منيف المتنبي

منيف المتنبي

ريم الفضلي

مدخل:
عبدالرحمن مُنيف ..
لفتيلٍ ثامن من الغياب

“أعرف أن أسلحتي شديدة التواضع، لا يمكن أن تغيّر أو تقلب، لكن هذا ما أملكه، هذا ما أقدر عليه الآن”
“إذا كانت رحلات العرب والقدامى، وراء الماء والكلأ فإن رحلة العرب المعاصرين تقوم بحثا عن الحرية والأمن ومحاولة قول كلمات قبل أن ينقضي العمر وتنطفئ الحياة”. عبدالرحمن مُنيف

أبعد من النبوءة، ولا يشبه التهويم، أن يقول عبدالرحمن مُنيف، مشحونا بالأمل، في تسعينات اليأس: “يجب أن يتصدى الجميع لظاهرة القمع، ويجب حشد كل القوى لمقاومتها وإسقاطها، وإلا تحول الوطن إلى زريبة للعزل، وأصبحنا جميعا في حلقة النار الرهيبة، هذه النار التي ستأكل الكثيرين، بما فيها الأنظمة الحاكمة”. كل ما في الأمر، أن مثقف عجن عصره، وداخ في مجاهله، سابرا أنينه وصراخه، آمن أن الكلمة هي مَن يمكن، أن تكون الرصاصة، التي ستَهدّ بتوالي إطلاقها، هذه الجدران العالية، حاجبة كل ما هو حرّ وكريم. ولأنه لم يكن له وطنٌ؛ اتخذ البقعة الكبيرة من الخليج إلى المحيط، من القمع إلى القمع، وطنا، حكاه، رواه، قصّه واقتصّ منه. إذا هتَكَ منيف مدينة، اسمها غريب، لا يفتح الناس خريطة، فرائحة الاستعمار والاستبداد، الذل والتعذيب، واحدة، تفوح من أماكن عديدة، فكلنا في الشرق قهر.
قال: “المثقف يصدر عن ضميره، ويفترض أنه يتعامل ضمن رؤية أخلاقية، وإن ما يوجهه قيم التاريخ ورؤى المستقبل، وبالتالي فإن عليه واجبات والتزامات تتجاوز الآني والعارض، ويجب أن يكون شاهد عصره”، يقول بريخت في إحدى قصائده: “إنهم لن يقولوا: كانت الأزمنة رديئة. وإنما سيقولون: لماذا صمت الشعراء”، يعلّق منيف: “نعم سيسألون لماذا صمت الشعراء، ولماذا غاب المثقفون، ولماذا امتلأ الوطن بهذا المقدار الهائل من الصمت والسواد؟ إلا إذا تكلم المثقفون، وقالوا بصدق، ما يجب أن يقال، فعندئذ سيتغير السؤال”. وليس أكثر من كلام منيف، وأكبر. ترك آماله وآلامه، حكاياه وتنظيره، على ورق، قاله بصدق، دون مواربة أو خوف، لا آكلا على مائدة معاوية، ولا مصليا وراء علي، في مكتبة عريضة، عرض مصائبنا وفضائحنا. على ورق؛ لأن الكلمة الصادقة، كالنجمة في السماء – يقول منيف.
ليس هذا ترصدا، لما قاله وحدث، أو لم يقله ثمّ حدث، كما يفعل الكثير اليوم، يظن أن هذه الجموع، دوتْ في أسماعها قائلة، قالها في زمن مضى، وأنها الآن لابد أن يدوي صداها، في الهتافات هذه، ثم يمضي في عدّ مآثره الثورية، قبل أن تثور الناس. لا منّة لأحد في أن يثور إنسانٌ لحريته، حين يخرج الإنسان معرضا حياته هدرا، لأدنى رصاصة شبيح، وجسده دهسا، لجمل بلطجي مفزوع، فإنه خرج لحرّيته هو، كرامته هو، والمجد له وحده. بغضّ النظر عن استثناءات هذا الكلام، أن كرامة جاري البعيد، من كرامة جاري القريب، التي هي كرامتي قطعا.
لكن الحديث عن المثقف في لحظته الآنية، بكل ما يعتريها مِن ومِن، وما يعتري المثقف إزاءها من صدق ومقاومة ونضال، هو ما يذكّر بمنيف، الواقف في أعالي لحظته، مذكرا بما كان، غائصا فيما يكون، ومستشرفا ما سيكون، بكل إخلاص، لا يوهنه الخوف والإبعاد، ولا تدهنه المجاملات والتملقات.
مشكلة منيف أنه رحل قبل سبعة أعوام، قبل أن يشاهد أبطاله البسطاء نفسهم، يملؤون الميادين، شاهرين قبضاتهم وسلمهم، لإسقاط كل ما هو قمعي وقاهر. هؤلاء الأبطال الذين لطالما ما وشوشت لهم الحرية والكرامة، اللتان يفتقدونها، الزيف والعار اللذان يطبقان، أعلن لهم: “الأنظمة الديكتاتورية مهما بدت قوية ومسيطرة فإنها ذات أرجل طينية وتحمل بذرة فنائها في داخلها”، وحكى لهم السجن الكبير الممتد، وأن الوجود خارجه “شكلي ومؤقت”. “رجب إسماعيل” صحيح أنه مات مكمودا، لكن بزغ “حامد” من ورائه، “حامد” الآن، قد يكون متبوأً منصب رئيس الوزراء. “زكي النداوي” كان بالفعل مهلوسا ومجنونا، جراء الهزيمة، لكنه الآن يفتح عينيه، ولا يصدق، فقام هابّا، يتوكأ على خيباته، يستدرك ما مضى، ويلحق مصطادا طرائد النصر الممنوحة، لاعنا “الملكة” التي لم يصطد في المستنقعات. “منصور عبدالسلام” عاد للوطن بعد أن تحرر، مجيدا عزيزا، في جنانه، يودّ أن يعمل بما مات لأجله “مرزوق”، شهيد رأيه وحريته، ولا يجب أن يتكرر “إلياس نخلة”، إنسان الهامش واللا اعتناء، حزين من اجتثاث الأشجار من بستانه وقلبه. “عمورية” و”طيبة” و”حران” مدن الصمت الكثيف والخوف، صفيح الفقر المدقع، وواجهات الثراء الفاحش، تنتفض، تستدرك، تتنفس أكسجينا لم تشهقه من قبل. ينزل البسطاء والعاديون، من لم نعرف سيماهم من قبل، ولا من بعد، لا تتكرر أوجههم، لكن تتشابه علينا، كما أبطال منيف، اللاأبطال، لا ندري من أين أتوا، لا يعرفهم أحد، لا تكون لهم أسْرة أحيانا، ولا ماضٍ، يبدؤون هكذا، من المعتقل، أو من سرير المشفى، ثم تبدأ الحكاية، لما يمكن كلنا أن نكونه، أنهى منيف “السوبر مان”، أبطال اللقطة والقوة والصفحات الأولى، يقول منيف: “البطل هو الشخص الضروري، في الوقت المناسب، والذي لا يغني عنه أي شخص آخر، أيا كانت المساحة التي يشغلها، أو الوقت الذي يستغرقه وجوده… وليس البطل ذلك “المخلوق المصنوع” الذي يبدو حكيما وقويا وقادرا في كل وقت، ولا مانع من أن يتصف بخفة الدم واللباقة عند الحاجة”. قد يختفي أبطال منيف فجأة، بلا مصير نعرفه، تماما كما لا نعرف، ألوف الميدان الهادرة ذهبت إلى أين. قد تخرق بطل منيف رصاصة ظالمة، ونتركه مسفوحا في منتصف الرواية، قد يصرخ ويتألم، قد يجبن ويبكي، في “شرق المتوسط” حين كنا نظن الرجال أبطالها، علق منيف لاحقا، أن بطلته الأم، وإن عبرت بسرعة، هذه التي أماتوها بالقهر والصبر على ابنها. قال بطل منيف صارخا: “الجلاد لم يولد من الجدار، ولم يهبط من الفضاء، نحن الذين خلقناه”، وأتى أبطاله اللاحقين ليطردوا الجلاد، وليحرقوا تماثيله دون خوف مخبريه، الجلادين الصغار. “طالع العريفي”، مُطلق الصرخة، لم يتوقف نبضه هدرا إذن، كما ودعناه في غرفة المشفى الكئيب.
قضى منيف عقدين في العمل السياسي اليومي، ثم تركه. خبير النفط هذا، اختار أن يروي ما خبر، مزيحا ما ترك إلى جانبه قليلا، ليقول، ليبلّغ المُصاب بالنفط، صدفة الطبيعة الوفيرة. أشّر منيف على بقعها الدبقة، على السياسة، الثقافة، المجتمع، والدين، ولأن “النفط هو لغة العصر العربي الراهن، ويجب على الكثيرين – إن لم أقل الكل – أن يلعنوا هذا العصر بأصوات واضحة وبدون خوف”، شيّد منيف “مدن الملح”، ملحمة الضحك والبكاء، أحد أجمل منحوتات العرب الروائية.
منيف الذي رأى، لم يكن مستحقِرا، ولا داعيا إلى صفق الأيدي يأسا: “الرداءة هي حالة وليست طبيعة، وهي تحديات وصعوبات ليست قدرا”، ولم يكن متشائما بالمرة: “برغم الكثير من المرارة والسواد والتشاؤم أحيانا، فإن هنالك نورا في نهاية الدهليز. قد لا أستطيع أن أصل إليه أنا، ولكن المطلوب هو الوصول إليه، والجميع معنيّون”، لم يصل إلى نهاية الدهليز منيف، لكن في احلكاكه، تحمّل حمل الشمعة، حتى آخره -آخره هو، لا الدهليز – مؤمنا كالفجر بمهمته: “مهمة الأدب أن يجعل الناس أكثر وعيا لواقعهم وأن يجعلهم أكثر حساسية وجرأة، وذلك فإن الوعي إذا ارتبط بالحساسية والجرأة يمكن أن يفعل الشيء الكثير”.
منيف المتنبي، ليس تشبيها ب”المتنبي” القديم (تذهب همزة “المتنبئ” لدواعي التسهيل والحياة) شاغل الدنيا، وطالبها. يتشابهان في البيان وفتنة الانسياب، إلا أن الأخير كان لسان البلاط، زينته وتزجية وقته، القائم بشجاراته التافهة، النافخ أمجاده الوهمية، من يؤلّف وهو يتخيل الأمارات والصّرر، ثم إن لم تأتِ، إن تأخرت قليلا، فما أكثر الأسياد المرجوّين، وجوائزهم ومجالسهم، وما أكثر الكلام الرخيص المكرر، والولاء البارد، الذي تقصّ على غيرهم، وتلصقه عليهم. هذه الفروقات تعدّ ضحكة عند تشبيه المتنبي، من هذه الناحية بمُنيف، المُنيف

عدد المشاهدات : 1534

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.