كيف تكتب جملتك الأولى | حسن مدن
مدير التحرير
أصعب ما في أمر الكتابة، وضع أو صوغ الجملة الأولى. يحدث أن تقبض، ذهنياً، على الفكرة التي أنت بصدد الحديث عنها، قد تكون هذه الفكرة جاهزة تماماً للكتابة، لكنك تظل تحدق، كالأبله، في شاشة الحاسوب أو في الورقة البيضاء أمامك، مسكوناً بالعجز أمام هذا البياض. كيف تدخل إلى الكتابة، إلى الفكرة مكتوبة، كيف تبدد بياض الورقة أو الشاشة؟! تنطلق الكتابة بعد تخطي مأزق الجملة الأولى، المدخل، التوطئة، الإشارة الأولى. والغريب إنك أمام مأزق هذه الجملة تجتاز تحدياً أمام نفسك في المقام الأول، رغم أنك راغب في العمق في أن تضع الجملة الأولى التي تحمل القارئ على أن يقرأ ما يليها، الجملة الثانية أو الثالثة على الأقل كي تضمن أنه خمَّن ما تريد أن تقول، وقرَّر بينه وبين نفسه أن يواصل قراءة ما تريد قوله، أو عدم قراءته، لكن الأمر عائد في الغالب إلى الرغبة في كسر رهبة الكتابة، التغلب على القلق أو الخوف من الدخول في عالمٍ يبدو لك في كل مرة عالماً جديداً، كأنك لم تلجه من قبل، ولم تخبر معاناته.
غابرييل ماركيز تحدث عن هذا الموضوع باستفاضة في إحدى المرات، لكنه كان في صدد الحديث عن الكتابة الروائية حصراً، حيث شرح أنه تغلب، بعد طول مران، على مأزق الاستهلال أو المدخل بأن يبدأ عمله الروائي بلقطة، بحادثة أو حكاية، وأعطى مثلاً على ذلك مدخله الشيق في “مائة عام من العزلة” عن حكاية طفل صغير مع جده العجوز، كان الطفل قد سمع عن أمر الثلوج التي تنهمر على بلدان باردة بعيدة وتغطي شوارعها وغاباتها، وكانت تلح عليه الرغبة في رؤية مشهد الثلج. ماذا كان بوسع جد عجوز في بلد استوائي من بلدان أمريكا اللاتينية لا يعرف الثلج أبداً أن يعمله ليقرب مشهد الثلج إلى حفيده. لقد أمسك بيده وأخذه إلى أحد مقار شركة الموز التي باسمها اقترنت مصائر عديدة في تلك القارة الساحرة، ثم أدخله إلى مخزن ملئ بالثلاجات الضخمة التي كانت الفواكه تخزن فيها على ما يبدو وهناك رفع اليد الغضة للطفل ووضعها فوق قالبٍ من الثلج، تحسَّس الطفل الثلج وأدهشته الفكرة. لم يكن ما لمسه الطفل هو ذاته الثلج الذي يتساقط نتفاً بيضاء من رذاذ ناعم في بلدان أخرى، ولكنه كان يشبهه!
بعد حكاية كهذه يسقط حاجز العبارة الأولى، الجملة الأولى. إنك تدخل بعد ذاك في جو النص وعالمه. إلا أن نصيحة أخرى في الموضوع يسديها هذه المرة الروائي الأمريكي المعروف إرنست همنغواي. في نهاية الخمسينات من القرن الماضي كان الكاتب قد تكرس كاسم بارز في أدب السرد العالمي، ويومذاك أصدر كتاباً شيقاً تحدث فيه عن تجربته مع الكتابة، وضمن هذه التجربة أفرد حيزاً لمعاناة الجملة الأولى، ولكنه اقترح لها الحل التالي: “دوَّن بالقلم الرصاص جملة تامة صحيحة، أتم وأصح جملة تعرفها، ثم تابع الكتابة. بعد أن تنهي النص عد إلى الجملة الأولى واحذفها”. ستجد أن حذفها لم يغير من النص ولم يسيء إليه.
في مقدمة ترجمة هذا الكتاب إلى العربية الذي اختار له علي القاسمي اسم “الوليمة المتنقلة”، يصادفنا هذا القول: “يحدث أحيانا أن أشرع في كتابة قصة ما ولا أتمكن من التقدم فيها، فكنت أجلس أمام النار وأعصر قشور البرتقالات الصغيرة على أطراف اللهب وأشاهد الرذاذ الأزرق الذي تخلفه. وأنهض وأحدق في سطوح باريس وأقول لنفسي:”لاتقلق، لقد كنت تكتب دوما من قبل وستكتب الآن. كل ما عليك أن تفعله هو أن تكتب جملة حقيقية واحدة. أكتب أصدق جملة تعرفها”. وهكذا أتمكن أخيراَ من من كتابة جملة حقيقية واحدة، ثم أواصل من هناك. لقد كان ذلك أمراً ميسوراً، لأن هناك دائماَ جملة حقيقية واحدة أعرفها أو رأيتها أو سمعت شخصاً ما يقولها. وإذا بدأت الكتابة بتكلف أو كمن يمهد لتقديم شيء ما، شعرت بأن عليَّ أن أحذف المحسنات والمقدمات والالتواءات اللفظية، وأرمي بها بعيداً لابدأ أول جملة خبرية حقيقية بسيطة كتبتها”. في شهادة لإيزابيل الليندي عن تجربتها في الكتابة تقول أنها تقوم بتسجيل ملاحظات طوال الوقت، وتحتفظ بدفتر في حقيبتها، وحينما ترى أو تسمع شيئاً مثيراً تقوم بتسجيل ملاحظته، تأخذ مقتطفات من الجرائد ومن أخبار التلفزيون، وتكتب قصصاً يرويها لها الناس. وحين تشرع في كتابة كتابٍ ما، تحضر كل تلك الملاحظات لأنها تُلهمها، ومن دون تخطيط مسبق تبدأ الكتابة مباشرة على الكمبيوتر مُتبعة في ذلك إحساسها. عندما تقوم بتطوير شخصية ما تبحث عادةً عن شخص يمكن أن يكون نموذجاً لها، وإذا كان هذا الشخص حاضراً في ذهنها، يصبح من السهل بالنسبة لها أن تخلق شخصية مقنعة. الناس، برأيها، مُركبون ومُعقدون وهم نادراً ما يظهرون كل الجوانب المتعلقة بشخصياتهم، وعلى الشخصيات الروائية أن تكون كذلك أيضاً. تقول إنه يراودها شعور أنها لا تخترع أي شيء، وأنها بطريقة ما تكتشف أشياء موجودة هناك، ووظيفتها هي العثور عليها وإحضارها إلى الورقة، لأن الإنسان حين يمضي ساعات عديدة متواصلة، كالساعات التي تمضيها هي، في الصمت وحيداً، يصبح بوسعه أن يرى العالم. إنها تتخيل أن الناس الذين يتأملون لساعات طويلة أو الذين يبقون وحيدين في مكان ما سينتهي بهم الأمر لسماع أصوات وإبصار رؤى لأن الوحدة والصمت يخلقان الأرضية لذلك. في الثامن من يناير عام 1981، وكانت في الأربعين من عمرها بالضبط، تلقت مكالمة هاتفية تخبرها أن جدها الحبيب يحتضر، وبدأت في كتابة رسالة إليه أصبحت فيما بعد روايتها الأولى: “بيت الأرواح”. منذ ذلك العام داومت على العادة نفسها. في الثامن من يناير من كل سنة، الذي بات يوماً مقدساً لها تحضر إلى مكتبها في الصباح الباكر وحيدة، توقد بعض الشموع للأرواح وعرائس الإلهام. تتأمل بعض الوقت ثم تشرع في كتابة الجملة الأولى لروايتها الجديدة وهي في حالة من الغشية. إنها تتعاطى مع المشاعر، لذا فإنها معنية بتلك الأشياء المهمة في حياة المرء، والتي لا تحدث إلا في الغرف السرية للقلب. كم بدا لي تعبير: “الغرف السرية للقلب” جذاباً، وهو في صورةٍ من الصور، ذكرني بحديثٍ مطول لجان بول سارتر عن سيرته الذاتية، فيه يلفت النظر إلى أن الكتابة تولد بالتأكيد من الخفاء والسرية، وإذا حاول الكاتب إخفاء هذه السرية، فإن كتابته ستكون برأي سارتر كاذبة، أما إذا حاول إعطاء لمحة عن هذه السرية في محاولة لعرضها، فإن هذه الحالة تقترب من الشفافية. الروائي البرازيلي خورخي أمادو، يرى أنه لا يجد بين رواياته ما يعده سيرة ذاتية، لكنه يؤكد أيضاً أنه لا يستطيع الكتابة إلا انطلاقاً من تجربة شخصية. وجاء هذا القول في إطار حديث عن منابع أو مصادر الكتابة الإبداعية عند عدد من الروائيين، أعدته وكالة الصحافة العربية منذ سنوات. وهو حديث شيق لأنه يقدم مفاتيح مهمة للإجابة عن السؤال الذي يشغل الكثير من النقاد والقراء: كيف يكتب الكاتب .. أو من أين تأتيه الأفكار؟ ومع أن البحث هنا تركز على الرواية، إلا أنه يمكن تعميم بعض خلاصاته واستنتاجاته لتشمل أجناساً كتابية وإبداعية أخرى. وفيه نطالع آراء مثيرة للتأمل والتفكر. بينها مثلاً رأي براهام جرين في الدافع إلى الكتابة، الذي يرى أن اليأس وحده هو ما يدفعه إلى الكتابة، وهو رأي قد يفاجئ الكثيرين الذين يرون أن رغبة الكاتب في تقديم خدمة أو معرفة للناس والمجتمع هي دافعه إلى الكتابة على نحو ما يذهب أمادو وجابرييل ماركيز. وماركيز هذا الذي يوافق على أن للأدب وظيفة اجتماعية هو نفسه الذي يعلي من شأن الخيال في الكتابة: “المخيلة دائماً على حق” – هكذا يلخص ماركيز رأيه ملاحظاً أن سبر أغوار الواقع من دون أحكام مسبقة يبسط أمام الرواية بانوراما رائعة، وأن الخيال ليس منهجاً هروبيا، لأن الواقع نفسه ينطوي على مقدار هائل من التفاصيل التي تبدو أقرب إلى الخيال. وقريباً من موضوع السيرة الذاتية تبرز مسألة الذكريات، بصفتها مصدراً أو ينبوعاً لا ينضب للكتابة. هذا ما يراه الروائي “نيرمان ميللر” الذي يؤكد على أهمية الذكريات التي يراها الأمر الوحيد الذي يجيد الروائيون الكتابة عنه، قائلاً إنه يفضل أن يتعامل مع الأحداث الحقيقية التي تشعره بالراحة، أما جراهام جرين فإنه يكاد ينفرد بين من أخذت أرائهم بالقول إنه يخشى الذكريات، “أشفق دائماً على العودة بذاكرتي إلى الوراء .. فهي كمن يقترب من الموت ويتعجل النهاية”!
هناك طبعاً من قلل من أهمية السؤال: كيف يكتب الكاتب أو ما يكتب. إنه فضل القول بأنه يكتب فحسب من دون أن يهتم بالسؤال: ماذا وكيف. الأمريكي أرسكين كالدويل قال: “بعد هذه السنوات لا أعرف كيف أجيب عن هذا السؤال .. إن أفضل طريقة لتعلم الكتابة هي الكتابة نفسها”. كأنه يومئ إلى أن كل عمل جديد هو أفضل من سابقه. لكن جراهام جرين لا يرى هذا الرأي أبداً، ملاحظاً أن الكتابة لا تصبح أسهل بالمرات أو التكرار، فاكتشاف الروائي لطريقته الخاصة في الكتابة يمكن أن يكون مثيراً، لكي تأتي لحظة في منتصف العمر، حين يشعر أنه لم يعد يسيطر على طريقته، بل أصبح أسير هذه الطريقة كأنه جرب كل شيء.
عدد المشاهدات : 790
شارك مع أصدقائك
One Comment