سئمت تكاليف المزرعة
عبدالعزيز البرتاوي
يوم إلا، يفصلني عن نهاية عام خائب. بكل أمل أكتب هذا. ليس من شؤم أن تدوّن بما تملك من كلمات هزيلة، مرور كل هذه الجثث والأشلاء، في مقالة. ليس من فألٍ، أن تتجاهلها. حماقة لا أكثر. يوم واحد أتملّى فيه عاما كاملا، قلت فيه للرجل الذي سألني يوم أمس، متى تبدأ المباراة المجنونة بين فريقين محليين أحمقين: إنني لا أتابع على الشاشة ولا خارجها أي كرة عربية. تكفيني الجماجم.
عام كنّا فيه الأقل، في كل أمر حسن. والأكثر في مدارج السوء، وتوابع الحسرة. لا جديد، سوى موتٍ مستشر، أعلم أن ثمة من يلقي اللوم الآن على من عداك، وما سواك، لكنّك تتحمل وزر بقائك في عالم كهذا، لا تبالي بأكثر من جوع تسده، وهوى تتبعه.
اشتبهت الأشياء. غمُض الخير. صار الشيخ حاجبًا للسلطان. وأمسى المثقف بوّابًا عند السجّان. تكتظ السجون في بلدي. ليس من مزاج ولا من مجاز في هذا الكلام. في القرن الحادي والعشرين، إثر النفط والإعلام والأثرة، يرعوي بلدي منتكسًا، نحو قرونٍ وسطى جاهليّة. المجد لما قاله الأمير، وكل ما عداه صغير صغير.
مقدمة ابن خلدون ومؤخرته على السواء، لا محلّ لها هنا سوى الركل. إن لم يكن بقدم الأمير الجليلة، فبأقدام الرعيّة الذليلة. يلتمسون لكل قرارته، مهما اشتطت خطأ وظلمًا، أبوابًا وتيساير وأعذارًا لا نراها نحن جوقة العميان. و”المغامسي” الذي غمّس الشاشة بدموعه كثيرًا، شارحًا كلام الله، بكى على كتف الفيصل أكثر، غامسًا يده في جيب الأمير.
بالمناسبة: الشيخ الذي كتب في زمن النحول: “لا تحزن”، صار الآن سمينًا، بما يكفي ليكون كبش الخليفة. بالطبع لن يضحي به. يحتاجه لمناظرات أُخَر. وثمة رمضانات تنتظر برامجه الوقورة قبل الإفطار، قبل أن تغني المذيعة الـ للتوّ ابتلّت حنجرتها من ظمأ الماء، وجاء عطشها إلى البترول. عام تجوّل فيه العرعور على مساجد المساكين، حفاة العاطفة، البسطاء، قومي الذين تهزهم دمعة، ويؤثر فيهم قول كل ذي لحية، ويسكت أوار حزنهم مقال لمتسكع على أبواب الأمراء، في صحيفة همّها رضا السلطة قبل الله والناس والحقيقة. تصدقت أمي بقطعتين ذهبيتين للشيخ العرعور، مطلع العام، آخذة منه أيمانًا، أن تذهب للرصاصة التي ستقتل بشار، لا غيره. مرّ عام، والعرعور يعرعر على مساجدنا، يأخذ من حليّنا وأموالنا، في اللحظة التي تموّل حكومة أمي، حكومة بشار، بالنفط والنار. بينما تشتعل الحروب الصغيرة كأورام، بين أمراء الحرب والهزيمة. ما الذي تبقى من دمشق لنعرفه. ما الذي ظلّ من حلب، لنحلبه من ذكرياتنا، في كتاب التاريخ.
وأنت تقرأ في كتاب تاريخٍ ماضٍ، فكّر: أن ليس من شيء لم يُقل. نعم، تتأمل ما يجري في ميادين مصر، فترى أن كل ما قرأته عن مرتزقة الحروب، وعوام الناس، وسفلة الأيام، ينبعث أمامك الآن. خوف الموت، أو طمع الحياة. الأرض التي أنجبت جيل الرواد الكبار، الكتبة الأدباء، المفكرين الأفذاذ، يتزاحمون على منابر رسالتها، ومنصات أهرامها، وحكايا هلالها، يغيبون، لتخلو الساحة للأقزام. جيل السفلة، عبدة الجنيه والبسطار. من يحركهم عسكريّ، ويوقفهم برميل. الأعرابي الذي تحتل بلده المقسمة كما رقعة منبولي، إيران، يدخل مصر، شيخَ أعرابٍ كبير، يوزع النقود، كما لو في مرقص، يهب من يشاء، ويودع السجن من يشاء. لأنه زمن الفلوس والفلس والسفلس. لأنه زمن الخنوع والمطامع اليسيرة. من كانت تحركهم مؤامرات وهيمنات دولية، صار أعرابي لمّا يعرف ارتداء البشت، والخروج من حانة، يفعل بهم كما يفعل بإبل أبيه.
وبتذكر دوري المباريات العربية، أحبّ كثيرًا، الدوري اللبناني. السني الشيعي. البترولي العمائمي. القبيح والمرّ. الجبان والهلِع. تفجير في الضاحية: ذهاب. تفجير في طرابلس: إياب. وأنا أتحين بين التفجيرين لألقي نظرة على بيروت. بيروت التي لا تموت، تشمخ كأغنية، وتحلّق كنورسة، وتستفتح صباحها، بفيروز، وتنهيه بتفجير. تفجير دبلوماسيّ شيعيّ، يعقبه تمزيق وزير سنيّ لأشلاء. والبلد يمور بضحاياه. قلت لصديقي، كل عام يجب أن نقف على قبر رفيق الحريري، لا لنراه، بل لنعدّ القبور المتكاثرة على أطرافه، في حفلة السفال المذهبي الحاقد والجبان. وحزب الله الذي كان يجمّع عسكره حماية للبنان، صار يفرقهم حماية لسوريا. وعلّ يوم أن يبان حاميًا لإسرائيل، ليس ببعيد. حماة الديار، خبتم.
أبتسم الآن كأبله. آملًا، أن تجيء كل البلدان في الحكاية، إلا “بلدي” يا حمزاتوف. أجّله. أخّره. لا تجعلني أحمقًا أمام الكلمات. فاغر الروح في مرآة التذكّر. مصفوع القفا قبل الوجه. بلدي. بلد الحملات التصحيحية على الضعفاء والهزالى والمهمّشين، الهاربين من جحيم الموت، وبؤس العيش في بلدانهم، والسكوت الأرعن أمام نهب الكبار، ومخصصات طويلي العمر، وشبوك الأراضي المقفرة كأرصدة المواطنين. بلدي، بلد “نزاهة” على محلّ الفول المجاور لبيتنا، واكتشاف أن عامله، خابز ألذ تميس بالبلد، كما تقول أمي، ليس سوى نصّاب كبير، لم يؤدّ ثمن تأشيرته للجوازات. “نزاهة” العمياء، عن كل قصور ومراكب وخدم ليس جلالته، بل وأبناء أبناء عمومة جلالته، ومن تبعهم بآل إلى يوم الدين. لن أحكي عن “بلدي”. إن كانت الشماتة في الآخرين حرام، فهي في النفس كبيرة. مرض. ولن نفتح الباب للغرباء، ليروا أي أضحوكة، تحاول صحف التوت المسوّس مواراتها كل صباح.
“لقد هرمنا”، قالها التونسيّ، شرّاب القهوة المجيد. “لقد غرقنا”، في الدم. قالتها بنت البلتاجي. صرخت بها أم سوريّة. همسها جذع منارة مائلة. لوّح بها العسكريّ اليمني، الذي لا يعرف فيمَ يقاتل، ولا من يقاتل. “لقد فقدنا الأمل”، قلتها وأنا أرى جموع الهجيان الأحمق، تؤله عسكريًا، رأس ماله بسطار، في ساحات القاهرة المقهورة. لكني أكاد الآن أسترجعه، وأنا أرى كل معالم الشؤم المتفائل هذا. إنه من باب: لا يمكن أن تسوء الأمور، أكثر من هكذا. والشتاء يعبر، والربيع يبقى, ولو لم يرد الطاغية، حاثي الأموال، وزارع الفتنة، لكي يبقى سيّد الكرسي، لا النعش.
عن مسألة العمر، وما يلحق بها من مضيّ الزمان. أكتب في اليوم السابق لآخر يومٍ من العام. بالطبع العام الذي أحببت، لكونه يردف في آخره الرقم 13. أي ما يغيظ ذوي النفوس المتطيّرة بالفطرة والحماقة. وبالطبع: العام الأكثر كارثية ربما. استمرأ القتل والسجن في كلّ مكان من أرجاء العالم، لكأنما صارت الحرب، هي الأمد، ببين نزهتي سلام من وهم. عن مسألة الهرم، ورؤية التجعدات تغزو وجوه من نحبّ. عن رؤية السواد يعلو رينه قلوب العالم، والشيب، يكسو بياضه رؤوسه. وعن أشياء جديرة أن تشبه رسالة العمل يوم أمس: “يستعد المخزن للائحة الجرد، لرؤية ما تبقى من عام. لذلك نأمل أن لا طلبات حتى مطلع العام القادم”.
عن ابتسامات الأطفال، هنا، وارتجافات أطرافهم هناك. عن هذا التاريخ، الذي لن نعبر به كما يريد الأمير، راعي مزايين الإبل، عن كل ما سبق، ولأجله، أدوّن في آخر يومٍ من العام، حكاية، مفادها: لقد جئنا لنبقى يا أبناء الطاغية، وجئتم، لتشيّعكم اللعنات. سنحزن، ولو بالقلب، لأجل كل بائسي هذا العالم، نشاركهم نخب القلق من غدٍ آت، لكنّا سنصرخ بأعلى ما لدينا: “على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة”، ولو كان لعن الأمير وحاشيته.
سئمت تكاليف المزرعة. هذا المدعوّ وطنًا، لا لنا، بل لجلالة حاشية جلالته، سئمت المزرعة. وأنا لما أبلغ نصف الثمانين. سئمت كلّ هذا السأم. سأهاجر، ليس إلى خارج المزرعة، لا تفرح أيها الوغد، أنا فلاح وابن أصولٍ، كما شجرة. سأهاجر إلى الأمل. وهناك، ستكون لي حصّة كافية، لأقض أحلام منامك، إن لم أدوّخ صحو يقظتك أيها السكران.
عدد المشاهدات : 2522
شارك مع أصدقائك
Comments are closed.