف وحار، سقطَ تحت أشعة و ظلال الشمس. تدحرج في ذلك الفراغ وحيداً حتى سقط عن الأنظار إلى بالوعة زرقاء باردة أخفَته إلى الأبد من ذاكرة ذهن أي شيء حيٍ كان”.
الوريث الشرعي لتقاليد الجنوب القوطية، مكارثي هو راديكالي محافظ لا يزال يؤمن أن الرواية تستطيع حسب كلماته: “أن تكون شمولية لجميع التخصصات المختلفة والمتعلقة بالإهتمامات الإنسانية”. ومع غزواته الأخيرة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك، كان قد قطع (مشى) الطريق الإنفرادي للقلب المتوحش في الغرب القديم. ليس هنالك أي شخص مهيمِن مثله في الأدب الأمريكي المعاصر. إنه وِحدة مُدمجة. يرتدي أحذية رعاة البقر. مكارثي يمشي بتردد، مثل راقص بارع. شيْبهُ يمنحه مظهراً نظيفاً ووسيم. لديه عيون كلتية زرقاء مخضرَّة مستقرة بعمق في قبَّة بؤبؤ عالية. “إنه يعطي انطباعاً بالقوة والحيوية والقصيد” هكذا قال بيلو، الذي يصفهُ بأنه رجل “محشور في شخصِه”. لمثل هذ الشخص العنيد مكارثي هو شخصية جذابة. متحدث من طراز عالمي. مضحِك، متعنت، سريع الضحك. على عكس شخصياته الأدبية، الذين يكونون في العادة مقتضبي الأحاديث وذوي ثيمة ساخرة. تراكيب عباراته التي يشاركها مع الآخرين هي ذات أناقة مريحة. سهلٌ ممتنع في السيطرة على اتجاه وانسجام أفكاره. مرة واحدة وافق على إجراء مقابلة، بعد مفاوضات طويلة مع وكيلة أعماله في نيويورك، أماندا آربن المخرجة الإدارية في إدارة الإبداع الدولية، والتي وعدته أنه لن يكون عليه عمل لقاء آخر بعد ذلك لعدة سنوات. بدا سعيدًا لأنه قام بالترفيه عن الشركة لعدة أيام.
منذ 1976 كان قد عاش بشكل أساسي في إلباسو، الممتدة على طول خط ريو غراندي، عبر حدود خواريز، المكسيك. منعزلاً اجتماعياً. مكارثي لديه الكثير من الأصدقاء الذين يعرفون أنه يحب أن يُترك لوحدِه. قبل عدة سنوات أقامت صحيفة هيرالد في إلباسو مأدبة عشاء تكريماً له، حذرهم بأدب أنه لن يحضر، وبالفعل، لم يذهب. درع التكريم معلق الآن في مكتب محاميه. لسنوات عديدة لم يكن لديه حائط يعلِّق أي شيء عليه. عندما سمع أخباراً عن مؤسسة ماك آرثر كان يعيش في فندق في نوكسفيل بولاية تينيسي، كانت هذه إقامة منزلية روتينيه لديه منذ تعلَّم أن يسافر برفقه ضوء بعدسة مرتفعة لضمان إضاءة أفضل من أجل القراءة والكتابة. في 1982 قام بشراء منزل حجري أبيض صغير يقع خلف مركز للتسوق في إلباسو. رأيته لكنه لم يدعُني إلى الداخل. بدأ بتجديده منذ بضع سنوات، لكنه توقف بسبب نقص التمويل. قال “بات بالكاد قابلاً للسكن”. يقوم بحلاقة شعره بنفسه، يتناول طعامه في الخارج في صفيحته الساخنة أو في المقاهي، ويغسل الملابس في محلات الغسيل. يقدِّر مكارثي أنه يمتلك 7000 كتاب. جميعهم تقريباً في صناديق التخزين. “لديه اهتمامات فكرية أكثر من أي شخص قابلته من قبل” هكذا يقول المخرج ريتشارد بيرس الذي تعقب مكارثي في 1974 ولا يزال واحداً من أصدقائه القلائل “الإبداعيين”. طلب بيرس من مكارثي كتابة سيناريو عن “ابن البستاني”. وهو مسلسل تلفزيوني عن مقتل صاحب مصنع جنوب كارولينا في عام 1870 على يد صبي مضطرب ذو ساق خشبية. بأسلوب مكارثي النموذجي، بتْر ساق الصبي وإعدامه شنقاً ببطء هي لحظات عند العرض ستستقر دائماً في العقل.
مكارثي لم يُظهر أبداً اهتماماً بالحصول على وظيفة ثابتة. هذه سمة يبدو أنها أزعجت كل زوجاته السابقات. “كنا نعيش في فقر مُجمَل”. هكذا قالت الزوجة الثانية، آني ديلايل. هو الآن يمتلك مطعماً في فلوريدا. منذ مايقارب ثماني سنوات كانوا يعيشون في حظيرة ألبان خارج نوكسفيل. “كنا نستحم في البحيـرة” قالت مع بعض الحنين إلى الماضي “اتصل شخص ما وعرض عليه ألفَي دولار للحضور والتحدث في الجامعة عن كتبه. قال لهم أن كل ما يمكن أن يقوله موجود في صفحات تلك الكتب. إذاً علينا أن نتناول الفول لأسبوع آخر”.
مكارثي يفضِّل الحديث عن الثعابين، والحواسيب الجزيئية، و موسيقى الريف، فيتغنشتاين، وأي شيء، بدلاً من التحدث عن نفسه وعن كتبه. “من بين جميع المواضيع التي اعتنيت بها، سيكون من الصعب إيجاد موضوع لم أكن فيه”، يزمجر: “الكتابة طريقة. طريقةٌ دُنيا في أسفل القائمة”. عدائيته للوسط الأدبي تبدو حقيقية وتكتيكية لتفادي تصوير الإنحرافات على حدٍ سواء. “تعليم الكتابة عمل احتيالي”. في اجتماعات رابطة ماك آرثر كان يقضي الوقت مع العلماء مثل الفيزيائي موري جيلمان وعالِم الأحيـاء روجر باين، بدلاً من مجالسة الكتَّاب الآخرين. أحد الأقلاء المعروفين جداً الذي اعترف أنه كان يعرفه هو الروائي والبيئي الصليبي إدوارد آبي. قبل وفاته بوقت قصير في 1989 قاموا بمناقشة القيام بعملية بحث سرية لإعادة ذئب إلى جنوب أريزونا.
صمتُ مكارثي عن نفسه أثمر مجموعة من الأساطير عن خلفيته ومكان وجوده. نشرت مجلة سكوير مؤخراً قائمة من الشائعات، بما فيها واحدة تقول أنه يعيش الآن تحت رافعة نفط. لسنوات عديدة كان العثور على مجموعة معلومات جوهرية عن حياته المبكرة صعباً ولكن تم التمكن من إيجاد بعض المعلومات في مفكرة الكاتب عن روايته الأولى “حارس البستان” التي نشرت في عام 1965. ذكرَت أنه ولد في ولاية رود آيلاند عام 1933. نشأ خارج نوكسفيل. درس في مدارس محافِظة. دخل جامعة تينيسي، والتي سقط فيها فيما بعد. قام بالانضمام إلى السلاح الجوي في 1953 لمدة أربع سنوات، ثم عاد إلى الجامعة، وسقط من جديد. بدأ بكتابة الروايات في 1959. بالإضافة إلى تواريخ نشر كتبه والجوائز الحاصل عليه، وزواجاته وطلاقاته. ابنه المولود في 1962 والإنتقال إلى الجنوب الغربي في 1974. وقائع مكتملة ذات صلة بسيرته الذاتية. هو ابن محامٍ بارز كان يعمل مع السلطات في وادي تينيسي. مكارثي هو تشارلز الإبن، مع خمسة أشقاء وشقيقات. كورماك، كلمة ترادف تشارلز الغيلي، وهو لقب عائلة عريق رزق به والده من جهة أميرات إيرلنديات.
يبدو أنه حظي بنشأة رغِدة وهادئة عكس ما تبدو عليه شخصياته ذات الحياة البائسة. البيت الأبيض الكبير الذي عاش فيه شبابه كان في مكان قريب من الغابة، وكان مزوداً بموظفين وخادمات. “كنا نُعتبر أغنياء لأن جميع الناس من حولنا كانوا يعيشون في أكواخ مؤلفة من غرفة واحدة أو غرفتين” يقول مكارثي. ما حدث في تلك الأكواخ، وفي عالَم نوكسفيل السفلي، يبدو أنه قد غذَّى خياله أكثر من أي شيء حدث داخل عائلته. فقط روايته “ساتري” المطعمة بصراع مشلول بين أب وابنه، تبدو بقوة، سيرةً ذاتيـة.
“لم أكن الذي تصوروه في عقولهم” يقول مكارثي عن شقاق طفولته مع والديه. “شعرت مبكراً أنني لم أكون مواطناً محترماً. لقد كرهت المدرسة منذ اليوم الذي وطأتها فيه”. ضغط على العبارة لشرح إحساسه بالعزلة. لديه لحظة نافرة من انعكاس الكراهية. “أتذكَّر في المدرسة الثانوية معلِّماً سأل إذا ما كان هناك أي طالب لديه هوايات. وقد كنت الوحيد المتساوق مع كل هواية. لديَّ كل الهوايات التي قيلت هناك. لم تكن هناك هواية لا أمتلكها! بأي تسمية، لأي شيء، بغض النظر عن هويتها، كنت أصطادها وأنخرط فيها. بإمكاني إعطاء كل أحد هواية ما ويظل لدي 40 أو 50 لاصطحابها معي إلى البيت!”. الكتابة والقراءة تبدو الإهتمام الوحيد الذي لم يكن في اعتبار مكارثي في سن المراهقة. ليس قبل أن يبلغ الثالثة والعشرين، أثناء شجاره الثاني مع المدربين في المدرسة، اكتشَف الأدب. لقتل الملل في السلاح الجوي الذي أرسله إلى ألاسكا، بدأ يقرأ في الثكنات، “قرأت الكثير من الكتب بسرعة كبيرة” كما يقول، كانت غامضة على المنهج الذي يدير به نفسه.
أسلوب مكارثي يدين بالكثير لفوكنر في استخدام المفردات الغامضة، وعلامات الترقيم والبلاغة الخطابية، واستخدام لهجة ومعنى ملموس في العالم. لا نزاع على ديْن مكارثي. يقول “الحقيقة القبيحة هي أن الكتُب تصنع من الكتُب”، “الرواية تعتمد من أجل بقائها على الروايات التي كتبَت”. قائمته من أولئك الذين يدعُوهم “كتَّابًا جيدين” تحتوي ميلفيل، دوستويفسكي، فوكنر. ممنوع منها أي شخص “لايتعامل مع قضايا الحيـاة والموت”، بروست و هنري جيمس لم يخفضوا هذه القناعة. “أنا لا أفهمهم” يقول. “بالنسبة لي، هذا ليس هو الأدب. الكثير من الكتَّاب المصنفين بجيِّدين أنا أعتبرهم غربـاء.”
“حارس البستان” بالرغم من فوكنريَّتِها في موضوعها وشخصياتها وبنائها ولغتها، إلا أنها ليست محاكية. قصة صبي وعجوزيْن منسوجين داخل وخارج حياته أثناء شبابه. تمتلك القصة ظلامية خاصة بها. تقع في رابية البلد في تينيسي. تلميحات تحييها الذاكرة دون أن تترك أثراً لعاطفة، وسيلة تلاشي من الحياة في الغابة. ودٌّ ممنوح لكلاب صيد سوداء تربط مصير الشخصيات الهائمين على وجوههم غير مدركين لأي صلة قرابة بينهم. الصبي لم يتعلم أبداً أن الجثة المتحللة التي رآها في الحفرة الورقية قد تكون لوالده.
بدأ مكارثي بكتابة هذا الكتاب في الكليَّة وانتهى منه في شيكا گو، حيث كان يعمل بدوام جزئي في مستودع قطع غيار سيارات. “لم يكن لدي أي شك في قدراتي” كما يقول “عرفتُ أنني أستطيع الكتابة. كان علي فقط أن أعرف كيف أستطيع تناول الطعام أثناء القيام بذلك”. في عام 1961 تزوج لي هولمان، التي التقاها في الكلية. كان لديهما طفل، كولين. هو الآن طالب هندسة معمارية في جامعة برنستون. ثم تطلقا بسرعة. ثم انتقل الكاتب الذي لم ينشر شيئاً بعد إلى آشفيل. شمال كارولينا ونيو أورليانز. تساءلت عمّا إذا كان قد دفع نفقاته في أي وقت، مكارثي شاخراً: “لأجل ماذا؟” يتذكر طرده من غرفة في الحي الفرنسي لعدم دفع إيجارها الذي يبلغ 40 دولاراً في الشهر.
بعد ثلاث سنوات من الكتابة، وضَّب مخطوطته واصطحبها إلى دار راندوم هاوس. “كان الناشر الوحيد الذي سمعت عنه”. في نهاية المطاف وصلت إلى مكتب الأسطوري آلبرت إرسكين. الذي كان محرر فوكنر الأخير والراعي الرسمي لرواية “تحت البركان” لمالكولم لوري و”الرجل الخفي “لرالف إليسون”. اعترف إرسكين بمكارثي ككاتب من نفس العيار، ثم أصبح هذا النوع من العلاقة بالكاد موجوداً اليوم في دور النشر الأمريكية. وأصبح إرسكين محرر كتب مكارثي لعشرين سنة تلَت. “هناك مشاعر أب وابن” يقول إرسكين، على الرغم من اعترافه الخجول بحقيقة: “نحن لا نبيع أيٌ من كتبه”.
لسنوات، بدا مكارثي أنه يعيش على المال الذي حاز عليه نظير رواية حارس البستان، بما في ذلك المنح المقدمة إليه من الأكاديمية الأمريكية للفنون والآداب، ومؤسسة وليام فولكنر ومؤسسة روكفلر. بعض هذه الأموال ذهب باتجاه رحلة إلى أوروبا في 1967، حيث التقى ديلايل، مغنية البوب الإنجليزية التي أصبحت زوجته الثانية. استقرا لبضعة أشهر في جزيرة آيبيزا في منطقة البحر الأبيض المتوسط. حيث كتب “الظلام الخارجي” المنشورة في عام 1968. قصة ولادة ملتوية لفتاة تبحث عن طفلها الناتج من علاقة سفاح مع شقيقها. في نهاية تجوالهم عبر الجنوب الريفي شهد الشقيق، في واحد من أكثر مشاهد مكارثي المروعة، على قتل ابنه على يد ثلاثة سفاحين غامضين حول المعسكر. “رأى هولم النصل يغمز في الضوء مثل عين قط حاقد مع ابتسامة سوداء يندلع في حلق الطفل ويقطع أشلاءه أمام عينيه. لم يصدر الطفل أي صوت. كان معلق هناك مع عين واحدة تلمع مثل حجر رطِب والدم الأسود يتدفق أسفل البطن العارية”.
“ابن الرب” المنشورة في 1973 بعد عودتهما هو وديلايل إلى تينيسي. اختبرَت نقيضين جديدين. الشخصية الرئيسية ليستر بالارد، قاتل جماعي ويجامِع الأموات، يعيش مع ضحاياه في مجموعة كهوف تحت الأرض، كان الوجه المطلوب في تقارير صحافية في مقاطعة سيفير في تينيسي. بطريقة ما، وجد مكارثي تعاطفاً وطرافة في شخصية بالارد، لكنه لم يطلب من القارئ أبداً أن يغفر له جرائمه. ومع ذلك، بين النقاد، لم يتم عرض أي نظرية نفسية أو اجتماعية يُمكن أن تفسر تصرفاته بعيداً. في مراجعة مطولة عن الكتاب في مجلة نيويوركر، سمَّى روبرت كولز مكارثي بـ “الروائي ذو العاطفة الدينية”، في مقارنة له مع الدراميين الأخلاقيين اليونانيين في القرون الوسطى. وفي ملاحظة واعية أشار إلى “رفض مكارثي العنيد لتقييد كتاباته بالمطالب الأدبية والفكرية في عصرنا”. يدعون كاتبًا “مصيره أن يكون غير معروفاً نسبياً وغالباً ما يساء فهمه”.
“معظم أصدقائي من تلك الأيـام لقوا حتفهم”. يقول مكارثي. نجلس الآن في حانة في خواريز، نناقش رواية “ساتري”. كتابه الأطول والأكثر تسلية. نشاهد احتفال مجانين ويحدثني عن البارات القذرة التي يعرفها في نوكسفيل. مكارثي لم يعد يشرب نهائياً. استقال قبل 16 عاماً في إلباسو مع واحدة من صديقاته الشابَّات. “ساتري” تُقرأ مثل وداع لتلك الحياة. “الأصدقاء الذين لدي الآن هم ببساطة الذين أقلعوا عن الشرب”. كما يقول، “إذا كان هناك مخاطر مهنيَّة للكتابة، فإنها الشرب”.
كتب أكثر من عشرين عاماً، ثم نشرها في 1979. “ساتري” رواية ذات بطل حساس وناضج. لا مثيل له في باقي أعمال مكارثي. الذي يعيش في الخارج على ظهر مركب، يصطاد الأسماك من نهر المدينة الملوث. في تحدٍ قاس، كأبٍ ناجح.
الغرور الأدبي، يتمثل في ستيفن ديدالوس، الأمير هال، وأيضاً مكارثي. المنبوذ عن عمد. العديد من المشاكسين والسكارى في الرواية هم من فريق أصحابه السابق في واقع الحياة. “لطالما كنت أنجذب إلى الناس الذين يتمتعون بأسلوب حياة محفوفة بالمخاطر”، يقول. المقيمين في المدينة قالوا أنهم يتنافسون لإيجاد أنفسهم في النص. وهي الحالة التي تسببت في رواية “وفاة في العائلة” لجيمس آجي كرواية نوكسفيل.
بدأ مكارثي بكتابة رواية “خط الدم” بعد الإنتقال إلى الجنوب الغربي بدون ديلايل. “كان يعتقد دوماً أنه سيكتب غرب أمريكا العظمى”، هكذا تقول ديلايل التي لا زالت متألمة، وهي التي كتبَت له “ساتري” على الآلة: “مرتين، جميع الصفحات الـ 800”. رغم كل الصعاب، إلا أنهما بقيا صديقين. إذا كانت “ساتري” تسعى لأن تكون “يوليسس”، فإن “خط الدم” لديها أصداء مميزة من “موبي ديك” كتاب مكارثي المفضل. هناك عملاق أصلع مجنون اسمه القاضي هولدن يصنع خطابات منمقة و مهيبة. استناداً على أحداث حقيقية تاريخية في جنوب الغرب في 1849-1850 (تعلم مكارثي الإسبانية للبحث عنها). الكتاب يتبع حياة شخصية أسطورية تسمى “طفل” يركض في جميع الأنحاء مع جون غلانتون الذي كان زعيم عصابة شرسة من صيادي فروات الرؤوس. التضارب بين النثر المتضخم في القرن التاسع عشر والواقع المقرف منح “خط الدم” غرائبيتها وطابعها الجهنمي. قد يكون هذا الكتاب الأكثر دموية منذ ملحمة “الإلياذة”.
“لقد كنت دوماً مهتماً بالجنوب الغربي”، يقول مكارثي متملقاً. “لا يوجد مكان في العالم يمكنك الذهاب إليه وتجد أهله لا يعرفون رعاة البقر والهنود وأسطورة الغرب”.
بشكل أعمق، الكِتاب يستكشف طبيعة الشر وعنف الغواية. صفحة تلو صفحة، تقدِّم مشاعر عادية عديمة المعنى. ثم حدثت المذبحة التي جرت بين مجموعات من البيض والهنود. لا يوجد أبطال في هذه الرؤية للحدود الأمريكية.
“لا يوجد شيء مثل حياة بلا إراقة للدماء”، يقول مكارثي بفيلسوفيَّة: “أعتقد أن تصوُّر أن الأجناس يمكن أن تتطور بطريقة ما، بحيث يمكن لكل شخص أن يتعايش مع الآخر في وئام، هو فكرة خطيرة حقاً. أولئك الذين تأثروا بهذا التصور هم أول من استسلموا وتخلّوا عن أنفسهم، وعن حريتهم. رغبتك بأن يكون الأمر بهذه الطريقة سوف تؤدي إلى استعبادك، وتجعل حياتك بلا معنى”.
هذه النظرة للواقع التي تشبه ناباً ومخلبًا تبدو عفيفة جداً، ولا يمكن لها قبول الصدقَات والهبات السخية من الآخرين. لكن مرة أخرى، مكارثي ليس نموذجاً رجعيَّاً. مثل فلانري أوكونور، يتجنب غير الأسويـاء. والمفارقات التاريخية للحياة الحديثة التي تحدث ضد “الرُّقي”. مسرحيته “أواني فخارية” كتبَت قبل سنوات ومن المقرر أن يتم عرضها هذا الخريف على مسرح آرينا في واشنطن. تستند إلى عائلة من السود في الجنوب كان يعمل معها لعدة أشهر. انهيـار الأسرة في المسرحية مرآة تعكس اختفاء أعمال المنحوتات الحجرية مؤخراً كـ حِرفة. “رص الحجارة هو أقدم تجارة هناك”. كما يقول وهو يشرب الكولا: “ولا حتى الدعارة يُمكن أن تقترب من عراقتها. إنها أقدم من أي شيء، أقدم من الفنون التي تستخدم النار، وخلال الخمسين سنة الماضية التي ازدهر فيها الإسمنت الهيدروليكي، تلاشت فنون الحجَر، التي أجدها أكثر إمتاعاً.”
بالمقارنة مع قوة الأصوات و المذابح في رواية “خط الدم”، “كل الجيـاد الجميلة” هي أقل خطورة. قمعية و لكن متعقِّلة. الشخصية الرئيسية صبيٌ اسمه جون غرادي كول. يغادر منزله في غرب تكساس بعام 1949 بعد وفاة جده وخلال طلاق والديه. يقوم بإقناع صديقه لاسي رولينز بامتطاء الخيل والذهاب إلى المكسيك. الحوار يصف نوعاً ما تبادلات كوميدية لدى هؤلاء الشباب رعاة البقر مطعمة بموسيقى قاتمة كما لو كانت كلماتهم مسحوبة إلى الأسفل بفعل ريح قادمة من الصحراء. امتطيا الجياد. – هل سبق لك أن اضطربت وكنت محتاراً؟ يسأل رولينز، – بماذا؟ – لا أعرف، بأي شيء. مضطرب وقلق فقط. – أحيانا، عندما تكون في مكان أحد ما لا يفترض بك أن تشعر مثله. إن كنت تريد أن تكون مضطرباً فسوف تكون كذلك على أي حال. حسناً، لنفترض أنك كنت مضطرباً وقلقاً ولم تعرف لماذا. هل يعني ذلك أنك ربما تكون في مكانٍ لم يفترض أن تكون فيه ولم تعرف ذلك من قبل؟ ما خطبك بحق الجحيم؟ – لا أعرف. لا شيء. أعتقد أنني سأغنِّي. وفعَل ذلك.
قصة أفقية لحلقات صبيانية، يجتمعون ويرافقهم دليل متشرد بائس الحظ. يتم احتجاز جيادهم ويلقى بجون غراندي في السجن. الكتاب مصطبغ ببراءة وجلاء جديد في أعمال مكارثي. وهناك قصة حب ناشئة.
“لم تصل إلى النهايـة بعد”، يقول مكارثي، عندما يُسأل عن قلة عدد الجثث في الرواية. “قد يكون هذا فخ رُسِم لك، للتفكير بأن كل شيء سيكون على ما يرام”.
هذا الكتاب هو في الواقع المجلد الأول من ثلاثية.
الجزء الثالث ظل يُكتب لعشر سنوات ليكون نصاً سينمائيًا. على مقربة هو وريتشارد بيرس من صنع الفيلم. شون بين كان من المهتمِّين بالأمر. ولكن المنتجين يتقلبون دوماً في رأيهم بسبب الحبكة، القائمة على علاقة حب مركزية بين جون غراندي كول وعاهرة مكسيكية في عُمر المراهقة. دار كنوبف قامت بإنشاء حملة مع مؤسسات إعلان ودعاية يأملون بأن تجلب لمكارثي اعترافاً بإبداعه وإن كان متأخراً. فينتاج للنشر ستعيد إصدار رواية “ساتري” و”خط الدم” الشهر المقبل، وبقية أعماله بعد ذلك بوقتٍ قصير. مكارثي مع ذلك، لن يقوم بجولات توقيع للكتب. خلال زيارتي له كان يعمل في الصباح على تحديث الجزء الثاني من الثلاثية، والذي سيتطلب رحلة طويلة أخرى إلى المكسيك.
“الشيء العظيم في كورمـاك هو أنه لا يتعجَّـل”. يقول بيرس ويضيف: “إنه في سلام تام مع رتمه الخاص ولديه ثقة كاملة في إمكانياته”.
في قاعة تجمُّع بعد الظهيرة، أصوات الشباب مرتفعة في كل مكان في أحد مراكز التسوق في إلباسو، يتجاهل مكارثي ألعاب الفيديو وموسيقى الروك آند رول ويغادر الطاولة بنفاذ صبر. إنه لاعب ماهر وقد كان عضواً في الفريق في هذا المكان. وهو وضع غير منطقي لرجل بمثل طبعه المتحفظ. أكثر من واحد من أصدقاء مكارثي يصفه بـ: “كالحربـاء، قادر على التكيف بسهولة مع أي محيط وشركة لأنه يبدو واثقاً جداً بخصوص ما سيفعل وما لن يفعل”.
يقول مكارثي: “كل شيء مثير للاهتمام. لم أعتقد أنني كنت ملولاً في تلك الخمسين عاماً، لقد نسيت ما كنت عليه”.
استغنى عن بيته الحجري وزيارة الفنادق واستبدلها (الفنادق) بكتالوجات أوليفيتي. أضاف عن طبع النزول في الفنادق “إنه عمل فوضوي”. يقول عن عملية بناء روايته: “كأن تمضي برفقة صندوق أحذية وقصاصات من الورق”. يُحب الكمبيوتر، “لكن ليس للكتابة عليه”، يقول مكارثي. هذا كل ما قاله عن روايته التي يعكف الآن على إنهاء مسودتها الأخيرة لكنه لا يقول ذلك.
بعد أن أنقذ ما يمكن إنقاذه من المال الكافي للرحيل عن إلباسو، مكارثي ربما يرحل مرة أخرى قريباً، وربما لعدة سنوات إلى إسبانيا. ابنه، الذي أعاد معه تأسيس رابطة قوية، من المفترض أن يكون متزوجاً هذا العام. يقول مكارثي: “ثلاث انتقالات هي حركة جيدة مثل اشتعـال”. هكذا يقول في مدح التشرد.
التكلفة النفسية عليه للحصول على هذه الحياة المستقلة وعلى الآخرين أيضاً، يصعب قياسها. الإدراك بأن الكتَّاب الأمريكيين الموهوبين لم يكونوا ليتحمَّلوا ما تحمَّله من المعاناة والإهمال الذي عومِل به.
اختار مكارثي أن يكون رأساً عنيداً فيما يخص شروط نجاحاته. كما أنه يُحيي ما يمر من ذاكرته، العلم والناس ولغة عصر ما قبل الحداثة. إنه فخور جداً بأن يكون هذا النوع من الكتَّاب الذين لم يعُد تقريباً لهم وجود.
تمت.
هوامش:
- السلتيك، وتنطق أيضاً Keltic هي جماعة قبليَّة من العصر الحديدي وقرون أوروبا الوسطى يتكلمون لغات السلتيك الحديثة. ولديهم إبداع حديث لا يزال قائماً ويتحدثون فيه بلغتهم السلتيكية حتى اليوم. وتعود جذور كورماك مكارثي الأصلية إليهم.
- سول بيلو Saul Bellow. أديب يهودي أمريكي راحل حصل على جائزة نوبل للآداب في 1976، اشتهر برواية “هرزوج” عن أستاذ جامعي يهودي يصاب بالشلل فيمضي وقته بكتابة خطابات وهمية.
- إعادة الذئب أو Wolf reintroduction. الذئاب الرمادية المكسيكية هي فصيلة مهددة بالإنقراض تم القبض على بعضها في 1980 ضمن اتفاقية بين الولايات المتحدة والمكسيك لإنقاذ السلالات المهددة بالإنقراض وتعيش حرة اليوم في ولاية أريزونا ويتم إرسال ما يتم إيجاده منها في كندا ومناطق أخرى إلى موطنها الأم.
- ثلاثية “الحدود” للروائي الأمريكي كورماك مكارثي هي عبارة عن ثلاث روايات تم الإنتهاء من كتابتها ونشرها كاملة في عام 1999. وأدت إلى نقلة جذرية في تعامل الوسط الأدبي الأمريكي مع مكارثي من الإهمال إلى الإحتفاء والتقدير والتكريم بالجوائز والتقارير الصحفية والتسويق العادل لأعماله. اشتهر عربياً برواية “الطريق” و”خط الدم، أو حمرة الغسق في الغرب”. و”الكبار لا وطن لهم”. ولم تتم ترجمة ثلاثيته التي تصنف كـ انعطافة في الأدب الأمريكي إلى العربية بعد.
- الترجمة والتقديم، خاصة بموقع وجود.
عدد المشاهدات : 749
شارك مع أصدقائك
Comments are closed.