سبعُ جولات من الشراب
مدير التحرير
يجلس آكي كوريسماكي متجهمًا في معطفه الأسود الثقيل. يبدو، وهو المِثال للمستمتعين ببؤسهم، أكثر بؤسًا مما يمكن تخيّله. قيل لي أن الصباح الباكر هو أنسب الأوقات لإجراء الحوار معه، فهو يبدأ الشُرب بعدها. الساعة الآن الرابعة بعد الظهر، ويبدو كأنما قضى بضع ساعات طيبة يتجرع النبيذ الأبيض.
هو ينتظر أحد العاملين في سوهو هاوس في لندن ليطلب منه إطفاء سيجارته، ولم يخِب أمله. “آسف يا سيدي، لقد أخبرناك، لا يمكنك التدخين هنا.” يبدو كوريسماكي مندهشًا، كما لو كان يسمع ذلك للمرة الأولى، فيعتذر ويلقي سيجارته المشتعلة في كوب ماء. تتناول النادلة كوب الماء لتأخذه. يصيح كوريسماكي، كما لو كان قد تعرض توًا للنهب. “هذا الماء يخصني! هذا الماء يخصني!”، فتجري النادلة، ويبتسم أعظم صناع السينما في فنلندا.
كوريسماكي عمره الآن 55 عامًا، وهو أحد مخرجيّ المفضلين. لثلاثين عامًا، كان يخرج أكثر الكوميديات حزنًا – أفلام تعكس روحه نفسها، وروح وطنه الأم، بامتياز. أفلامه سوداوية وكئيبة، يلعب بطولتها رجال يبدون أشبه بأفيال البحر، ونساء يبدون كالجرذان. تشتغل شخصياته في وظائف رتيبة في المصانع أو في مناجم الفحم تحت الأرض أو في غسيل الصحون، ونادرًا ما يتبادل أي منهم الحديث مع الآخر. (في فيلمه (فتاة مصنع الثقاب) في 1990، تمر 13 دقيقة قبل الجملة الحوارية الأولى، وتبلغ المدة الإجمالية للفيلم 68 دقيقة)، وغالبًا ما تفرط شخصياته في تعاطي الخمور أما الأكثر حزمًا بينهم فينتحرون، في فيلمه “آريل”، يجلس أب وطفله في أحد البارات، ثم ينهض الأب، يذهب إلى دورة المياه، ويطلق النار على نفسه. أقصى ما يمكن أن يأمل فيه أبطاله هو الهروب، وعادةً ما يكون ذلك في قاربٍ ما.
ولكن، وبصورة مدهشة، فإن هذه الأفلام ممتعة ورومانسية. في واقع الأمر، فكلما صار كوريسماكي شخصًا أكثر كآبة، كلما صارت أفلامه أكثر رقة. الأمر بسيط، يقول: “عندما يغيب الأمل تمامًا، فلا يوجد سبب للتشاؤم”. فيلمه (رجل بلا ماضي)، الحائز على الجائزة الكبرى لمهرجان كان في 2002، مثال على قدرته اللاحقة على استخراج الأمل من القنوط: رجل بلا اسم يتعرض للنهب، ويُترك فاقدًا لوعيه، يفقد ذاكرته ويحمل على كاهله عبء بناء حياته من جديد، وتجمعه صداقات بالمشردين والصعاليك.
يشعل كوريسماكي سيجارة أخرى. فيلمه الأخير، (لو هافر) (تدور أحداثه في فرنسا، رغم ما له من طابع فنلندي مميز لأفلام كوريسماكي) هو الأول منذ 6 سنوات، ويغلب عليه التفاؤل على غير العادة. في واقع الأمر، فقد يكون قد استحدث نوعًا جديدًا من الأفلام: حدوتة الملجأ الخرافية. يبدأ الفيلم بإيقاف الشرطة لشاحنة محملة بالباحثين عن مأوى، ويهرب منها طفل صغير، يلجأ إلى الشواطئ الضحلة لبحر ثلجي، ويجده ماسح أحذية عجوز، فيصحبه لمنزله. بلى، لا تزال الشخصيات مغرقة في البؤس الصامت، ولكن (لو هافر) هو تأكيد مذهل كذلك على قوة الحب.
ما الذي ألهمك بهذا الفيلم “أقرأ مقالات أكثر وأكثر، وأشاهد أخبارًا تلفزيونية أكثر وأكثر عن أشخاص غرقوا في البحر المتوسط، بينما وُعدوا بأرض الذهب في أوروبا. أتى هؤلاء مغرقين في الآمال، وبدأ ذلك يربك تفكيري كثيرًا. إذًا ماذا عليّ أن أفعل؟ هذا فيلم. قد أبدو شخصًا رابط الجأش، ولكني عاطفي للغاية. أهتم بالآخرين، ولا أهتم بنفسي أكثر من اللازم”.
كان هناك تبادل رائع في الفيلم عندما يسأل ماسح الأحذية زوجته، المريضة بالسرطان، إن كان بإمكانه زيارتها في المستشفى. تطلب منه الزوجة أن يظل بعيدًا عنها حتى مرور لحظاتها الأسوأ. تقول له “عُد بعد أسبوعين وأحضر الفستان الأصفر الذي ارتديته في لاروشيل”. أخبره أن تلك جملتي الحوارية المفضلة في الفيلم. يبتسم “وهي مفضلتي كذلك. بكيت عندما عندما كتبت ذلك.” سألته: لماذا لاروشيل بالذات؟، فأجاب “لأنني أمضيت وقتًا طيبًا مع زوجتي هناك”.
يستمر كوريسماكي في التدخين في المكان شبه المعتم، في انتظار التربيتة المحتمة على كتفه بينما يحكي لي عن حلّه لمظالم الحياة. تلك فلسفة لربما شاركه في كتابتها صامويل بيكيت وأسامة بن لادن. يقول بنبرة صوته الأحادية المميتة: “لا أرى مخرجًا للبشر، باستثناء الإرهاب. أن نقتل الواحد في المئة”. سألته: أي واحد في المئة؟ “الطريق الوحيد للبشرية لتخرج من بؤسها أن تقتل الواحد في المئة الذين يملكون كل شيء. الواحد في المئة الذين يضعوننا في موضع تكون فيه الإنسانية بلا قيمة. الأغنياء، والسياسيون الدُمى في أيدي الأغنياء”.
هل فكر يومًا في ممارسة السياسة؟ “لا، أبدًا. السياسيون فاسدون”. تتساءل ما إذا كان سيقول شيئًا آخر بعد إفاقته من الخمر، أشك أنه لو بدّل كلامه، فلن يكون إلا أكثر تطرفًا. بالطبع، فقد يكون كل هذا تظاهرًا منه، ولكني لا أظن ذلك. لقد كانت حياته نفسها أكثر بؤسًا من أفلامه. يحكي لي عن انتحار رجال من أقرب أقربائه، ويطلب مني ألا أذكر أسماءهم. “لقد كان ذلك خيارهم الشخصي” بحسب قوله، وليس هذا بالشيء الذي يرغب في انتهاكه.
يدخل مدير سوهو هاوس الغرفة. “آسف يا سيدي، ولكن هذه فعلًا المرة الأخيرة. لقد أبلغناك بالفعل أن التدخين هنا ممنوع”. ينظر له كوريسماكي بعينين مغرقتين في البراءة، ويعتذر مرةً أخرى، بينما ننتقل للشُرفة، كان كلانا يتجرع النبيذ، فقط كان الاختلاف الوحيد بيننا أن كوريسماكي يتجرع كأسه على مرة واحدة. أسأله عن حقيقة أنه لا يستطيع الإخراج إلا وهو يشرب؟ يرفض ذلك ويصفه بالكلام الفارغ، فهو لا يستطيع الكتابة ولا التحرير وهو يشرب، ولكن ليس هذا هو الحال عند الإخراج، فهو يشرب بالفعل، ولكنه غير مضطر لذلك.
بم يصف الشخصية الفنلندية؟ يصفها فورًا بـ”النزوع للسوداوية”. لماذا تحوز فنلندا مثل هذا المعدل العالي لحالات الانتحار؟ “الافتقار للضياء. الضياء بكل معنى ممكن. شروق الشمس. لقد ثبت طبيًا الآن أن الناس في حاجة فيتامين “د”. الجو مظلم طيلة الوقت، وعندما يكون الجو مظلمًا، يصير البال مظلمًا كذلك”. هل يقلقه ذلك؟ يتجرع كأسًا آخر. “أعرف إلى حد ما أني سأنتحر، ولكن ليس بعد”. ما الذي سيضطره إلى ذلك؟ “التعاسة”. بدأت أشعر أن عليّ حمايته من نفسه. أعترض، أنت مبالغ في رومانسيتك. “نعم، نعم. لذلك لن أطلق النار على رأسي، سأطلق النار على قلبي”.
ولكن قد يكون هناك أمل له. هو يقضي الآن نصف العام مع زوجته في البرتغال. هل انتقلتم هناك بحثًا عن الضياء؟ “إنه أبعد مكان ممكن عن فنلندا في أوروبا”. نتحدث عن العائلة، فيذكر زوجته، وهي فنانة لا تحب عرض أعمالها القنية. بعد 26 عامًا من الزواج، لا يزال مفتونًا بها بوضوح. هل هي في مثل تعاسته؟ يبتسم. تلك ابتسامة جميلة وعذبة، عليك أن تستحقها، ولكن الأمر يستحق الانتظار. “لا، هي تحب الحياة. وإلا لم أكن لأصل إلى ما أنا عليه”. أسأله: أراهن أنك الزوج الأكثر رومانسية ومراعاة، أراهن أنك تشتري لها الورود وأنها لا تزال تحتفظ بذاك الفستان الأصفر. “نعم، لا تزال تحتفظ به. في أفلامي الثلاثة الأخيرة كانت جميع الشخصيات الأنثوية هُنّ زوجتي”. هل هي تحب ذلك؟ “هي لا تكاد تلاحظ ذلك”. هل لديك أطفال؟ “لديّ الكثير”. كم طفلًا؟ “ولا واحد”.
يشعل سيجارة أخرى، ويخبرني أنه قد عاد مؤخرًا للتدخين. كم سيجارة تدخن خلال اليوم؟ “ثلاث علب، 60 سيجارة. رقمي القياسي 12 علبة. عندما أضطر للتعامل مع أسئلة بلهاء كأسئلتك فعليّ تدخين سجائر أكثر”. أخبره أن ما قاله وقاحة إلى حد ما. يعبس كطفل صغير يعرف أنه قد تمادى. “حسنًا، لقد أردت رد فعل. لم أقصد الوقاحة، فقط أردت استفزازك”.
لم يُكِنّ كوريسماكي أبدًا الكثير من الاحترام للعُرف أو للقانون. في شبابه كان هِبيًا (hippy) صعلوكًا ينتقل من وظيفة لأخرى، وكان مشردًا لفترة، وكثيرًا ما قضى لياليه في زنازين الشرطة بعد اعتقاله لسوء السلوك. تشعر أنه لا يزال غير متأكد من الكيفية التي صار بها صانع أفلام (كشقيقه ميكا، وقد أدارا لفترة شركة إنتاج سينمائي معًا، ولكنهما لم يتحادثا منذ 20 عامًا). “لأسباب لا يفترض أن تعرفها. لا يجب أن تجمعك صلات اقتصادية بمن يفترض أنهم أصدقاؤك”.
لقد عشق الأفلام السينمائية بالتأكيد في طفولته، ووجد السلوى في صمت كيتون وشابلن. الثناءات والتلميحات إلى سادته السابقين منسوجة في أفلامه. يلمّح (لو هافر) إلى مارسيل كارنيه (اسم ماسح الأحذية مارسيل، واسم زوجته آرليتي، على اسم نجمة فيلم كارنيه (أطفال الجنة)، وتوجد تلميحات كذلك إلى جان-بيير ميلفيل وروبرت بريسون.
لا يوازي حبه للأفلام سوى إحباطه من السينما المعاصرة – لا أفلامه وحدها. يصر كوريسماكي على عجز المخرجين عن إنتاج رائعة سينمائية واحدة منذ السبعينيات. ماذا عن سكورسيزي؟ أصدر خوارًا وتجرع شرّابه. “فيلمه (أصدقاء طيبون) ليس إلا خراء. إنه الفيلم الأسوأ على الإطلاق. لقد كان هاويًا فاشلًا بعد فيلم (الثور الهائج)”. سألته “ماذا عن تيرانس ماليك؟”، فأجاب ” فيلمه الأول (أراضٍ وعرة) كان لا بأس به. كان ذلك في السبعينيات، وبعد ذلك كانت جميعها خراء مسيحي”.
يتبع النبيذ بالبيرة. أسأل كوريسماكي عن السبب وراء عدم إخراجه لأي أفلام لست سنوات. يجيب بأن أفلامه مُخزية، فهو يصير أكبر سنًا، وأبطأ، وقد وهب قدرًا أكثر مما يجب من حياته للسينما. أسأله كيف يشغل وقته، فيجيب “أفضل التجول في الغابة حيث ينبت عيش الغراب” هل تأكله؟ “بالطبع. فنلندا بها أفضل الأنواع”. يقدم لي نصيحة سهلة لمسببات الهلوسة: “اطبخه قبل أن تضعه في الشاي. أنا لا أقدم وصفات، ولكني لا آكل منها سوى ما أجمعه”.
يشعل كوريسماكي سيجارة أخيرة، ونشرب نخب الأشياء الطيبة في الحياة: شرب الخمر، وعيش الغراب، والموت، وزوجته، والحب. أطلب رأيه في فيلمه الأخير. “هذا؟” يبدو مصدومًا بالسؤال، ويسأل مرة أخرى “فيلمي؟” يصمت للحظة. “قد يكون هذا هو الفيلم الأول الذي لا أكرهه”.
أخبره كم هذا عظيم. “كفّك. هات كفك بالجنب، فوق”
“هاتها تحت، أنت بالغ البطء” يقول لي.
وها هو يضحك بالفعل. “أنا لا أحب الفيلم، ولكني لا أكرهه كذلك. بالنسبة لي، فهذا تطور”.
__________________
* حوار مع المخرج السنيمائي الفنلندي: آكي كوريسماكي – 1957. من أعماله: لو هافر (٢٠١١). رجل بلا ماضي (٢٠٠٢). أضواء في الغسق (٢٠٠٦). ظلال في الجنة (١٩٨٦). نُشر الحوار في صحيفة الغارديان. ترجمه: شادي عبدالعزيز.
عدد المشاهدات : 395
شارك مع أصدقائك
Comments are closed.