كانت تُسمّى فلسطين
مدير التحرير
1
“كانت تسمى فلسطين. صارت تسمى فلسطين”.
البعض بات يتعامل مع هذه النوعية من أبيات درويش ككليشيه قديم وتقليدي. ولكن لمَ لا؟ الحكاية كلها صارت تقليدية ومحفوظة. فلسطينيون يُقتلون ولا يملّون المقاومة. شعوب عربية حزينة. أصوات تهزأ بالحزانى وتختزلهم في مجرد أسرى لفكرة العروبة. مسؤولون حكوميون يجدونها فرصة لقول كلمتين في نضال منخفض السقف: “الخارجية تندد.. القدس عربية”. ورؤساء يبتسمون في وجه القاتل.
2
خاطرة قديمة:
“منذ سنوات طويلة ومفهوم أن الكيان الصهيوني، صديق على المستوى الرسمي، عدو على المستوى الشعبي. لكن يبدو أنها فكرة في طريقها للتغيير. أخشى أن نظام الحكم الحالي في طريقه لترويج اعتياد العلاقة مع إسرائيل شعبيًا، بعد ما استطاع أن يربي كل هؤلاء المبرراتية المبدعين في ترويج مصائبه باعتبارها في مصلحة البلد. ببساطة ستجد من هو مقتنع بأن سفر وزير الخارجية المصري إلى تل أبيب وراءه عمل مخابراتي مصري “ما يخرّش الميه”. أصبح لديك مشكلة عويصة في تلقي فوز أديب مصري بجايزة قطَرية، بينما لا تنزعج عيناك وأنت ترى وزيرك يتفرج مع نتنياهو على مباراة كرة قدم. وبعد ما كان يقال: الأراضي المحتلة.. صار يقال بعادية: معاناة الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي. هذا نظام تجاوزت خطورته الفشل السياسي والإداري والاقتصادي والأمني، إلى القدرة على تغيير الوجدان العام تدريجيًا”.
تذكرت هذه الخاطرة منذ أيام، أثناء متابعة غضب الأصدقاء في فايسبوك بسبب احتفال الصهاينة بمرور 70 عاماً على تأسيس دولة إسرائيل، والتي كنا نسميها ذكرى النكبة. حدث ذلك في أكبر فنادق القاهرة وأكثر ميادينها رمزية. سألت نفسي، هل يتغير الوجدان العام فعلًا أم أنني مُبالغ؟ لكن، ما هو الوجدان العام؟
3
ـ “شايف حتة القماشة المدلدلة فوق دي؟”.
ـ “مالها؟”.
ـ “دي علم إسرائيل. سفارتهم مستخبية فوق خالص في العمارة دي. لأنهم طبعًا مايقدروش ياخدوا مكان كبير ويرفعوا عليه علم. المصريين ياكلوهم”.
ـ “طيب ليه مايمشوش خالص؟”.
ـ “بيننا معاهدة سلام ومسائل سياسية، لكن يفضلوا مكروهين”.
كنت في المرحلة الابتدائية عندما كان أبي، كلما مررنا فوق كوبري الجامعة، يشير إلى قطعة القماش المدلاة ويقول لي الكلام نفسه.
4
في العام 2000 قامت انتفاضة الأقصى. وشاهدنا الفيديو الشهير لاستشهاد محمد الدرة. الطفل الذي اختبأ مع أبيه وراء برميل خوفًا من رصاص الصهاينة. الأب المذعور حاول أن ينبههم بإشارات مرعوبة كي لا يقتلوه مع ولده. بعد ثوان، رأينا الابن يرتمي ميتًا في حضن الأب.
المصور الفرنسي شارل إندرلان، الذي صوّر الواقعة، أكد أن عساكر الصهاينة استهدفوه عن عمد. وترك الفيديو في وعي أبناء جيلي ذكرى لا تنسى، وأثراً بالغاً.
بالأمس، وأثناء مواجهات الفلسطينيين مع قوات الاحتلال في مسيرات العودة، استشهد فادي أبو صلاح. الشاب الذي كان قد فقَد ساقيه في مواجهات سابقة، وراح يتحرك على كرسي متحرك. أصر على استكمال النضال. انتشرت له صورتان. واحدة وهو على الكرسي من دون ساقيه، ويده تلوح بمقلاع في مواجهة الذخيرة الحية. والصورة الثانية وهو في الكفن صغير الحجم. فهو في النهاية نصف جسد. سألت نفسي ثانية: هل تترك صورة فادي، في وعي الأجيال اليافعة اليوم، ما تركته في وعيي صورة محمد الدرة؟
5
الصداقة الرسمية مع الصهاينة ليست جديدة. غير أنها في السابق كانت متوارية. ليس بسبب الخجل، إنما لرهبةٍ من ذلك الوجدان العام والوعي الجمعي، الذي صار ملهيًا للأسف في مشاكل بطنه وعلاج الأولاد. الوعي الذي بدأ يوسع مساحة لأصوات تبرر الجرائم، وتطرح السؤال الذهبي للميّالين بطبعهم للأقوى مهما كانت وساخته: “هم الفلسطينيين إيه اللي ودّاهم هناك”؟
_____________
* نشر هذا المقال، للكاتب: هشام أصلان، في جريدة المدن، بتاريخ 15 مايو 2018م.
عدد المشاهدات : 710
شارك مع أصدقائك
Comments are closed.