هناك قِبلة القلب
فاطمة محمد
(١)
نولّي مكّة وجوهنا، ونولّي قلوبنا نحو المدينة. هي حضن من لا حضن له، ومن له حضن.هي مأوى من لا مأوى له، ومن له مأوى. كل الطرق ذهاب، ووحده الطريق لها عودة. وكُلّ مسلمٌ مدينيٌّ بطبعه. هي وطن، وكل ما عداها اغتراب. يكفي أن تكون من أمّة محمدٍ، وجئت لتلقي سلامًا عليه، فتحضنك وتربّت على قلبك وتقول لك: “ابصر النور من قلبك، هذا الطريق الذي سار عليه نبيّك فاتّبع خطاه”.
تذهب إلى المدينة وأنت تحمل في قلبك وعقلك أنها المكان الذي اختاره ”محمّد” صلّى الله عليه وسلّم ليكون مدفنًا له، أن يتشرّف ترابها بضمّ جسده الطاهر، بعد أن امتلأ نسيمها بعبقٍ من أنفاسه الطيبة، فصارت هي “طيبة الطيّبة”. الطيّبة هواءً وأرضًا وسماءً وماءً وسكنًا وجِوارًا وناسًا. “إنّها طيّبة، تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الفضّة”.
وفي المسجد النبوّي، وفي الروضة، وبجوار القبر الشريف، وحيث ستقف، وتحت عمقٍ ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد لامس تربة الأرض، ربما في ذات البقعة التي تقف الآن فيها، قد وقف أو اتكأ أو سجد.
هنا نزل جبريل يمشي على قدمين، هنا حفّت الملائكة مجالس الذكر النبويّة، هنا عبر”رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقام الصلاة”، و”رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه”، هنا حضن الأنصاري أخاه المهاجر. هنا النُصرة، هنا الصدقات جُمعت، هنا احتفال النصر ببدر، هنا بكاء شهداء أُحد، هنا التخطيط لحفر الخندق، هنا الوفود تُعلن إسلامها. هنا سامح أبوبكر، هنا غضب عمر، هنا استحى عثمان، هنا ابتسم عليّ، هنا لعب الحسن والحسين. هنا الصحابة يسألون، هنا الرسول يجيب، هنا يدعي لابن عبّاس، هنا يحمل الحسن والحسين، هنا يسابق عائشة، هنا يسرّ لفاطمةٍ فتبكي، ثمّ يسرّ لها ثانية فتضحك. هنا قال: “وددتُ أنّا قد رأينا إخواننا”. هنا كانت السماءُ قريبة.
(٢)
في رمضان، وحين ينشغلُ الناسُ بماذا سيفطرون، وأيّ الأطباقِ يعدّون، يأتي المصلّون إلى المسجد النبويّ فارغي الأيدي، ويخرجون وقد امتلأت قلوبهم وبطونهم. فأحفاد الأنصار الذين آووا محمدًا حين طارده قومه، هاهم يفتحون بيوتهم وقلوبهم لأمّة محمّدٍ من بعده. منذ أن طلع البدر عليهم، واستقبلوه حتى ما بعد الآن، وأهل طيبة يتنافسون في إظهار الكرم، ليس الحاتميّ بل الأنصاريّ.
ليسوا أبناء قبيلةٍ واحدةٍ، ولا يتحدثون لهجةً واحدة، لكن تعرفهم بسيماهم. هم الأشخاص الذين على شكل قلب. قلب كبير يتّسع للجميع. من أيّ جنسيّة كنت، وبأي لسانٍ تحدّثت، ستجد الترحيب ذاته وكرم الضيافة إيّاه.
إكرامًا للمختار، ساكن أرضهم، يكرمون كل من جاء إليهم، ولا يجدون في صدورهم غلّاً على أحد. وأولئك الذين أنعم الله عليهم بنعمة أن يستشعروا أنهم يدخلون إلى النبيّ حقًا، وأنه يراهم، كتلك المرأة العجوز التي تقول لصديقاتها وهن يبكين فرحة أوّل زيارةٍ لهنّ للروضة: “اخفضن أصواتكن. لقد أمر الله الصحابة أن يخفضوا أصواتهم عند النبيّ”.
وأخرى قالت لبناتها وهن خارجات: “لا تعطين رسول الله ظهوركن، ودّعنه بوجوهكنّ” أمسكت بكتفيّ وأدرات جسدي وقالت: “إيّاك”.
(٣)
شعور الـ”الأمّة الواحدة”، شعور آسر وجميل. أن تلتقي بأناسٍ بين صلاتين، أو تجمعكم سفرة إفطار واحدة، أن يحاولوا الوصول إلى كلمة أو كلمات مشتركة ليتحدثوا معك. هذا النوع من الصداقات المؤقتة، عدّة دقائق أو ساعات. أُفكّر ربما لقاؤنا التالي سيكون في الجنّة، عندها لا تنسَ أن تسألهم عن أسمائهم.
شعور الأمّة الواحدة في موقف تلك القادمة من أقصى الشرق، التي أسلمت قبل شهرين، تقف للصلاة على ميّت لم تعرفه يومًا، وبعد التكبيرة الثالثة تدعو له وتبكي.
العجوز المغربية التي طلبت منّي أن أعيد شحن كاميرتها. الشابّة الكويتية التي أزاحت أغراضها لتفسح لي مكانًا. المرأة المصريّة التي شدّتني من ذراعي “عاوزه أدعي لك بإيه؟”. الطفل الباكستاني الذي يوزّع إفطارًا عند باب (٢٥). الفتاة البخاريّة التي تخبز كلّ يوم معمولاً توزعه على الصائمين. العجوز النيجيرية التي تصنع قهوةً سوداء وتوزعها قبل صلاة العشاء وبعربيّة مكسّرة تقول: “عشان صلاة لازم صاحي”. (أم سعد) العجوز اليمنيّة التي تمدّ سفرًا طويلة للصائمين وتوزّع القهوة والرطب هي وبناتها ولمدة ثلاثين يومًا.
(٤)
أكسر كأس الذكرى على رصيفٍ أطأه مرة أولى بدونك، وأمشي. أتذكر كسلك. تذمّرك من كثرة طلباتي، ورغم ذلك تستجيب. ترتدي ثوبك، أرتدي عباءتي وننزل بعد أن ينتصف الليل.
نقصد محلّ القهوة الذي كاد يُغلق. ندخل من بابٍ خلفيّ صغير مخصص للموظفين. نضحك كمن يفعل أمرًا ممنوعًا غلسةً. أطلبُ قهوة، تطلب شايًا ونخرج. نتسكّع في الشوارع وعلى الأرصفة المحيطة بالمسجد نتحدث كثيرًا. تسخر من أسماء الفنادق. أخبرك أنني أحبّ الجلوس على الأرصفة فتستجيب لي ونجلس.
بعد منتصف الليل بقليل أنا في المدينة، أنزل بهدوء لوحدي، أطلب قهوة من محل القهوة ذاته غير أنّه يعجّ بالناس الآن. أذهب للمسجد النبويّ، أستلقي وعبر فوهة القبّة أنظر للسماء. أفتحُ يديّ باتساع. أتخيّل أنّك من السماء تفكّر أن تُلقي نظرة. وتفتح يديك باتساع. نلتقي في حضن. رغم “أنك بعيد، وحضنك بعيد، والسماء بعيدة”.
عدد المشاهدات : 1382
شارك مع أصدقائك
One Comment