لا تسأل الغبار

لا تسأل الغبار

عبدالعزيز البرتاوي

هذه المدينة مخلوقة من غبار، ونحن بحاجة لنفض قلوبنا، ولو بالكلمات. غبار، غبار، غبار. ما مرّ يومٌ والرياض ليس فيها غبار. اقتربي، المسافة تفعل بقلبي ما تفعله الشمس بسعف النخيل هنا، تحمّصه، وتسفّهُ الأيامَ، غبارًا غير سائغ للمنتظرين.

هل قصصتِ شعركِ مؤخرًا؟ هل أنت محتارة لفعل لذلك؟ هل يبدو لك قرارًا مصيريًا؟ أي لون تختارين؟ أي موضة؟ أي زهو تودّين صنعه للمدينة؟ احكي لي عن ذلك. الأمر ليس بسيطًا. يجب أن نفكّر جميعًا. سنحاول تخيّل ذلك. الشوارع تتدخل أيضًا، الطيور، الفراشات، صديقاتك، مقرّ عملك، الرجال ذوو النظرات الطويلة، المحرومون، قَصّ شعركِ يشغل بالك؟ إنه يشغل هيئة تطوير المدينة أيضًا.

قال فايز أحمد فايز، شاعر الغربة والغرباء والقصائد المعلقة في ميترو نيويورك: “لا تطلبي مني يا حبيبتي الحبَّ الذي حملته لك يومًا، إنك ما تزالين جميلة يا حبيبتي، لكني عاجز، لأن في العالم أحزانٌ أخرى سوى الحب، ومسراتٌ أخرى أيضًا”. وأقول لك بوصفي شاعر القصائد المعلقة على حائط قلبك: احكي لي واقعك، أحلى أحلامهم. احكي لي أحلامك. أعذبُ من كل خيالاتهم. غنّي لي تنهداتك، أشهى من ألحانهم. قصّي عليّ ولو صمتًا هدير أنفاسك. قولي لي قصيدةً. بالمناسبة: قولي أي كلام، وسيغدو على شفتيك قصيدة.

“الشعرات البِيض”، زادت مؤخرًا. أفكّر أقلّ، وأسهُم أكثر. كبرتُ. قالت لي أرقام السنوات التي أختار حين أحجز تذكرةً ما، فأنزل طويلا بالسهم، أجتاز الأرقام المكونة ابتداءً بالرقم ٢، وأمضي نحو رقم يمعن بعدًا. كبرتُ. قالت لي القطة التي كانت صغيرة، ولا تحب أن تنام إلا على سيارتي، هي الآن متعبة، وتبذل جهدًا لارتقاء رصيف. كبرتُ، قالته لي البيوت التي كانت جديدةً، وها هي الآن تخضع لعملية ترميم ثانية. كبرت، قالته لي الشوارع التي كانت كثة الخضرة، وتبدو الآن مؤطرة بالصلع والغبار والسراب. كبرتُ، قالته لي اللامبالاة، والأغاني التي مهما استجدت صارت قديمة. كبرتُ، قالته لي تجاعيد المذيعة التي ما زالت تتألق في كل نشرة، تتلو بيان نعينا.

أتملّى وجوه الرفاق. صاروا آباء. وعكّرَ صفو ملامحهم تَعسُ الليالي وتوالي الخيبات. من كانوا يأنفون أن يقولوا شتيمةً، صارت أوراد أحاديثهم سبابًا وبذاءة. شتمٌ طال كل شيء. جهرٌ بالسوء، ليس ممن ظُلم، بل من الظالم الذي سيحدّد لك بالقانون مواعيد استقبال الشتم، حتى لا تذهب نحو مواعيد استقبال الجلد. وكل مساء، نسأل رفقة فايز: “نسأل كل غريبٍ عن طريق العودة إلى الوطن. غرباء هم الناسُ، في هذه البلاد الغريبة. نكدح من الصباح إلى المساء، نتحدث مع الغريب. كيف أصلك يا صديقتي؟ كيف؟ وكم هي مرعبة ليلة الوحدة”.

لا أذكر اللحظة التي قلتُ فيها حكاية، فقاطعني شخص ما: متى حدثت؟ وقلت له بعد تفكر برهة: قبل ٢٥ عامًا أعتقد. يا للهول! كنت بطل حكاية حدثت قبل ٢٥ عامًا. سكتّ. شكّ الحاضرون بسكوتي، لكن في داخل رأسي كانت تمتد أسئلة بطول هذا العمر الذي قفز فجأة، دون أن يترك لي فرصة تبديل ملابس الطفولة، ولا محو ملامح فوضى المراهقة.

عمري صحراء جفاف طويلة. بسماتكِ كانت ينابيع بعض انعطافاتها. عمري طريق طويل مغبرّ، يمضي من مدينة مجهولة، نحو أخرى أكثر تيهًا. تظلله بين الفينة والأخرى ضحكاتكِ، صوت طلال، حنين الصباح المشبع بقلق فيروز “وينن”، شتائم الذين نحبهم ويذهبون، طفل فلسطيني غاضب، وعي أخي الأصغر وهو يبصق على وجوه الرهط المفسدين في المدينة، وتذكّر القديم من حزننا، وكيف صار قديمًا وصار من الجديد ما يشغلنا عنه وعن تذكّره.

جادك الجدب يا زمان الغرابة والارتياب. بيادر عمري يتبادرها الرعب. حقولها تبدو قاحلة سوى من سنابل القلق. أخاف من كل شيء. أكبر ويكبر معي خوفي. أمعن في العمر، ويمعن معي شبح كبير، اسمه الخوف من كل شيء. الريبة في كل أحد. كل مصافحة هي بدء مشاجرة. كل عناق، هو منتهى خِناق. كل ريال تهبه غريبًا، سينتهي بك الأمر في لجان مكافحة الاٍرهاب، بحجة دعم أعداء الوطن. وحتى لو رغبت أن تسكت، لن يهبك ذلك صك الغفران، آذر نفسي، الشُعوبية الجميلة، تتساءل في سيرتها الذاتية “أشياء كنت ساكتة عنها” قائلة: “في كل مرة كنت أستعير فيها كتابًا من المكتبة المحلية في واشنطن، كان يحييني ملصق أورويلي -نسبة لأورويل- يقول “الأخ الأكبر يراقبك!”. وكثيرًا ما تساءلت إن كان الآخرون يقفون لتأمل المعاني المتضمنة في هذه الكلمات، إن كانوا يعلمون كم يشوّه المجتمعَ بقوة العيشُ تحت الرقابة، فهي تمسخ آراءك، وأخلاقك، وعلاقاتك بأصدقائك وزملائك وتلاميذك، وبأي نادل وسائق سيارة أجرة تلتقيه، بل إنها تمسخ علاقتك بنفسك”.

هل ترغبين بنكتة؟ فلسطين صارت رأيًا. اضحكي بصخب أقل أيتها المجنونة. صار شخص يملك شاربًا مملوطًا من الكرامة، يكتب في صحيفة بلدية، عن رأيه في أن فلسطين يجب أن، أقسم لك هذا ما حدث، يكتب رأيًا في فلسطين. هذا الملعون الذي لم يشاور أباه أمه حين نزى عليها، لينجبا تيسهما هذا، يكتب أن إسرائيل بوصفها “بلدًا” حديثًا ولا “يؤذي” مصالحنا، نعم، أرجوك، ضحكًا أقل، أقصد ألا تبكي أكثر.

بالمناسبة، بكاؤكِ، فكرت كثيرًا لماذا كان البكاء آن الحزن والغضب أكثر تأثيرًا منه في الفرح مثلا، وحين رأيت دموعك مرة، عرفت ذلك. تبدو عيناك أجمل عينين داخل إطار من الدمع الرقراق. إن هذا لا يعني نية مسبقة لرؤيتك حزينة –ولو أحيانًا-، لكنه درس عظيم، لأتجنب مواجهتك دائمًا. ماذا تفعل أمام شخص، حين تغضبه يغدو أكثر فتنةً وسحرًا؟

مأساتنا أمام الجميلات، أنهن يصبحن أجمل حال الحزن. من يفعلن بنا كل هذا وقت الرضا، ماذا يمكن أن نصير إليه وقت ارتدائهن مسوح الجلال والجمال الحزين؟

قال لي رجل مرة: إياك أن تُحزن امرأة جميلة. تغدو بعد الحزن أجمل، وتغدو أنت أبأس. كنت أفكر في جدوى إحزان امرأة غير جميلة، حين قال لي: كل امرأة جميلة، وفي عالمنا القبيح: كل جميلٍ حزين.

أعرف قصة قديمة. كان رجل بخيل، يضع مرآة في قعر خزينته. وكل مرة حين يفتحها، يتأكد في المرآة، أنه هو من يفتح الخزينة. يخاف من كونه قد يصحو يومًا، وهو ليس هو، ومن ثم قد يسرقه الآخر الغريب.

وفي كل مرايا الفنادق، واجهات المحلات الزجاجية، غرف نوم عابرة، ومداخل بيوت حميمة، كانت مهمتي الأولى: أحدق في وجهي، يا ترى، سرقوه، أم لم يحن بعد.

لقد جرى تكليس الخوف داخل عظامنا. ثمة في أعمق نقطة من النخاع، يتولد الخوف، ككرات الدم. يجري الخوف من المواطن، مجرى الدم. يتناوله جرعات أيضًا: تهديدات النشرة، والتلميح بمصائر الذين لم يخافوا، ثم ماتوا، وعظات الشيوخ الذين تقطر لحاهم رُعْبًا وزيتًا ونفطا.

ماذا تفعل بنا الليالي؟ تلقينا في طريق الأيام. ماذا تفعل بنا الأيام؟ تكلنا إلى فعال الليالي. نحن مشردو الزمان. ماذا بقي لنا؟ أن نعضّ على أمل لا نشفى منه. نحن مرضى بأدواء كثيرة، لكن داء الأمل، ما يجب ألا نشفى منه البتّة.

عدد المشاهدات : 2152

 
 

شارك مع أصدقائك

2 Comments