وأيامٍ لنا بؤسٍ قصارٍ
عبدالعزيز البرتاوي
ماذا يمكن أن يكتب المرء، في أيام كهذه، حيث القراءة لوحدها، بوصفها فعلًا سابقًا أو ربما -بالاعتذار من كليطو وبورخيس قبله- متدنيًّا عن الكتابة، عملٌ جبّار خارقٌ مذهلٌ، يتلقى الناس عليه التهاني والتباريك؛ بوصفه إنجازَ عامٍ هائل، لم يكن بورخيس نفسه -لولا عماه المتأخر- ليحوز مثل ثلثه، لو بقي حيًّا ومبصرًا، من يوم مولده، حتى اليوم. يذكر هاري ماثيوز، أن “تجربة القراءة، هي تجربة القراءة، وأنه في أميركا، ثمة تقليد يقول أن ما يجب أن يفعله الأدب، هو أن يقدم لك شيئًا حقيقيًا، وفيما يخصني -يقول-، الشيء الحقيقي الوحيد، هو الكتابة”.
تتكوّم العناوين وتتكدّس الكتب، في “صور” أحدهم، كما لو كان مكتبة كونغرس تمشي على قدمين، وهو أضلّ من بعير أهله، لو كان لأهله بعيرٌ غيره.
ماذا يمكن أن يكتب المرء، وهو يرى كيف تتلاشى المسلَّمات التي درج في ثبات ميادينها، نُصبًا نُصبًا تتهاوى، منارةً منارةً تُقصف، والذين كانوا يشيرون له إلى شموخها، أضحوا بلا أصابع ولا وجوه ولا وجهات، بلا صوت ولا فم ولا صدى. سبع حظائر عربية، تعلن تطبيعها مع شُذّاذٍ آفاقٍ، تمّ جمعهم في حظيرة مستجدة، بأعلاف ذات جودة عالية، وأسلاك شائكة، وراعٍ متغطرس، يحسب أن الحظيرة المغتصبة، بوصفها “مجتمعًا” يمكن أن تستحيل مع الأيام والليالي، إلى دولة.
أيام أولى، لعام جديد، وجيّد ربما -لنتفاءل-. لا قوائم قراءة، لعام الحظر الماضي. تكفينا قوائم الموتى. لا قوائم قراءة آتية. تكفينا قوائم المفاجآت. لا أفلام، لا مسلسلات. مشهد الواقع يسلسل أيامي، ويسلّس بالحزن لياليَّ. والذين كانوا أبطالًا على شاشة الفيلم، اكتشفنا متأخرين، أنهم هم المجرمون على شاشة الأخبار. إضافة إلى ذلك، تذكر سفتيلانا ألكسيفيتش أنها “توقفت عن تصديق الأفلام والمسرحيات، حيث الناس يبكون ويعانون ويصرخون. وهذا ليس بصحيح على الإطلاق، فالذين يعانون يتكلمون بصوت خفيض، بهدوء شديد، قد يبكون قليلًا، ولكن دون انهمار للدموع”.
وتحسب أنّك تعيس المدينة الأوحد، تخرج من بيتك حزينًا، لأتفه أمر، فيلتقيك عامل غريب، قادمًا من بلاد دونها آلاف الأميال من الدروب والحنين، يلقي عليك التحية، طمعًا في كرم بخلك -نعم لا تفكر بغير ذلك يا حاتم طيء-، وتفكّر: كيف يقضي أيامه وأماسيه، يجمع قاذورات بيتك، قبيلتك، مدينتك، بلدك، بعيدًا عن كلّ ما أحبّه، ومن أحبوه، ثم تبصق على حزنك، وتذهب.
تكلّس روحك عاديّة الأيام. يعلو الدبق والزيف كل ذي البسمات. تفاؤل ساذج تلمحه على الوجوه المتشابهة السحنات، المتطابقة الهيئات، يؤجج غضبكَ. لستَ متشائمًا، لكن كل هذا التفاؤل الأحمق، بحاجة إلى قنبلة. استيقظ أيها العالم القذر. التفت صوب الذين لا يلتفت إليهم أحد. توقف عن سلوك الطريق المنحدرة. عن اللهاث في درب أنانيتك، واتّباع رسول نفسك، وتصديق أنك فردٌ غريب، ورمحٌ قويمٌ في كنانة الأيام.
مفتتح عام أول، يجب أن يكون فيه بعض التفاؤل، تقولين، ههه، نعم، في كل بياض نقطة سوداء، وبين كل سرب نوارس غرابٌ، وفي امتداد الصحو غيمة، وخدّكِ -يا لخدّك- تعلوه شامة. نعم، لنتفاءل إذًا، أنهيتُ عامي الماضي، عازمًا على التفاؤل، وقد أغلقتُ قنوات الأخبار، وأتابع بجدّ مشوب بالإعجاب والدهشة قنوات الحيوانات البرية -لا تعجبني البحرية، لا يمكن مشاهدة دموعها-.
افتراس محدد، وضوح غاية، ونهاية مقصد. يأكل الحيوان ليعيش. يفترس لأنه يخاف. يركض لينجو. لكن ماذا عن الحيوان الكبير، قاهر الحيوانات الأخرى، مبيدها، مبعثرها، مكيّفها لحيواته وميتاته، إنه لا يحصل على قناة واحدة لعرض وقائع توحشّه، إنه يمارس افتراسه عبر قناة الحياة الممتدة، يوثّق وحشيته بنفسه، يأكل ليصوّر للآخرين بطرَ وليمته، يفترس ليباهي، يعلّق إنسانًا أو حيوانًا من غير جنسه ليضحك، يعدو ليهربَ غريبٌ، وينفِرَ آمن. يبطش ليتسلّى، ويروّعُ ليأنس.
وبرغم المتابعة المطوّلة لقنوات الحيوان، لم يحدث أبدًا أن قتل حيوانٌ آخرَ لأنه لا يشبه لونه، أو يخنقه لأنه أحمر أو أسود أو أبيض. بينما يفعل الحيوان الناطق البغيض ذلك. في أكبر حظائر العالم، المستندة على قانونية الراعي، ودساتيره، يبطش حيوانٌ أبيضُ بأسود. يقتله أمام وضحَ الكاميرا، وبرودة الإسفلت. ثار الناس وقتها، ركع آخرون للتضامن، توقفوا لهول الصدمة، ثم أكملت الحظائر مسيرتها، أنت أسود يا أخي، ويجب أن تبقى محلّ الريبة، حتى ينجو الحيوان الأبيض، ويصل جهنم سالمًا.
تسألينني عن العام الماضي؟ مذهلًا كان -من الإذهال والذهول والرعدة يا نوثومب-. فقدتُ أقارب في الوباء. وأنا شخص لا يحب التعازي ولا مناسبات الأقارب -الفرِحة منها خصوصًا-، لكني كنت حزينًا حين كان الأمر كذلك جبرًا. كنا نتبادل إيماءات الحزن مع عائلته، وسطور التعزية من خلف حجاب. بدونا كحيوانات أكواريوم كبير، لكن بدموع هذه المرة.
كان أحد هؤلاء الراحلين، يملك مكتبة مذهلة، وكتبًا قيمة، أجّلت أحاديثَ كثيرةً معه، لأجد الوقت لمناقشتها، وتفصيل ثناياها لاحقًا، لكنه لم ينتظر، ولم يجيء الوقت. التقيته عبورًا خارج مناسبات العائلة، في خمسة أو ستة معارض كتب، خارج وداخل البلد، صدفةً، لكني لم أكن أتوقع أن يكون هذا العام بأكمله، بلا معارض كتب، ولا لقاء معه، لن يأتي بعد اليوم. رحل ومعه كتابه وحده، آملًا أن يأخذه بيمينه، وأن ينادي لاحقًا: “هاؤم اقرأوا كتابيه”.
ماذا يمكن أن أقول لكِ في عامك التالي؟ أصبحت جمرة المباديء حارقةً أكثر من نعومة أكفّنا البائسة. صار استهلاكنا يلتهم كل شيء. نلهث خلف كل دعوى، ونعوي شبقًا تلو كل دعاية. نطارد سرابات الأيام. نصحو كل يوم، لنلعن الأمس، ونترقب فواجع الغد، لا بحرص الرصانة، بل ببلاهة الاعتياد. لا يملّ الناس كل هذا الدبق المتفشي لِلزوجة أيامهم، وشوَه لياليهم. تسوقهم نشرة أخبار، وتردعهم أخرى. ينفلتون في مروج الوقت، كما يشاء لهم أول راعٍ، ويجترّون خيباتهم ليلًا، كي يوقظهم الراعي من صباح الغد، ليتلوا الجميع بخشوع، نشيد الذئب، وصلاة الوليمة.
وفي طريقي متأخرًا -كالعادة- إلى عملي، في صباح أقرب إلى الظهيرة، كان الصوت المنبعث لمعلقة عمرو بن كلثوم، تمرّ قوافيها متوازية مع إشارات الإسفلت البيضاء، في مطلع عام تفتتحه بـ “وإنّا ستدركنا المنايا .. مقدَّرةً لنا ومقدّرِينا”، و”إنّ غدًا وإن اليوم رهنٌ .. وبعد غدٍ بما لا تعلمينا”. أواري دمعةً قبل دخولي لمقر العمل، فكل ما حكاه الجاهلي هذا، من عزة وكبرياء وفخر وحماسة وشمم، تعيش اليوم نقيضه، ليس على مستوى الحقيقة، بل وعلى مستوى الشِّعر الذي أعذبه أكذبه، حيث صار كذبه رخيصًا أيضًا، ويلائم المرحلة، يتمطّى هاويًا من جلال “وأيامٍ لنا غرّ طوال .. عصينا المَلْك فيها أن ندينا”، ليصل إلى انسحاق النشيد الوطني، والتسبيح بحمد جلالته وسلالته.
عام آخر. عمرٌ آخر. مدنٌ أخرى. وغرباء سنشهد معهم غروب أماسٍ جديدة. طرق كثيرة، تفضي أحيانًا إلى ما نريد، ودائمًا إلى ما لا نريد. أحلام، وأمانٍ، وأغانٍ، سيذكّرني بعضها بك، والبعض الآخر، سأكون مشغولًا حالما يكمل التسجيل طريقه نحو النسيان. أكتب هذا من مقهى، كانت أحلى من قهوته وإطلالة الشمس على مدخله، ضحكتك.
عدد المشاهدات : 3512
شارك مع أصدقائك
One Comment