مآسي اليوم، متاحف الغد

مآسي اليوم، متاحف الغد

سارة عبدالعزيز

لم تكن الأغنيات يومًا ذات أثرٍ عابرٍ عليّ، وإنما كانت تنفذ إلى روحي. تشدُّني كل أغنيةٍ نحو ما تشتهيه. تُغني Lea Michele: “Just call my name on the edge of the night, and i’ll run to you”.

ما زلت أذكرُ يوم غنيتها لإخوتي، وعلى الرغم من أن صوتي كان أشدُّ فظاعةً من طرقات مطرقةٍ على صفيحٍ من حديد، إلا أن الابتسامة ارتسمت على شفاههم إذ كنت أعِدهم بالبقاء. ولكن أم كلثوم غنّت مطالبةً: “أعطِني حُرِّيتي أطلق يديَّ”. ولم أستطع أن أمتنع عن الغناء معها ولا التخلي عن مطالبها، غنيتُ للحياةِ أن “اعطِني حُريتي”. ففعلت. وأخذتني بعيدًا عنهم، وعن كل ما كرهت.

انتقلت لأحيا حياة ذلك الآخر، الذي قضيت طفولتي أُنصت لنقاشاتٍ لا نهائيةٍ عنه في المجالس، مرةً يمتدحونه لأنه أكثر تقدمًا وتحضرًا، ومرةً يذمّونه لأنه يريد الإطاحة بنا. تعلّمت منهم بأنه لن يمُد لي يد العون إذا سقطت، ولن يرشدني إلى وجهتي ما إن تُهت، وبأنه سيحاول ما استطاع أن يتغدّى بي، وإن علِم بأنني لن “أتعشّى فيه”.

طبّقتُ في البدء ما جادت عليّ به استراقات السمع في طفولتي من حصيلةٍ علميةٍ، فتوجّست منه خِيفةً، ولكنه لم يُبدِ شيئًا موافقًا لما عُلِّمت. مددتُ يدي لمصافحته، وصادقته مخالفةً كل ما عُلِّمت.

أردتُ أن أكون منهم. أن أستيقظ صباحًا لأبتسم لجاري، أن أركض في الحي دون أن يُثير ذلك الريبة فيمن حولي. أن أمشي في الأرصفة بلا وجهة، أن أقرأ في الحدائق، أن أحب رجلًا يحبني، أن يدعوني باسمي علنًا، أن لا يمانع ميلي لأن أقود وأن أُقاد حسب طقوسي المزاجية، أن تحتضن كفي كفّه في قاعة السينما. أن أخطط لحياتي مساءً، لأستبعد المخططات صباحًا، لأنني ببساطةٍ: ما عدتُ راغبةً فيها. أن أكون حرةً، لا بشكلٍ مطلق، وإنما بكل تواضعٍ: مثلهم على الأقل. وقد نجحت في البدء.

إنني هنا، حيث تكون الطرقات أكثر وضوحًا، والوجهات أقل عبثية. أنفض عن قلبي ما يثقله، وأقطع كل حبال الوصل مؤقتًا؛ علّ ذلك يصلني بي، وأمضي. لا يهم إلى أين، كل وجهة لا تمت لجذور القلب بصلةٍ تُرضيه وتُغنيه.

أمضي محتضنةً خارطتي، ظانةً أنني أعلم أي طريق أسلك، قانعةٌ بظنّي، إذ يكفيني من اليقين أن أعلم بأنني ذاهبةٌ. كل ذهابٍ نجدة.

أمضي وأكاثر الخطوات في موطن ذلك الآخر، الذي نخشى عداءه، ولا نرتضي مودته، متجاهلةً احتمالية كلٍ منهما، أتبسّم، فيبادلني الابتسامة، أتأمل وجهه الذي كان يألف كل الطرقات التي أجهل، وأبتدئ أولى حواراتنا عن شمسهم التي وإن أحرقت، تبدو أكثر حرقةً في بلادي. ومن ثم أتبع قائلةً بأنني جئت إلى موطنه، الذي قد يحبه ويحنو عليه، وقد لا يفعل، ولكنه في كلتا الحالتين سيبدو كذلك بالنسبة لغريبةٍ مثلي، بحثًا عن الحياة. وبأنني أشتهي ترصُّدها، تقبيلها، واحتضان أبنائها من التجارب.

يشيح بوجهه عني، فأقف، حيث لا أنتمي، لأُمجد التجارب، وأُصلي للذكريات الجيدة. آملةٌ بأن يدعوني غريبٌ ما لشرب نخب الحياة عندما يعلم من أين جئت.

إنهم يعلمون ما معنى أن تجيء من موطنٍ عربي، لا تنجب نشرات الأخبار له إلا المزيد من الخسارات والحسرات. يعلمون ما معنى أن تُقام مآدب العالم وتكون من وطنٍ نصيبه منها الفُتات. قد يُرضي ذلك ذوي السلطان، ولكن هؤلاء هم الشعوب المحبة، مقدسة العلم والحضارة ومبادئ التعاطف والسلام.

أثق بأنهم عندما يعلمون بأنني جئت من حيث يموت الأموات، ويبطش الباطشون، ويُعتقل كل محاولٍ للإصلاح، لابد وأنهم سيتعاطفون معي. عندما يعلمون بأنني جئت تاركةً خلفي أمًا تبكي أوطانًا، وأبًا لا يمكنه أن يمضي يومًا دون مشاهدة كل خبرٍ من عدة مصادرٍ علّه يتمكن من إحصاء عدد الأيام المتبقية له ولأبنائه قبل أن يحين أجلهم، وإخوةً سدرة منتهى أحلامهم أن يُسمع صوتهم وإن لم يُجاب. لابد من أنهم سيتعاطفون معي.

هنا، حيث كل شيءٍ يبدو على ما يرام. أستيقظُ لمشاهدة إحدى القنوات الإخبارية، علّني أطمئن على أهلي. قذيفةٌ تمّ تداركها، الحمدلله. لا جديد. أغلق التلفاز. غدًا يصادف البلاك فرايدي. لن أزعم بأنني كنت أحيا في القرن الخامس عشر، كنت أعرف ما تنطوي عليه فكرة البلاك فرايدي منذ كنت في وطني. جزى الله أمازون عني خير الجزاء. ولكنني دُهشت عندما ذهبت مع صديقي لرؤيتهم يقفون في الصفوف لساعات أمام المحلات مترقبين افتتاحها. كان الأمر طريفًا وحزينًا في آن، طريفًا أن حياة كهذه يمكن أن تتواجد، حياةٌ يمكن أن يسرف المرء فيها ليلة كاملة من عمره مترقبًا افتتاح محلٍ ما علّه يجد فيه ثوبًا بسعرٍ مُخفّضٍ، يروق له. وحزينًا لأنهم كانوا يشبهوننا، ولكن بطريقةٍ أخرى. كل الأعوام لدينا أعوامٌ سوداء، ونحن، العرب، السلعة المُخفّضة أبدًا. يصطفون حولنا اصطفافًا، ويبتاعوننا بأبخس الأثمان. أردت أن أخبره بذلك، ولكنه ما كان ليفهم. دلفت معه المحلات، دون ابتياع شيء، لقد كان البلاك فرايدي لهم، أما أنا فقد كنت أدعو في سرّي أن يزيد الله من قدرنا، ونكون فوق ما يمكن تثمينه.

يصطحبني صديقي في رحلةٍ حول موطنهم. كانت وجهتنا الأولى متحفًا كان يحبه، كان المتحف عبارة عن قصر أحد أثرياء المدينة قبل عدة عقود، والذي لم يكُن له ما يميزه سوى ثراءه البادي على قصره، وعلى اللوحات التي كانت تظهر ثيابه الوثيرة. انتقلنا بعدها إلى وجهتنا الثانية، والتي كانت قصرًا آخر، ولكنه هذه المرة لا يخص شخصًا ثريًا فقط، وإنما ذو منصبٍ سياسيٍ -أسخف من أن يُذكر- في المدينة قديمًا. ونظرًا لأهمية هذا القصر كمعلمٍ في المدينة، فقد كان هناك العديد من المرشدين الذين يجنون قوت يومهم عبر حفظ حياة هذا الـ لا أحد، وذكرها لنا، نحن الـ لا أحد الآخرون. دخلنا غرفة نوم الرجل الـ لا أحد، فذكرت المرشدة بكل حماسةٍ بأنه كان ينام مرتديًا هذين الجوربين، مشيرةً إلى قطعتين من القماش مهترئتين، ومعلقتين بجانب لوحةٍ يظهر فيها مرتدٍ منامته. انتقلنا إلى غرفة الطعام، فأشارت لنا -بحماسةٍ غير مبررة مجددًا- إلى الطاولة التي تتوسط الغرفة، قائلةً بأنه كان يأكل فطوره في هذه الغرفة في السادسة صباحًا، وأنه كان يحب مربى الفراولة دونًا عن بقية أنواع المربى. أكملت الحديث عن عاداته الغذائية التي جعلتني أخشى أن ننتقل بعدها إلى دورة مياه هذا الـ لا أحد، لتتحدث لنا عن بقية مراحل الهضم عنده! انتقلنا بعد ذلك إلى مكتبته، تحدثت عن عدد الساعات التي كان يقضيها فيها، صمتت قليلًا، وأكملت بأسلوب مَن يودُّ إثارتك بأية طريقة، بأنه في هذه الغرفة قام بقتل زوجته بعد إحدى الشجارات. ضحكت عندها، تمنيت لو كانت والدتي هنا، كانت ستهزأ من هذا كله، وستقول بأن الإنسان دائمًا ما سيطالب بنصيبه من الكوارث ليملأ خواء حياته. كنت مترقبةً للحظة خروجنا، لأسخر من هذا العرض الهزلي الذي حضرناه. ولكن عندما خرجنا التفتُّ إلى صديقي فوجدت أن عيناه كانتا تشعان بذات الطريقة التي تشع بها عينا المرشدة. أخبرني بأنه كان يحب الأماكن التاريخية، وبأنه سعيدٌ بأننا خضنا هذه التجربة سويًا. ابتسمت، على الرغم من أنني لم أتفق معه في شيءٍ من ذلك، ولكنني لم أرد أن أفسد عليه سعادته. اتجهنا إلى وجهتنا الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، والتي كانت تُدعى “متاحفًا” في حين أنها منازلُ أشخاصٍ كانوا يملكون من المال ما يسمح للزمن أن يحفظ ممتلكاتهم وإن فَنَوا هم. لم أستطع عندها أن ألزم صمتي وتبسُّمي. شعرت بخليطٍ من الحنق والقرف لم أكن أطيق إخفاءه. أخبرته بأنني أحب التاريخ أيضًا، ولكنني لا أحب التلاعب فيه. لم يكن من المنصف أن تُحفظ قصور الأثرياء بهدف “الحفاظ على الثقافة والحضارة” في حين أن بيوت عامة الشعب قد هُدِّمت. لم يكن من المنصف أن تُحفظ تفاصيل أيام الأثرياء عديمة القيمة لمجرد كونهم كذلك، بينما تتلاشى وتمحى عن الوجود تفاصيل نضال حدّادٍ توفي في ذات العام. حدّثته عندها عن موطني، عن متاحفنا التي لا تحمل اسم متحفٍ، وإنما بيوت أشخاصٍ ما تزال. بيوتٌ طينية عجزت أيدي الزمان عن هدمها، وعجزت العوائل على الرغم من تعاقب الأجيال عن ملء الجيوب بما يكفي من المال للخلاص منها. وبأن القصور عندنا لا تمثل متحفًا يُزار، لأن الثراء لم يكن خيارًا لأجدادنا. أجاب بأنه لم يفكر في ذلك من قَبل، صمتت، ولم أقل بأن هذا يجعل الأمر أكثر إثارةً للحنق والقرف.

أحاول دائمًا ما استطعت أن أقدِّم التقدير لمن يستحقه. ومن ذلك المنطلق، بحثت عن اسم مؤسسي السكايب Skype، اللذين لو لم يكونا متوفيين لشكرتهما على تقديمهما لي فرصة وصل مَن تصلني بهم القلوب وتفصلني عنهم أشباه الأوطان. هنا، بعيدًا جدًا عن كل مَن أُحِب، ما أزال قريبة. اتصل بي أخي، ظهر لي على شاشة الكمبيوتر المحمول، كان منشغلًا بالحديث، في حين أنني كنت منشغلةً بتأمُّل ملامح وجهه، عينيه المتقاربتين، أنفه، شفتيه الورديتين وهما تكشفان عن ابتسامةٍ خجلى. قال بأنه قد اتصل ليخبرني عن حلمه الجديد الذي عكر عليه صفو مزاجه منذ بدء اليوم، والذي يشبه كل سوابقه في غرابته ولا منطقيته، سألته ممازحةً ما إن كنت قد مِتُّ في حلمه هذا، كما حلمه السابق. ضحك، وأخبرني بأنني لم أكن متواجدةً في حلمه هذه المرة. كانت هذه أول مرةٍ لا أكون فيها جزءًا من حلمه، إذ لطالما لعبتُ في أحلامه دورًا، وإن كان ثانويًا. طلبته أن يصف لي الحلم، فأخبرني بأنه كان في إحدى غرف المنزل مع صديقه، وبأنه سمع صوتًا غريبًا صادرًا من الخارج، شعر بالخوف، ونظر من النافذة، فوجد أن موجة من موجات تسونامي كانت على وشك أن ترتطم بالنافذة. استيقظ لحظتها فزعًا، قلقًا، ولم يستطع أن يتخلّص من قلقه، وهذا ما دفعه إلى محادثتي. ضحكت، كيفَ يعقل أن يخيفك شيءٌ مشابه في حين أن مدينتنا أحد أكثر المدن جفافًا، لا ماء فيها لا في البحر ولا في الحمامات العمومية؟! ضحك. سخرنا من الأمر لبعض الوقت، ثم اضطر لإنهاء المكالمة. فكّرت في حلمه، في قلق أخي الحبيب، من المصائب المحتملة، والممكنة، والمستبعدة والمستحيلة. أخي الحبيب الذي لطالما شغلته المصائب، مرةً يحلم بأننا كنا نركض سويًا في حربٍ لا ناقة لنا فيها ولا جمل. مرةً نختبئ من إعصارٍ يلتهم كل ما يعترض طريقه. مرةً نسقط في ثقبٍ أسودٍ لا قرار له. أخي، الذي يجتنب النشرات الاخبارية لفرط ما تثير في نفسه من القلق، قلقٌ على الرغم من ذلك؛ لأنّه يعلم بأننا مهددون على الدوام. وكلما سارت مصيبة، نظر إلي بحيادٍ مطلقٍ وقال لي: “إنّ طبيعة الأشياء سيئة”. ليته يجيء هنا، ليتمكن من رؤية أن طبيعة الأشياء ليست كذلك. أتصل بصديقي، أخبره بأنني لا أود إمضاء اليوم وحيدةً، أفكر في التسونامي الذي لن يقع، نتفق على اللقاء في مقهىً قريب. حدثني يومها عن والديه، وعن حبهما لمساعدة من حولهم. وكم أنهم يشاهدون العديد من الوثائقيات، ويقرأون تقارير اليونيسف. أراني عندها باعتزازٍ صورة لهما أمام بقايا جدار برلين. كانت أسياخ الحديد المكونة للجدار ظاهرة، لفرط ما حاول سكان برلين السابقون هدمه. كانت هناك العديد من علامات الحفر، والكثير من الكتابات. ومن ثم أمام هذا الجدار، تقف امرأةٌ تبدو في أربعينياتها، مُقبِّلةً رجلًا تبدو عليه معالم السعادة والزهو، محيطةً إياه من خصره، ومشيرٌ كلٌ منهما بسبابة إحدى كفيه نحو بقايا الجدار. كان المنظر فظيعًا، أن يقفا هناك، دونًا عن كل الأمكنة، يتبادلان القبل في مكانٍ شُتِّت فيه الأسر، وأُزهقت فيه العديد من الأرواح التي لم تكن تحلم بالقبل حتى في مناماتها. أخبرته بأن الأمر مشابهٌ لما يحدث في فلسطين وجدار الفصل العنصري، ولكن الفارق هو أن جدارهم ما يزال قائمًا، ومعاناتهم ما تزال مستمرة. لم يفهم ما قصدت في البدء، ولكنه بعد صمتٍ قصيرٍ سأل ما إن كنت أقصد “الحاجز الأمني”؟ لم أعد أشعر برغبةٍ عندها في إكمال حديثي.

انقطعت عن محادثة صديقي لفترة. كنت بحاجةٍ لبعضٍ من الوقت بعيدًا. إذ أن لقاءاتنا السابقة أظهرت لي بأنني جئت محمّلةً بجراح الوطن على كتفي، أحملها معي في رحلة الهروب نحو حريتي المأمولة، في حين أنه كان يأمل أن يكون مثل والديه، مداوٍ لجراح العالم عبر القبلات، وصور السيلفي.

دعاني لقضاء ليلة رأس السنة مع عائلته. ترددت في البدء، ولكنني كنت أعلم بأن البقاء في الشقة وحيدةً ما كان ليثير فيّ إلا المزيد من الحنين واللا انتماء. ذهبت دون رغبةٍ، ولكنني لم أكن ممتعضة، إذ علمني العمر المهدر في وطني الاعتياد على اتخاذ قراراتٍ مشابهة، القرارات غير المحبذة، ولكنها الأقل ضررًا. استقبلتني والدته بحفاوة، وقدّمتني لبقية العائلة. كانوا بالغي اللطف معي، تحادثنا، لعبنا، شاهدنا فيلمًا. ولكن ريثما كنا نقوم بذلك، كنت أشعرُ بأنّهم “هُم” وبأنني مهما شعرت وأردت، لا يمكنني أن أكون واحدةً منهم، تشعر بسعادةٍ لا تشوبها أي شائبة مثل ما يشعرون، وتشعر بالحياد المطلق اتجاه العالم ومصائبه إلا عندما تزور معلمًا ثقافيًا أو تسمع نشرةً للأخبار بشكلٍ عارضٍ في أحد المقاهي. شعرت بالغربة والوحشة. استأذنتهم للمغادرة وعدت إلى شقتي، اتصلت على أخي، ولكنه لم يُجِب، كان بعيدًا عن هاتفه. بعيدًا عني.

أكمل مضيي في الطرقات، متجهةً إلى المطار، الذي سقطت كل رحلاته بتعدد اتجاهاتها من قائمة أمنياتي وأحلامي، وجهةٌ واحدةٌ فقط كنت أطمح إليها. أصعد إلى الطائرة، وقبل أن تُحلِّق بثوانٍ، أُعيد قراءة الإيميل الذي كتبته، ومن ثم أُرسله، أرتدي سماعتي، وتردد لي فيروز: “خِدني على بلادي”، وأعود إليها، إلى وطني/زنزانتي.

“صديقي الغالي، هنيئًا لك بدء عامك الجديد.

في البدء أود شكرك على لطف دعوتك لي لإمضاء ليلة العام الجديد مع عائلتك. وأود الاعتذار عن خروجي المبكر، والذي قد يبدو غير مبررٍ في نظرك. أكتب إليك هذه الرسالة إيضاحًا، وتوديعًا. جئت إلى وطنكم هربًا من غربةٍ كانت تجتاحني، وبحثًا عن أرضٍ لا أنتمي إليها ولا تُطالبني أن أفعل. لم أكن أحب أن الموسيقى التصويرية لمعظم اجتماعاتنا العائلية كانت صوت مذيع يعلن عن مذبحةٍ جديدة كان ضحيتها مدرسة أطفالٍ لم يتجاوزوا سن أخواتي الصغار، لم أكن أحب أن الخبر يتكرر كل مرةٍ، باختلاف البقعة التي تتواجد فيها هذه المدرسة. لم أكن أطيق رسائل الوتس اب، وتغريدات التويتر، التي تطالب مني أن أحس بموتانا أكثر، لا عن لا مبالاةٍ، وإنما لأنني كنت أحس كثيرًا، ولا يزيدني شعوري إلا موتًا. كان يوجعني المساء، لأنه يجعل من سريري قبرًا، أستلقي فيه لا لأغفو، وإنما لتصحو كل صور الموتى التي شهدتها طيلة اليوم لتؤرقني، ولا أملك حتى أن أؤمن بأن ذلك ليس حقًا لها. إذ ما قيمة نومي أمام نومهم الأزلي؟ أي قيمةٍ لأي شيءٍ في مقابل حياواتهم التي قطفت قبل حتى أن تُثمر؟ جئت هاربةً، ولكنني الآن أدرك بأنها محاولةٌ غير مُجدية. إذ كيف للمرء أن يهرب من أصله ودمه؟ كنت أظن الأمر متعلقٌ بالأرض، وبأن مجرد الفكاك منها يعني الخلاص من كل هذه المآسي، ولكنها كانت فيّ. تدعوني لزيارة المتاحف، ظانًا بأنها تحفظ التاريخ. ولكن أي تاريخٍ فيها ليُحفظ؟ التاريخ لديكم تاريخ الاحتلالات -الانتصارات زعمًا- والأموال، بينما تاريخ الأفراد، مثلي ومثلك، فهو زائلٌ هنا ما لم يكن هذا الفرد أفلاطونًا أو عالمًا ذريًا. بدا لي تاريخكم هشًا، فالتاريخ الحق -بنظري- هو التاريخ الذي يحفظ حياة العامة ليحكيها لأحفادهم. أما تلك المتاحف فإنها تحفظ للأغنياء سلطتهم وسيادتهم حتى بعد موتهم. لابد وأن قصورهم هذه كانت مزارًا لعامة الناس منذ أن كانوا فيها، لابد وأن حفلاتهم كانت مرتقبة، ودعواتهم مأمولة، ولكن ما معنى أن يستمر ذلك؟ أي عبوديةٍ أكثر جلاءً وفظاعةً من العبودية التي يفرضها تاريخ الأغنياء ذوي السلطة القِلّة على البسطاء الكثر؟ كنت أتمنى لو اصطحبتني إلى صالة لعب البولينغ عوضًا عن ذلك. ما لم تكن قادرًا على فهمه يا عزيزي، هو أنني لم آت إلى هنا أملًا في الحصول على وطنٍ آخر، يصبح تاريخه تاريخي، وأرضه منزلي، وإنما أردت فقط أن أفِرّ من وطنٍ سابق، حاملةً وطني الحق في قلبي، كقنبلةٍ موقوتة. تخبرني بأن والديك يحبان مساعدة مَن حولهم، يشاركان في حملات الإغاثة، ويزوران الأماكن التاريخية التي مثّلت جزءًا من معاناة البشرية. تخبرني بذلك وكأنها هواية، في حين أنني قد جئت من المكان الذي يفترض أن تتوجه إليه هذه الحملات. شعرت بالأمل، أردت أن تخبرني بأنهما ذهبا في حملةٍ إلى العراق، أو ليبيا. سوريا أو فلسطين أو اليمن ولبنان. ولكنهما اكتفيا بتبادل القُبَل أمام بقايا جدار برلين، وكأنه نصبٌ تذكاريٌ للحب، لا لجريمة لن يغفرها التاريخ. فكرت يومها في فلسطين الحبيبة، وشعبها الأبيُّ الذي لم يكسر شوكته جدارٌ مايزال قائمًا كحاضرٍ لا كتاريخٍ يُذكر. فكرت في الشعب الذي لا يفصله عن وطنه إلا مترٌ أو اثنين، ولكنه يعجز أبدًا عن الوصول إليه. وفكرت كم هو سخيفٌ بصورةٍ استثنائية أن يجتمع كل هؤلاء الظاهرين في الصورة في مكانٍ تاريخيٍ كهذا، ليحملوا نعش الإنسانية، في حين أن الجدار الذي ما يزال قائمًا لا تجتمع حوله إلا أرواح الثوار المزهقة!

نظرت إلى صورة والديك يومها، وما كُتِب خلفهما على الجِدار: “Why?”. فكرت في كاتب هذه الكلمات، في معاناته، ماذا لو رأى هذه الصورة، كانت لتكون متممةً لتساؤله. لماذا يتحلقون حول الماضي، يقرأون الكتب، يزورون النصب التذكارية، ومواقع المجازر، ولكنهم لا يحاولون إسعاف الواقع من فظائعه؟ لماذا تشعرهم زيارة هذه الأماكن بلذّة أنهم ليسوا من أولئك الذين يرتضون حدوث بشاعةٍ كهذه، في حين أنهم يصمتون في وجه شناعاتٍ أكبر تحدث أمام أعينهم يوميًا؟ أدركت عندها يا صديقي بأن الفارق بيني وبينك لم يكن كبيرًا بالقدر الذي كنت آمل. لم تكن أكثر سعادةً مني، وإنما أكثر خدرًا. كنت تداوي عجزك عن إصلاح العالم عبر إعانة السيدة المسنة في عبور الشارع، كنت تداويه عبر الحملات التطوعية التي تهدف إلى حماية الكلاب والقطط وكل مملكة الحيوان، لأنّك كنت عاجزا عن نجدة الإنسان. أنا أمشي يقظة، أقف على قَدَمَي البشرية، وتوجعني تقرحاتها مع كل خطوة، في حين أنك تمشي خدِرًا، وتمضي العمر نائمًا. مجتنبًا نشرات الأخبار ما لم تتحدث عن ماضٍ وجد قبل أن توجد، لأنك تشعر بأن الحاضر يمطر عليك شعورًا بالذنب لا تطيقه. تقطع الطريق نائمًا، حريصًا على ابتلاع كل حبة مخدرٍ تصادفها في طريقك، لئلا تصحو يومًا. ولكنني أختار صحوي، أختار شعور الذنب هذا، لا عن نزعةٍ متطرفة لجلد الذات، وإنما لأن هذا حق الإنسان عليّ، أن أنجده، فإن لم أستطع، فأحاول، فإن لم أستطع المحاولة حتى، فحقه عليّ أن أعلم بمصابه، أن أتوجع من أجله، وأن أطالب بحقه وأستنكر الظلم الواقع عليه، وإن كان ذلك في نفسي فقط. وأي شعورٍ بالذنب يغمرني جراء ذلك سيكون أخف وطأةً من الشعور الذي سيغمرك حال صحوك من سباتك الممتد هذا. لم يكن الفارق بيننا كبيرًا كفردين، ولكنه كان مهولًا بين أهلينا. في منزلك عاملتموني بصورةٍ لطيفةٍ، ولكنني لم أستطع أن أرتق الفجوة المتواجدة ما بيننا. تحدث والدك عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وعن كل الأفلام التي صورت هذه الجريمة البشعة بصورة إنسانية مبهرة، تحدث عن الضحايا القِلّة بإسهابٍ، وكأنها أول جرائم البشرية وآخرها. لم أستطع عندها أن أتمالك نفسي، فكرت في فلسطين القريبة رغم كل بعد، حاولت أن أتذكر أي فيلمٍ جيدٍ يحكي مأساتها بصورةٍ إنسانيةٍ فلم أجد. تنازلت قليلًا، أردت أن أفتكر فيلمًا وإن لم يكن جيدًا يحكي مأساتها بأي صورةٍ وإن كانت رديئة، فلم أستطع تذكر أي فيلم سوى فيلمًا واحدًا، قذرًا، مُعدٌ من قِبَل محتلّتها لتزعم فيه بأنهم إخوةٌ يعيشون في ودٍ ووئام! فكرت في سوريا الحزينة، سوريا التي استُبيح دمها في زمن التطور التكنولوجي العربي، لابد وأن أحدهم أعد عنها فيلمًا جيدًا. فكرت كثيرًا، ما يقارب السبعة أعوام من ينابيع الدم التي تفيض ولا تنضب، دون أن يخاطب أساها أحد. فكرت في العراق، تجري في عروقنا كما ماء نهريها، لم يتم تجاهل العراق، إذ أنها أوفر حظًّا من الوطنين السابقين لكونها اختارت عدوةً أكثر فخرًا واعتزازًا. تخطر عَلى البال الكثير من الأفلام التي تحدثت عن العراق، مشاهد التفجيرات محفورةٌ في رأسي حفرًا، ولكنها مشاهدٌ كاذبة، تجعل العراقيّ عدوًّا يبطش ويسفك الدماء، والأمريكي رقيق القلب يموت ظلمًا تحت نيرانه. العشيق الذي فقد عشيقته لأن قناصًا عراقيًا قذرًا قام بإطلاق رصاصة الموت عليها، مخترقةً صدرها، ومفتتةً قلبه. أكاذيبٌ ممولة، متحلية بأحدث ما جاءت به التكنولوجيا من وسائل التصوير والإخراج، لتنطلي على العالم بأسره عدانا نحن. نحن الذين نعلم أيّ الرجلين قاتلٌ وأيهما المقتول.

لم أستطع أن أنصت يومها إلى والدك دون أن أفكر في مآسينا المتعددة، التي تفوق أعداد ضحاياها ما يمكن عده، والتي لا تزيدها السنون إلا ضخامةً وفظاعة ونسيانًا، ومآسيكم معدودة الضحايا، المخلدة أبدًا. ماذا لو أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر حدثت في أوطاننا؟ تفجيرٌ في برجين، تعددت الأقوال في عدد ضحاياه الذين أزهقت أرواحهم، ولكن أقصاها ثلاثة آلاف ضحية، أي وقت كان سيلزم العالم لينسى ثلاثة آلاف ضحية عربية؟ ثلاثة أشهر؟ ست؟ عشر؟ ومن ثم كانت ستنسى، كأي الجرائم البشعة التي تهدر أبخس دماء العالم ثمنًا. مآسيكم وإن صغرت، تنشئ المتاحف، تكتب التاريخ، تحظى بدقائق الصمت، وتنتج الفن. بينما مآسينا، تكتفي بتغذية القنوات الإخبارية بما يبتدئون به نشراتهم اليومية. نحن وليمتهم، يلوكون مآسينا كل صباحٍ، لتتجدد. دون أن يستمع إليها أحد سوى المعنيين بها، أما بقية العالم، فإنه ينتظر أن تنشأ المتاحف، وتُطلى القبور بالذهب، لتغدو عندها مزارًا، عندها سيعترف العالم بفظاعة ما يحدث، ولربما تتلقى حلب التي حلبوها من الحياة وسامًا للصمود، أو أي سمة أخرى لن تُحيي موتاها، ولن تعيد أبناءها الذين شُرِّدوا في شتى أنحاء العالم.

لا يمكنني أن أحصي لك يا صديقي عدد الليالي التي صلّيت فيها مع غوسبودينوف: “أن أهجر هذا المكان بسرعة. أن أكون آخر. أن أكون آخر، في مكانٍ آخر”. ولكنني برفقتك وجدتني في هذا المكان الآخر، دون أن أكون أخرى، يمكنها العيش فيه. لذلك، أكتب لك هذه الرسالة، وأنا في طريقي إلى المطار عائدة إلى موطني، لا حبًّا وانتماءً، وإنما يقينًا بأنه لم يعد هناك من مهرب، ليس من “هناك” صائبةٌ تُرجى، مكان كونديرا الآخر لا يمكن الوصول إليه وإن أمضيت العمر خطوًا. أعود إلى الأرض المجدبة التي فرضت عليّ الانتماء فرضًا، لا لأؤدي الفريضة، وإنما لأنها تستحيل عليّ في كل البِقاع. أعود ملوحةً تلويحة وداعٍ أخيرة لا للعالم بأسره، وإنما لحلمي السامي عنه. وداعًا، إلى الأبد”.

عدد المشاهدات : 2375

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.