نشيدُ الذين لا يذهبون
عبدالعزيز البرتاوي
هل أنت الآن وحيد، تجلس منزويًا في ركن قصي من هذا العالم، تشعر أنك بائس بلا جدوى، وأن أكوام الدهون التي تعلو جسدك، تزيد من لزوجة هذا العالم الدبق؟ هل تحس بذلك؟ هل تشعر بأن أيامك ليست ذا نفع، وأن لياليك مؤشرات بؤس تضاف لسجل خيبات هذا العالم؟ لستَ وحيدًا، كلنا كذلك. أنا وحيد، وأنت وحيد، وهم وحيدون، ولو كانوا سويًا، فلا تغرنك مجامع القوم وصخب ضحكاتهم، في قرارة كل منهم، بئرُ وِحدة معطلة، وقصرُ عزلة مَشيد.
أتذكر هنري وهو يقول لويندا المجنونة: “ويندا، أنا لا أكره الآخرين، أنا أحبّ وحدتي”. ما يقوله أمارجي، وهو يصف الوحدة الكامنة في عظام الوحيدين: “عبر نافذتي الآن، يسيل الليل كله إلى الداخل، ويسيل جسدي كله إلى الخارج، حتى أنكم ستسمعون قرقعة ارتطام نجومه بعظامي، ولن تعرفوا أيها جمجمتي، وأيها القمر”. ما قالته ميجي روير: “أحيانًا يختفي الأحياء قبل أن يفعل الموتى بوقت طويل. أقصد، أحيانًا يكون من الصعب جدًا، أن نعني أي شيء”.
أتذكر الأسطوري بوكوفسكي وهو يقول: “تهرب الأيام كالأحصنة البرّية فوق التلال”. تهرب الأيام، يومًا فيومًا، تتبعها الليالي. تومض النجوم برهة، ثم هي أيضًا تأفل إلى غير أوبة. وتكّات الساعة المغادرة أبدًا تقول حكايات كثيرة مفادها: أن ليس من شيء سيبقى. قم أيها الغريب، واحك حكاياتك، قبل أن لا تجد من يسمعها. تقول الساعة أيضًا: أنه قد مَرّ وقت مُرّ منذ ذهبتِ، وأنْ ما من عزاء لنا، نحن الذين كنّا أكثر عمشًا من رؤية شمس بهائك، سوى بالكلمات.
سلامًا لعينيك اللتين لن تقرآ هذه الكلمات، ولن تقول لها ككل مرة مشجعةً: اكتب، اكتب، فثمة في القلب حكايات تأتي حين نقرأ. سلامًا لوردتك، وزهرة بسمتك، وسلامًا على كل حديقتك. سلامًا للحظة وقتك التي تمرّ الآن بطيئة، وهي تمرّ على الذين كان منتهى همهم لقمة ونومة مرّ السحاب. هل أنتِ وحيدة الآن؟ نحن كذلك وحيدون وبائسون.
أفكر ما الذي قد تفعلينه الآن؟ بالنسبة لنا هنا: الكثير من الغبار، وأظن أن لديك حصة كافية منه. سيارات تعبر بجنون. إنهن يقدن أيضًا، وفرحات بذلك، في بلد لا يقود رجاله، بل يقادون، عبر النشرة والرأي المفروض لا المعروض والخطبة المكرورة والتغريدة مدفوعة الثمن الرخيص. هنا أيضًا مقاهٍ كثيرة، قد أعجز عن وصفها لك. الكثير من الأسواق التي تتزايد، والأشواق التي تتناقص. الكثير من العمّال المتعبين، يمضون قسرًا نحو بلدانهم، وهي لا ترى في بلدنا الكبير، سوى بعثرة فوضوية لما قد يأخذونه ملطخًا بالعرق والغبار.
لا أتذكر جيدًا ما الذي حدث حين عرفت نبأ رحيلك. لكني عرفت أن العالم صار أكثر قبحًا، وأعلَنَ فجاجةً وأقل ورديّة وتورّدًا. لقد صارت صباحات الرياض أشدّ كآبة، ولم يعد ليلها رقيقًا سوى في تكرار أغاني العجوز الذي يستنفدون صوته حتى آخر نغمة/قطرة في مهرجانات المباهاة التي هبّت على جفاف الصحراء فجأة. المقاهي لم تعد المقاهي، والحكايات ما عادت هي الحكايات. أذكر أول مرة قلت لي: أين يقع هذا المقهى؟ وأذكر الآن أنه لم يعد ثمة هنالك مقهى ولا نادل ولا كوب حزين بانتظارك.
أتذكر أنه ما كان من خبر يخصّ مآسينا، إلا وكان منكِ ما يواسينا. لا يومَ لا أجد لك فيه كلمة عن القدس، القدس التي صارت تجيء على حياء في نشرة الطقس، وتغيب بوقاحة عن نشرة الوعي. لا أذكر يومًا بلا “لا”، تعلنين فيها رفض قباحات العالم المرّ هذا، كانت “لا”، كما أعتقد كلمتك المفضلة، وحرفك الأثير. حروفك منذورة للضعفاء، وسنابل كلماتك باسقة في ميادين الرفض. أوَ تقدر ريح الهشيم أن تفعل شيئًا سوى أن تهشّ عن حقولك الغبار؟
كان لي قريبٌ أُمّي. علّمته الجبال لا المدارس، ورعي الأغنام لا رعي المعلمين، وأنضجته الشمس لا المناهج، ونمى جسده فتيًا، بفضل أكل أمه المعدّ في عافية البيت، لا هراءات مقاصف التعليم المعبأة في خواء الترويج، فغدا حرًا أصيلًا، كما شجرة وسط الصحراء الخالية من نسمة هواء وقطرة ماء. أذكر الآن حين صحوت ظهيرة، وهناك على سقف غرفته، التي تقبع تحت إطلالة بيتنا وجدته يبكي. وحين نزلت صوبه، أسأله ما الذي حدث؟ أيّ خطب ألمّ به أو بأغنامه، فأخبرني بصوت مثقل بالبكاء: لقد مات طلال، رحل صوت الأرض. من سيؤنس الآن، صباحات الراعي الغريب؟ وهذا المسجل الكبير، ماذا سنصنع به بعد طلال؟ قلت له وأنا أفكر بحمقه: ستبقى لك الأغنيات، حتى لو ذهب طلال، فضلًا على أنه لا يستحق منك كل هذا البكاء، رحيل مغنٍ ما. مضيت نحو باقي يومي، وتركت له صوت طلال يعيد عزف: “مقادير”، ونزف دموعه.
والآن، كلما أدرت المذياع صدفةً، ومرّت على أثير موجة الهوى والهواء: “وأنا راجع أشوفك”، بدفء صوت طلال الذي يقصّر مسافات الحنين، ويطيل لياليه، أتذكر دموعه -تذكرته قوقل مؤخرًا ووضعت صورته أيقونة بحث في ذكرى الميلاد والرحيل-، وأتذكر ما يقوله علي الشدوي عن أسلوب طلال، طلال الأغنية فقط، لا المكياج ولا الصورة ولا تشخيصة الشماغ ولا الغلاف ولا حطة العقال المتأنقة كما يفعل جواري الطرب العربي اليوم، وهم يتنقلون بين المهرجانات والجنسيات والمواقف. طلال الراء والرقة والرنين الحزين.
أتذكر كل هذا، وأنا أمر من شارع فرعي هنا، فأجد على باب قديم، لوّحته الشمس، عبارة كتبها عابر ما: “ارجعلي”، وأجد قلبي يقول معه: “أنت أيضًا، يجب أن تعودي”، لأني الآن أعرف ماذا تعنيه دموع قريبي الأمّي، وماذا يعنيه فنّ بحجم ما صنعه طلال من أطلال، وماذا يعني أن يولد المرء في وطن صار شعاره “زمان الصمت”.
عدد المشاهدات : 4485
شارك مع أصدقائك
2 Comments