الشرق .. رائحة القهوة
سارة فهد
“ومن النادر أن يكون شيء مستورد من الشرق قد حظي بالنجاح الذي حظيت به القهوة التي مايزال منشؤها الأصلي مجهولاً، ولابد أنها كانت تُزرع في اليمن منذ منتصف القرن الخامس عشر، وعُرفت في مصر في القرن السادس عشر، بعد أن أحضرها طلاب يمنيون يدرسون هناك معهم. وبعد ذلك بمدة قصيرة وصلت إلى اسطنبول، حيث افتتح سوريان المقاهي الأولى.
وقد حظرت السلطات العثمانية القهوة باستمرار، متذرعة بالتحريم الإسلامي للمشروبات المسببة للنشوة، إلا أن السبب الحقيقي قد يكون في خشيتها من المناقشات السياسية التي تدور فيها، ويمكن أن تفضي إلى انتقاد السلطان. وقد يكون ذلك هو سبب إغلاق مراد الثالث مرتين للمقاهي.
أما متى وكيف دخل “مشروب الأتراك” أوروبا للمرة الأولى، فغير معروف أيضًا، كانت القهوة معروفة في البندقية منذ عام 1580، ونعرف أن أستاذ التشريح اللندني وليام هارفي William Harvey 1578 – 1657. كان يتناول القهوة بانتظام، ويُظن أنه عرفها من خلال زملاء الدراسة العرب أثناء دراسته في بادوا. أما أنه أكتشف الدورة الدموية من خلال تأثير القهوة المنبّه فذلك ليس أكثر من أسطورة جميلة.وكذلك فمن غير الثابت أيضًا قصة تاجر ميرسبورغ الذي أحضر عينة من حبوب البن عبر أمستردام، ولكنه لم يكن مقتنعًا بهذا المُنتج إطلاقًا: فزوجته لم تحرز في تحضيرها “نجاحًا خاصًا، لأنها أضافت حساء الدجاج الثخين بدلاً من الماء”.
كما ورد ذكر للقهوة أيضًا في تقارير الرحالة الذين زاروا الشرق، فقد تحدث بيترو ديللا فاللي عن”ماء القهوة Kaweh الأسود الذي أحبّ شربه حين يكون في سخونة الحليب بشكلٍ خاص”، وتحدث آدم أوليريوس عن صحفة من الخزف مليئة بماء أسود ساخن، يسمونه قهوة Kahwe، وقال إن الأمر يتعلق بـ “ثمرة تأتيهم من مصر”.
وقد أحاطت أساطير كثيرة بدخول القهوة إلى أوروبا أثناء الحصار العثماني لفيينا عام 1683. وتتحدث إحدى القصص عن كيس مليء بحبوب البن الخضراء تركه الأتراك وراءهم أثناء هربهم، واعتقد الناس جهلاً في بادئ الأمر أنه علف للجِمال. وتذكر رواية أخرى أن فرانتس جيورج كولتشسكي Franz Georg Kloschitzky البولندي المولد، والذي قام بدور المبعوث أثناء حصار فيينا هو الذي أسس أول بيت للقهوة في فيينا. إذ ينبغي أن يكون قد أُعطي بعد الإنتصار على الجيش العثماني مخزون البن، والإذن بتقديم القهوة في مكان عام، مكافأة له على خدماته.
وجاء في تقرير لإحدى لجان البلاط سنة 1747، مرفوع إلى ماريا تيريزا أنّ “يونانيًا اسمه تيودات Theodat كان يحمل الرسائل من الداخل إلى الخارج وبالعكس في أثناء الحصار مُنح مكافأة كريمة بأن سُمح له بتقديم القهوة في قبو مفتوح للعموم”. كما أن الأرمن يتجملون أيضًا بالإدعاء أنهم أول من أدار بيوتًا للقهوة في فيينا. وكائنًا من يكون ذلك الذي افتتح أول مقهى في فيينا فإنه لم يبق منفردًا بذلك طويلاً؛ فقد ذكر منذ عام 1730، أن “الشاي والقهوة والشيكولاتة قد أصبحت معروفة في كافة أرجاء أوروبا وشائعة شيوعًا واسعًا”. ويعتقد أنه كان في فيينا في ذلك الوقت ثلاثون مقهى.
وبدخول هذا المشروب الجديد تغيّرت ثقافة الشراب، فمع القهوة دخلت أيضًا الكلمة العربية طاسة وأصبحت كلمة ألمانية Tasse، وكانت تعني في بداية الأمر الجزئين أي الصحن والفنجان ذا الأذن الذي مانزال نستخدمه حتى اليوم.
وكان الخزف “البورسلان” الذي بدأ جلبه منذ نهاية القرن السادس عشر محبوبًا جدًا لدى الأمراء. وقد ورد وصف له لدى ماركو بولو الذي شاهد صناعته في الصين، ونظرًا للونها الوردي فقد أطلق على المنتجات الخزفية اسم “الخنازير الصغيرة”، أي بورسيلينو Porcellino بالإيطالية. وحين تحدث أوليريوس عن “صحفة من الخزف” كان يقصد الفنجان ببساطة، فقد كانت الكلمة الجديدة ما تزال غريبة عليه.
وفي أوروبا ظلّ أبناء الشعب البسطاء خارج المدن يشربون في صحاف حتى القرن التاسع عشر. وبعد أن نجح يوهان فريدريش بوتغر J.F.Pottger في إطار دراسته الخيميائية في تحضير “الذهب الأبيض” عام 1708، أي نجح في صناعة خزف أوروبي، ظلّت النماذج اليابانية والصينية هي المتبعة في بادئ الأمر. وكان المصنع الأول للخزف الأوروبي هو المصنع الذي أسسه أوغست القوي، في مدينة مايسن Meissen الألمانية. كان الخزف الجيد إلى جانب الصوفا والحشية Matratze “التسميتان من أصل عربي” والسجاد الشرقي “الذي يشاهد في الرسم الأوروبي في عصر النهضة”، هي الرياش الأساسي للطبقة الوسطى التي تدين في ثقافتها المنزلية إلى تأثيرات شرقية، مثل الكراسي الخشبية الأوروبية الواطئة، والمنضد، والمقاعد الطويلة أيضًا.
وماتزال عادة شرب قهوة ما بعد الظهر متبعة في غرف معيشة الطبقة الوسطى ويقابلها شاي الساعة الخامسة في بريطانيا. ويعود نموذج البصل الأزرق المفضل على خزف مايسن إلى نموذج رسم صيني للرمان، فهذه الثمرة الغريبة التي صادف أنها صينية “كانت ذات رمزية عالية، وخاصة من ناحية الإعتقاد بأن الرمان يرمز للسعادة والخصب بينما يسبب عصير البصل المسيل للمخاط الدمع”.
من جانب آخر، يعود شكل الكعكة التي تقدم في النمسا مع القهوة، حسب إحدى الأساطير ، إلى مابعد حصار العثمانيين لفيينا، فقد جعلوا شكلها على هيئة هلال، لكي يتمكنوا من التهام العدو رمزيًا. كما أن الفطيرة الفرنسية تسمى كروسان Croissant أي “هلال” بالفرنسية.
ومما يختص بالقهوة عند كثيرين: السكّر أيضًا. ولم تشتق من كلمة “قند” العربية التي تطلق على قصب السكر كلمة Kandizucker “أي القطع الكبيرة من السكر” والفعل Kandieren أي يحلّي بالسكر، فقط، بل أيضًا التسمية التي ثبت استخدامها في ألمانيا منذ عام 1646، وهي كلمة، Konditor التي تعني مخبز الحلويات. كما أن كلمة Candy الإنجليزية المستخدمة للدلالة على الحلوى قد احتفظت بالتعبير العربي.
لم يكن الجميع في فيينا -كما في اسطنبول من قبل- متحمسين للقهوة؛ فقد عدت زمنًا طويلاً مشروبًا مسببًا للضعف، وضارًا بالصحة، كما في أغنية الأطفال المعروفة: “ق-هـ-و-ة- لا تُكثر من شرب القهوة/ فمشروب الأتراك هذا ليس للأطفال/ إنها تضعف الأعصاب/ وتجعلك شاحبًا ومريضًا/ لاتكن مثل المسلمين الذين لا يستطيعون الإستغناء عنها”. بيد أن مثل هذه التحذيرات لم تستطع الوقوف في وجه موكب انتصار “مشروب الأتراك” الذي سمي أيضًا “Mokka” لأن أهم ميناء لتصدير القهوة كان ميناء مُخا اليمني على ساحل البحر الأحمر”.
* —————
مقتبس من: “الشرق المترف الباذخ .. عن القصور والبازارات ورائحة القهوة”. فصل من كتاب “أسطورة الشرق”. رحلة استكشاف لأندرياس بفلتش.
عدد المشاهدات : 1227
شارك مع أصدقائك
Comments are closed.