وسماء يمرون عرَضًا، في مساء المدينة الكدِر

ريم الفضلي

 

آه من الوسماء الذين لم تسمح لنا الظروف، وضيق الوقت، والعجلة من الأمر، وقدرة رقابنا للالتفات 360 درجة إلى الوراء، والعمود الحاجب للرؤية، وسرعة المركبات الحديثة، ولباقتنا، وحياؤنا، وشكوكنا، والمجتمع المحيط، وعادات القبيلة، وترسبات الهيئة، واتصال الوالدة… أنا أقول، آه من الوسماء الذين منعتنا الظروف من الإمعان بمحيّاهم طويلًا.

آه من الوسماء الذين عاثوا بقلوب فتيات المدينة، ماذا تفعل فتاة مستترة إزاء حنك حادّ مكشوف، كأنما مايكل أنجلو نحتَه؟ لا شيء، تسمع كلام مُدرّسة الدين، ومَدرَسة القبيلة، وأن لا تفعل شيئًا، وأن تحكي المشهد لبنات الخالة في نهاية الأسبوع. لأن الوسماء سوق، الطلب أكثر فيه من العرض، والغرور فيه أضخم من اللين. ماذا في جيوب الوسماء يا صغيرتي، الكثير من البرامج المدججة بالفتيات الذين وقعوا في أسر ذاك الحنك المرسوم، الذي كأنما…إلخ.

لا أريد فعل شيء ذي بال هذا المساء، أودّ نسيان القضية، ولا أود العمل للحكومة، ولا أريد التقاء الأصدقاء، كما أنني لا أرغب بعمل الأشياء المفيدة، لا.. لن أقرأ كتابًا، ولن أحضر دورة أونلاين، ولن أعمل لمشروع خاص. أريده يوما ضائعا، في عداد الأيام المنسية، التي تأكل من العمر، دون أن نأكل منها، نخرج إلى الحياة، في موعد اتصال مع الوالدة، الحياة، وحين لا ترد أمّ الحياة؛ نعيث في الشوارع، نفكر بالممنوعات، نشتم الذين يتقدموننا عنوةً، والذين يقطعون طرقنا فجأة، هؤلاء قطاع الطرق، الذين لا تفعل بهم شيئا حكومة، ويموت منهم الشعب، هل رأيت شعبا يقتل نفسه سلمًا، هذا شعبنا، عِلية القوم لا يموتون في الشوارع، فقط مات ابن خالتي، ومات ابن عمك.

يجتمع مراهقو المدينة الجسيمة في هذا المجمع، وأنا شائبة قلبًا، لا شكلًا يا حبيبي القادم، تضع الفتيات هنا ظل عين أحمر، ظل يلائم ويلات الشوق المتأخر، لهذا، يصوت الفتيان لهنّ من السيارات المارة، أيها الضاحكون من الحياة والشباب، أنا أريد قهوةً فقط، من أقرب نقطة قهوة من المنزل، لا يرتادها المراهقون، إنما يمرون خفافا من أمامها، قهوة يا ميدرو، قهوة كفاف المساء والضياع وأن لا تملك أي ”بلان“ لحياتك، ولا قضيتك، ولا موقفك، قهوة، قهوة يا ميدرو، كيلا نرتكب المزيد من الحماقات، هيه ميدرو، ألا ترى،  مكان النسوة عندكم كئيب، انظر لا بنات حلوات في مقهاك، انظر كيف يتمايلن في المقهى المجاور، أخبر مديرك يا ميدرو. حقا لا أهتم لكم، ولا أهتم بمديرك أن تكون نقوده أكثر، اسمح لي رغبتي بإصلاح العالم، رغبة غير إرادية، أقسم لك، إنني أود التوبة. الله أرجو فقط الآن أن أصلح نزلة الموقف القاسية لسيارتي، وغسالتي التي تخرج من مكانها حين تعمل، يأمن المرء على أهله في داره لا يخرجن، ولا يتبرجن، وأنا لا آمن غسالة تدور، من التوجه برجاجة نحو الباب، أود إصلاح شكلي ووظيفتي، وواجباتي تجاه أهلي ومدينتي، وأود إصلاح الطغيان، والمتاجر الخاسرة، والغبار والتلوث البيئي. ميدرو أنا لا أعبأ بك، هات قهوتي، شكرًا.

مرحبا.. مرحبا، كوكيز من فضلك، حبة واحدة، نعم، هل تراني أجمعين، كوكيز واحدة، للمتوحدين مساء، بمساء المدينة الحافل، لا يوجد بيضاء، فقط سوداء، لا عليك، هات، قلبي أسود، عباءتي سوداء، قميصي أسود، شنطتي سوداء، حذائي أسود، بطاقتي سوداء، كوكيزي أسود، إنني لا أمانع هذا الكم من السواد، إنني أحتشد لليل، زوادة الراحلين من الحياة، الماكثين في قلبي، راحل واحد، ارتكب الرحيل سهوًا، وارتبكت حياتك، ودمعاتك، وتصرفاتك، لقد أصابك بالربكة، وأصباك بالحنين. للولد الأسمر في محل الكوكيز، شكرا لك، مبادلة وِشاية أرخص قهوة في المجمع، ومبادلة ضحكتين عن المتجر المجاور، لم نتضرر، لم نقع في أسر بعضنا، مررنا لطافًا خفافًا. ماذا بقي من هذا المساء البارد، أن نشتري عشاء، عشاء أقل من موعد غرامي، وأخف من عشاء فوضوي، في جمعة أصدقاء، عشاء يناسب عائلة في مخطط، كما أتوجه الآن. معلّم، واحد فطيرة سبانخ سمراء.

يمر مجموعة أطفال بدناء. طفل بدين، هو قصة استهلاكية حزينة، يحيط حزام من الشحن بطنه الصغير، يلتصق رأسه بكتفه، وسط رقبة قصيرة متضخمة، أنا آسفة إنك تخرج من ماكدونالدز الآن، ولا تخرج من حديقة الحي، إنك لا تذهب الآن لملاعب الكرة في حيك، لأنه لا يوجد حتى الآن، لأنهم غالبا يسرقون أراضيك، ويجعلون من مكان سكنك كومة منازل متلاصقة، رمادية محجوبة مسترة، أوسع شارع في حيك، هو الشارع العام، حيث من الممكن أن تتعرض للدهس، كما انقضت حياة الأطفال الصغار قبلك، يمنعك والداك من النزول للشارع، واللعب مع الجيران الصغار، لأن الشارع الآن هو مسرح خطاّف الأطفال، الذين شاهد مقاطعهم والداك، وأمسكوا بقلبيهما، أن يفقداك، أن يبكوا عليك، أن يرصدوا مكافأة مالية لا يملكانها لمن يجدك، بدلا عن هذا كله، أنت تقضي أوقاتك خارج المدرسة مستلقيا في سريرك تلعب الألعاب الإلكترونية، كل هذا البوليس الظاهر والخفي، كل عقود التسليح هذه، لا تجعلك تلعب آمنا في حيك الهادئ، الشاحب من الأنشطة وصراخ الصغار، والألعاب الملونة. لا تملك أماكن للعب الآن، وقريبا عندما تكبر قليلا، لن تملك فضاء للكلام والحرية وممارسة الأنشطة، آسفون صغيري، ليست هذه أفضل دولة في العالم لتحقيق أحلام الأطفال. بطنك المستديرة سيدي الصغير، هي فشل نظام التربية والتعليم، هي محدودية الرياضة في بلدك، هي نتيجة ما يوفره مقصفك من الأكل البلاستيكي الرخيص.

سيدة، وفتاتان متقّدتان، بطرف عباءة مغبرّ، بحقائب مضمحلة، وأحذية قديمة، يزدهين بالتمشي في هذا المجمع، لا ينتمين لهذا المكان، لا يبرقن كما الأخريات، أترك مسافة لهن، أجمع الضوء لهن، وأبتسم، أنا آسفة، لقد حاولتن، آسفة عزيزاتي، تكشفكن طبقية هذه المدينة الجشعة، لا أنا ولا بنك التسليف، ولا كليشهيات تمكين المرأة، ولا سلم الرواتب، نستطيع جعلكن مواطنات أنيقات. لقد رأيتكن الآن، ورأيتكن كثيرًا في مطارات المدن الصغيرة، سيدات طيّبات، مؤمنات، في كنف رجال العائلة، أشهد تشقق أيديكن، أشهد انسلال خيوط عبائاتكن، أشهد نقص الحياة لديكن، تكذبن إشاعة رغد الطبقة الوسطى، تكذبن الفرص المتساوية للتعليم المتميز، لم يهتم لكنّ أحد لتكونن سيدات حياتكن، وحين تفكرن بالصراخ، ترغمك الحكومة ورجالها، على الطاعة والهدوء. حتى الآن، يصنع الرجل مستقبل المرأة، يسمح لها أن يكون لها مستقبل، أو لا، يعود ذلك لتزمته، ومبادئه، وللا مبالاته، وجشعه، أوه، لم تسمعن عن من سمح لأخته بالوظيفة مقابل 5 آلاف ريال شهرية من راتبها، بإمكان الرجل أن يضع على المرأة غطاء على حياتها، ويقفل عليها، ويحظى بالمباركة، ولا نكران. النساء يا عزيزي، ويلي على تعب النساء، نساء بلادي الحزينات، المقموعات، المعذبات، المقهورات، ويلي على عناء النساء.

هذا مخطط تاجر كبير، يضع الطريق والرصيف والنخيل، ليس لسواد عيون هؤلاء المواطنين، محدودي خيارات الترفيه، والدخل، الذين لم تصلهم هيئة الترفيه حتى الآن، ومناشطها وباهظ تذاكرها، ولا جودة الحياة، وخيالياته، نجتمع نحن المواطنون الهادئون، في حي تجاري، يعرض أراضيه للبيع، بشكل جذاب، كما تباع مصائرنا بشكل مقنع للغرباء، ولأن اليوم لنا، وغدنا عند الله، والسلطان، نختار أن لا نبالي، لأن هذا المساء يبدو جميلا، غيوم متحركة، برق مجهول يضرب في الأفق، نختار أن نشعر بالرضى. أب وطفلاه يعبرون بي مرة، أقوم بإيماءات ضاحكة للطفل الأصغر، يركض إلى والده يصرخ، يخبره، يعودون مجددا، ينظر الأب بريبة، أيها الأب، لقد فشلتُ في إضحاك ابنك ضيّق النفس، لا أكثر ولا أقل، لا شيء، يكملون طريقهم، يلتقطون الخشب من الأرض، ويعدُون باتجاه الكلاب الضالة، تعبر سيارة مجهولة، مرة، مرتان، ثلاثة، يحدق بي، لا يلتفتون لي في المعارض المضيئة، ويجيئون في عتمة الأراضي الخلاء، يا لله، كم قرض يلزمني لإصلاح حظي.

أذهب إلى مخطط خالٍ، محاط بالطرق السريعة من كل جانب، لأن صديقي غريب الأطوار، الذي يعرف المدينة شبرًا شبرًا، ومسارات الوديان، ومداخل الهواء إليها، لا يخبرني عن أفضل ممشى يرتاده، هل نذهب سوية يا هذا؟. أتوقف، أنزل المقعد، كيلا يراني أحد، أود أن لا يباغتني أحد، أود قليلا من الأمان. تخيل، يوما ما أمام القهوة تقرأ كتابا، في مقهى جميل، يحكي قصة نجاح جميلة، تلتقي أصدقاءك، تمارس حياة عادية، لمواطن عادي في دولة من دول العالم الثالث، هذا لا يمنع أنك تملك بضعة أفكار وردية، لعالم جميل، خال من الظلم، مليء بالنهضة وأحلام العدالة، للجميع، بنزول المساواة والخير كأنما غيمة صبا على هذه الأرض الجائعة، أقول مساء هادئآ، ثم لا يتكرر، لأنه في غد ذلك المساء، هب الضباط عليك، كأنما عاصفة غبار صيفية، كأنما نزلة معوية مدوية، كأنما هلع انقطاع الكهرباء لمريض كلى، كأنما نكبات الأيام وأخبار السوء، كأنما سكتة قلبية لعشريني، كأنما شعور السقوط من الهاوية، كأنما خبر خسارة جسيمة، كأنما لم تشهد موقفا جميلا من حياتك الطويلة، هب الضباط الغلاظ عليك، وانتهى كل شيء، بحياة البشرية أجمع لم تعمل شيئا شنيعا، بحياة الرسل جميعًا لم تعمل شيئا دنسا، لكنه مدّ الطغيان وصلك، وأسدلت الستارة على حياة مفعمة، حالمة طيبة متقدة.

الوسيم الأخير لهذا المساء يعبر بي، متأخرا خطوتين، ما لا يكفي لنظرتين، آه من الوسماء الذين يعبرون متأخرًا، أختار أن لا أشحن النظر، أُشيحه، قلبي رمّانة معطوبة، تحتاج مواسم ربيع لتحيى، وهذا الوسيم، الرياضي قليلا، الأنيق لا محالة، يمر متأخرا خطوتين، ما لا يكفي لنظرتين، وابتسامة، وتفحص، وتفكر، ومرواغة. إلى الفتيات المتأهبات لمساء المدينة الأرقة، وسيم جديد بالدرب، أتركه لكنّ، حبًّا وكرامة.

عدد المشاهدات : 1754

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.