عن ضحكتك في مدينة بعيدة
عبدالعزيز البرتاوي
في شجارنا الثمانمئة وستة وعشرين -كما أحصيتِ آخر مرة- أقسمتُ أن لا أعود إليك. أنت تعرفين أن الكهول الهرمين يعودون أشباه مراهقين مُرهقين أمام غنج دلال صوتك، وأن العهود المتينة، تغدو محض نكت سخيفة أمام أول “تعال” منكِ، وأنا اتفق مع ميرزا، وهو يقول: ”سمعنا عن طرد آدم من الجنّة. بمزيد من الإذلال؛ سأرحل عن الشارع الذي تقيمين فيه”، ولا غالب إلا الله يا مرزا غالب، هكذا قال أجدادنا الذين انتهت تأشيرات بقائهم في أوروبا؛ ولم يعودوا يملكون حق العودة، لنقص في الجوازات والكرامة.
من على شارع جانبي، رفقة وحدتي، أتأمل العابرات -لا أضيع يومي في تأمُّل العابرين الذكور، أنا نموذج سيء لأحدهم-، واحدةٌ يشبه شعرها شعرك، ثنتان تملكان أعينًا توازي عينيك -لا يقاربنها البتّة-، وأنف كأنفك، وكاشفة عن صدرها لكني لا أتأمله، فلا أعلم عن مدى شبهه ولا مدى شُبهتي، ومشيتك، يا لمشيتك، يعجز “وونغ كار واي”، عن تصويرها لو كنتِ بطلة In The Mood For Love، وضحكتكِ؛ لا أحد يشبه ضحكتك. -ثمة أشياء أخرى؛ لكني بالطبع، لا أطالعها-.
ينظر إليّ شرطي في المطار، وتقول لي عيناه: هل أنت إرهابيّ؟ أُدخل يدي ببطء إلى جيب بنطالي، أخرجها على مهل، وعيناي تحدّقان في يده التي تتحسس مسدسه، أضع السماعة على أذني، وأسمع أغنية بلغة لا أفهمها.
يقول لي بائع أسود، هل تريد نظارة سوداء؟ لا أجيبه، فيكمل: لتكون ملائمةً للون قلبك. أتوقف، أعتقده محقًا، أعود إليه وأساومه، وأحصل عليها بثمن لا يكفي لشراء قهوة. يقول لي بضجر: لقد كنتُ محقًا في لون قلبك. أغادره مرتديا نظارتي الجديدة، بلمسة بوندوية، أودعه بإشارة خفيفة من طرف يدي، وأفكر في ضحكتك.
أتذكرك وأنا في طائرة، تعبر سماء مدينتك، وأحدهم يقول لك نكتة سخيفة؛ وكعادتك: تضحكين بعنف، فيقول كابتن الطائرة: التزموا أماكنكم، وأحكِموا أحزمتكم، ثمة اهتزازات هوائية، لا نعلم سببها؛ وأتذكر ضحكتك، وأنجو.
مطعّمًا بالحُبّ، مثقلًا بالحنين، مضرجًا بالذكريات، أعبر شارعًا مزدحمًا، يقول لي صوت رقيق: آسف، وأفكر علام؟ للمسة كتفي، قلبي يودّ أن تلمسيه أيضًا، وأبسم للوجه الأرقّ، فتزيد سرعتها هربًا، وهي تلعق شفتين من مشمش، فيقول قلبي: من يلعق عني حزن الليالي، وانتظار الذين لا يؤوبون؟
يضع شخص قبعة يهودية، يسير معاكسًا لي. اتركه يعبر؟ اضطرّه إلى أضيق الطريق. ينظر إليّ عابسًا، أشتم أمه. يا للسوقية، ما ذنب أمه؟ هه، ألعن أباه أيضًا، وعائلته وقبيلته. ههه، هل للمشرد المجريّ قبيلة أصلا، ابن السلالة المنحطة، يأتي ليزاحمنا في فلسطين، ههه، يزاحمنا. يا لسعة قلوبنا الضعيفة. وبإشارة من طرف يدي -بأصبع واحدة، لا يحتاج أكثر من ذلك- وبلمسة بوندوية أيضًا، اترك له الطريق ليعبر. إلى الجحيم.
كنت في هذا الشارع قبل أربعة أعوام. أضع على رقبتي عمامة فلسطينية. طلبت مني خالتي حصّة -التي لا تقرأ ما أكتب، أو بالأصح: لا تعرف أنني أكتب، أو لو شئنا الدقة: لا تتنازل لتقرأ ما أكتب- أن أرسل لها صورًا من المكان، وأعقَبت: وأين صورتك؟ وأرسلت لها صورة واثقة رفقة الشال العزيز، لترد بعد ساعة: “ما هذا يا إرهابي؟ هل التحقت بداعش؟”، ولا شيء آخر يذكر في المحادثة سوى سؤال عن نوع طبق واسم مطعم. يا فلسطين العزيزة، أعتذر لك عن هذا. ألبس اليوم قميصًا عليه كلمة عربية، وكلما مررت بشرطي تأملني ساعتين. أعرف توجّسه، وأعرف خالتي أكثر.
سيارة شرطة تمرق مسرعة -ياه، منذ مدة طويلة لم استخدم كلمة تمرق، جيدة- أتذكر بوكوفسكي اللعين، مولانا في الكتابة والبذاءة، وهو يصف المدينة بالطمأنينة، حالما يسمع صوت إسعاف أو بوق شرطة. المدينة تأكل نفسها. ثمة شجار، وقتيل ربما. هذا يعني نجاة البقية. أهز رأسي وأتذكر ضحكتك التي لا تمرق من روحي أبدًا.
أعود إلى مقهى كنت آلفه. النادلة هي النادلة. القهوة هي القهوة. المقعد الذي كنت أحب هو نفسه؛ شاغرًا. الشجرة الصغيرة، وقد اشتدّ عودها. الحيطان التي شحب لونها. كل شيء هو كما هو، عداي. غيرتني الليالي وضحكتك. أبتسم للنادلة فتقول بودّ: ما قهوتك لهذا اليوم؟ هي التي ظلت دهرًا تقدمها دون أن تسألني عن نوعها. لكنها الليالي وضحكتك. أطلب ماءً، لأبلع غصتي.
محطة قطار متأخر. إضاءة خافتة. متسوّل يقول لي: هل تعرف نعمة العودة إلى البيت؟ هبني ما يمكن أن يريح ضميرك، لكي تعود إلى البيت، تاركًا مثلي في العراء. لستُ وحدي يقول. ثمة الكثير من أصدقائي في السجون. ومراكز الشرطة. كلنا لا نعرف نعمة “العودة إلى البيت”، دفء وضع يدك على مقبض باب بيت، نعومة إغلاق ستارة ليلًا، ترف إغلاق إضاءة خاصة. آه، يا للحزن المديد، وأنت تتذكرهم وحيدين، في كآبة السجون التي لا علاج لها، ولا مؤنس، ولا من عودة إلى البيت.
ضحكتك، ماذا عن ضحكتك؟ ضحكتك تشبه نعمة “العودة إلى البيت”.
عدد المشاهدات : 5369
شارك مع أصدقائك
2 Comments