On the second night of war against Iraq, bombs fall on government buildings located in the heart of Baghdad along the Tigris River.  Multiple bombs left several buildings in flames and others completely destroyed.

خرائط الجراح المفتوحة

عبدالعزيز البرتاوي

المكانان اللذان، سأنال فيهما أعمق نومي: السجنُ، أو القبر. وفيما عدا ذلك، أو حتى لما يأتيا، فلأكدح. الحياة، تمهيد طويل، أرق متقطع، يفضي صوب نوم، قد يعجله لك الطغاة، بصورة المعاناة: السجن، أو صورة الإنهاء المبكر: الموت.

متأرّقًا، في الرابعة فجرًا، كتبت الفكرة أعلاه، بذهني، على فراشي، وهازئًا بأفكار فوكنر وكافكا وإكّو، حول تدوين الجُمل فورًا، قبل النوم. استيقظ صباحًا، كسِلًا، ومنفجعًا كالعادة من انقضاء نومي بسرعة قصوى، اركض إلى حيث بصمة عبوديتي اليومية، ولاهثًا، أسجل حضوري الرِقّي. أجلس بهدوء، لأكتب جملة لا تشبه تلك التي كانت ليلًا، وألعن كافكا.

تحلّ نهاية العام. راغبًا في السفر، قال لي صديق: لنذهب إلى أستراليا. الشتاء لا يذهب هنالك. أكتب في محرك بحث خطوط الطيران، حرف إس، وتظهر كل مدن العالم ودوَلِه البادئة بحرف إس، أُتبعه بحرف واي، وتتقلص القائمة، وعلى رأسها أتهجأ الوجهة التالية: “سي ري يا”. عاضًا على شفتي، خجِلًا من وَجهي ووِجهتي، أخاطب الكلمة العائمة في الدم: من ذا سيذهب الآن إلى نزهة سياحية، في رأس العام، أو قدمه، إلى سوريا؟ لقد انقسمت الطائرات هنالك إلى قسمين: قسم يأتي محمّلًا بالأطنان الهائلة من الموت والبارود والقتل، تحوطه مباركات العالم العاهر، وقسم يذهب ليقذف بأبنائه خارج حدوده، تحوطه شُرَط اللجوء ورجال الهجرات، ولتكون واجهات مواقع السفر إليها، حاملةً خيارًا وحيدًا: خط ذهاب، بلا عودة.

تقول إحدى النشرات المتعلقة بالسفر إلى أستراليا: يجب ألّا تعتقد أنك ستلتقي حيوان الكانغر في الشوارع، أو الأماكن العامة، يجب أن تذهب إلى حديقة الحيوان، وتدفع تذكرةً، لترى ذلك. أضع ذلك بالحسبان، متأكدًا أن ليس كل الحيوانات، تمكن مشاهدتها في الشوارع، والأماكن العامة.

قبل خمسة أعوام ربما، ستة، وربما أكثر، أعوام مرت كالثواني، بلا تواني –سجعة غير مقصودة لكنها موفقة-، التقيت زوجين أستراليين، في منعطف العمر الأخير –هه، من يعرف في أي منعطف هو الآن؟- وفي مقهى لطيف في مدينة غير لطيفة، جلسنا سوية نحكي عن الرحلات والعالم، وقالا بصوت واحد إنهما يريان كينيا، أجمل بلاد زاراها. كينيا؟! أحقًا ما تقولان؟ وحكينا عن أوروبا، وعن أثينا تحديدًا وسانتوريني، عن بلادهما وجارتها نيوزيلاندا، وعن أمريكا اللاتينية والمكسيك، التي وصلا منها توًا. عن كل بلدان العالم، أغلبها، اليابان، وإيران. وعن العراق. ماذا؟ بغداد؟ حقًا؟ وبطُرفة حمقاء مقصودة المغزى سألتهما: هل أعجبتكما؟، قالت جين: يا إلهي، إنني لا أنسى الموسيقى البديعة، والنخل الحزين. وإمعانًا في النكاية قلت بفجاجة: ألم تكن أستراليا، ضمن من قصفوا بغداد في صباح دام من شهر مارس، عام 2003؟

وتركت جين، عينها الحزينة تكمل الإجابة. قالت وهي تغالب بكاءً: لقد كانت حكومة أستراليا، وليس نحن. أنا وزوجي وقفنا أمام كل سفارات العالم وممثليها، لتقف هذه الحرب الملعونة. كان كل صاروخ يحط هناك، يقتل جزء من ذكرياتنا، وأصدقائنا. كان قرارًا وقفنا بكل ما نطيق أمامه، ولم يقف. ولكن تفصيلًا سقط منّا ذلك اليوم، وأعتقده بحاجة للإجابة الآن.

لقد زارا سوريا أيضًا، وحكينا عن أسواق دمشق، ومنائر جوامع دمشق، السبابات الممدودة بالشهادة، نحو السماء كما يقول مولانا الطنطاوي، وياسمين دمشق، ونواعير دمشق، وشوارع دمشق، وبوظة دمشق، وناس دمشق، ولكنا أغفلنا أنه بعد حين، لو شاء لنا القدر أن نجلس سوية، لحكينا عن موت دمشق، وخراب دمشق، وقتل أناس دمشق، وهدم جوامع دمشق، وتلطيخ بياض ياسمين دمشق بالدم، وعن الجامع الأموي، من شهد سجود قامات الخلفاء، يرى الآن بساطير أقزام الحلفاء، وعن قبر صلاح الدين، يرجف الفارس التمثال وهو يرى أي صليبين، يحكمون دمشق والقدس الآن.

هذه المرة، لن أقول لـ جين: لقد قمتم بقصف دمشق، ليس في شهر محدد، أو عام محدد، بل كل الوقت، وحتى كتابة السخف أدناه، نحن هذه المرة، من يَقصف، ونحن من يُقصف. ولم ولن نخرج، ولو إلى قنصلية أجنبية، لنقول للحرب قفي، لأن الحكومة لا تحبّ ذلك، ولأننا يا جينُ، جبناء.

في مطار وارسو الدولي، منتصف العام الجاري، وصلت رحلتنا مع وصول رحلة قادمة من فلسطين. مكتوب على سير الشنط: هنا محطّ الحقائب القادمة من “تل أفيف”. كان سيرًا مشتركًا لحقائب أكثر من رحلة. تقدم يهودي من خلفي بكل جنتلمانية وقال: لو سمحت أودّ أخذ حقيبتي. كانت حقيبته تعبر الآن أمامنا، وحقيبتي لما تأتِ، قلت له: لا. ولا كرامة. نظر شزرًا وحاول أن يتملص من منعي، فما كان إلا أن رفعت صوتي: أيها اللص، من أي بيت في فلسطين سرقت هذه الحقيبة؟ وكاد الأمر أن يتحول إلى مشاجرة، لولا أن الجبان الحقير رطن بعبريته مع آخرين من رحلته، فأشاروا عليه بالتهدئة. جاءت حقيبتي الآن –شنطة أفضل-، أخذتها، وتحت ألف عين للصوص اليهود أغادر المطار، مترنمًا مع النواب: “في كل عواصم هذا العالم، قتلتم فرحي”. تلقيت لومًا عريضًا من رفيقي، على مقطع التهوّر أعلاه. كنا نقوم برحلة، وأحد شروط الرحلة البديعة: المغامرة.

مات كثيرون حتى الآن، ولم أكتب شيئًا. كنت أرى أن أقل ما في الأمر، أن نكتب عن أولئك الذين ماتوا، لنقول أننا لن ننسى. صرنا ننسى حتى هذا العهد. ماتت جدتي نورة، الفتاة التسعينية، بضحكتها العذبة. على كل فتيات العالم، أن يصففن خلفها في طابور الضحكة الأجمل، ومضت بتؤدة، نحو قبر لا زهور عليه، ولا سياج يحميه –عادةً، قبور كل بلاد، تشبه الحياة فيها-. مررت بسيارتي كثيرًا إزاء مقبرة حبيبتي، كنت ألتفت إلى الجهة الأخرى، خوف أن تتبدى لي عاتبةً: ما كل هذا النسيان؟

رحل عادل غنيم. شيخ المؤرخين العرب، ولم يجد من يؤرّخ رحيله. رحل تودوروف، وهو يكتب عن تقارب الحضارات وتهاوي أوروبا، رحل غونتراس، وطبل الصفيح يُقرع للطغاة، رحل العظيم غاليانو، وهو لما يكمل تجوال كلماته المتقاطعة، وأغاني الهنود الحمر، ويكتب عن فلسطين وبغداد وفيتنام كما يكتب عن بوجوتا وهافانا وكراكاس. رحل كل هؤلاء، ولم أكتب حرفًا واحدًا، كعرفان للذي وهبونا، وهبوني، وكنت أحسب أن منيف، أستاذ الكتابة الأبدي، منحني خصلة منه: أن أكتبُ عن الموتى، عن “لوعة الغياب”، عن أولئك الذين لا يقدرون على مكافأتنا، عمّن لن يكون بمقدوره أن يقول لك بعد اليوم: شكرًا، ولكني رسبت.

في المدينة القديمة، وسط براغ، وفي ساحة صغيرة، أمام مدخل متحف كافكا، كان ثمة تمثالان، يتبولان على خريطة التشيك، الموضوعة تحت قدميهما. بول أبديّ، على خريطة الوطن، أمام أعين السياح، وضحكات طيف كافكا. كانت براغ، مدينة الألف برج، جميلة، أخّاذة، بمقاهيها، وجسورها، ومتحف الجواهريّ وصوره على حائط المقهى، وكائنات كونديرا المحتملة، وأشياء لا يمكن وصفها، لكن أجمل ما بدى لي فيها: هذا البول الأبديّ، على خريطة الوطن.

عدد المشاهدات : 1485

 
 

شارك مع أصدقائك

4 Comments