الفتى الذي لا يسمعُ الكلام
عبدالعزيز البرتاوي
سأكتب عن أشياء حلوة. أشياء سخيفة بعض الشيء، ومغرية بالمتابعة، في عالم سخيف. سأحاول جلب حكاية أو اثنتين، في المطلع. رائقة كأغنية، جاذبة كغزل، حتى أتمكن من لفت أنظاركم، جذب انتباهكم، ولو قليلا، لأفاجئكم بعد ذلك بالحقيقة، حقيقة أننا حزينون وعالقون، وأننا نقطع ليلنا كما يقول فتحي بالبكاء والأغنيات، وأن كل شيء لا يمضي، إلا ليعود بصورة أخرى.
فيما يختص بالحكاية المغرية، سنقرّب بعض سيرتها بالوصف. والعرب شفاهيّون، يحبون تلاوة أوراد المحاسن، وترتيل أذكار الغزل والملاحة، وكتبهم بذلك مكتنزة، وسيَرهم فيها كثير، وحبيبتي أيضًا، شفاهيّة. وأنا منذ كنت صغيرًا، كنت بارعًا في الاختبارات الشفويّة، حتى تعلمت الكذب. منحني أبي عصًا، ومنعتني أمي الثقة.
وفي الليل، حين لا تعود لديّ أي حكاية، ولا في هاتفي أي رصيد، أفكر في أوّل من قال: ليس بالصوت وحده يحيا الإنسان، وأعلم أنه أبكم.
واتلُ عليّ نبأ التي أسهرتنا طويلًا، وحين نمنا، لم تأتِ حتى في أحلامنا. واقصص علينا بعضًا من سيرتها، وإن لم تفعلْ، يفعلُ عطرها في الشارع الذي تعبر، سحرها في المكان الذي تخطو وتخطر، شَعرها في الريح التي تحسّ به وتشعر، وعينُها، يا لعينِها، من غير عينِها ينهى ويأمر؟
وفي باب التغزّل بها، عليك أن لا تأتي بوصف مشتبهٍ فيه. كأنْ تقول للرماديّ من سترتها، أبيضٌ غامقٌ، أو تقول للأزرق الداكن كحليٌّ، ها أنت تضع نفسك في حميّ الوطيس، وطيسِ أن تشتبه بأي الملابس علِقت عينك، ومن لابسوها، وأين كانوا، وكيف ساروا، وتخرج من سعة باب الغزل، إلى ضيق نافذة التبرير.
ولا تعجل في وصف شعرها أو نحرها أو خصرها أو ظهرها. خذ كل جزء على تؤدة، بما يكفيه من كلمات أو قبلات. وإياك والتشابه أو الاشتباه. فاحذر مديح الشعر الطويل، ما دام شعرها مقصوصًا. واحذر التغني بدعج العين، إن كان للقهوة في لون عينها فنجان، أو لصفاوة الشّهدِ في مآقيها حلاوة. واحذر التماهي مع الياسمينِ، حين يكون النّرجسُ رفيقَ عبيرها. ولا تأتينّ على ذكْر كلبٍ أليفٍ، إن كانت صاحبتها في الليالي قطّة.
وإياك أن تتوانى في وصف عينها في حينها، لأن الغزل حين يجيء باردًا بائتًا، لا يستساغ. وإياك أن تبطّئنّ في مديحِ شَعرها المقصوص أو شِعرها المرصوص، والشَعر شِعرٌ بلا جديلة ولا قافية. ولا تنسَ التغنّي بخصرها، أو ذِكْر شيء من عمرها، بغير التقليل والتدليل، وهي في كل ما عداهما كثير.
وعليك التنبّه لدرجات البنّي في شعرها. لا يشبه شَعرُ فتاة شعرَ أخرى، ولا لونه ولا طوله ولا انسيابه أو التفافه أو انكماشه. والأشقرُ ليس الأصفر، والأسود ليس الرماديّ في أطراف الثلاثينية، نجماتٌ زاهيات في بهاء سماء ليلها الأعتم. والمجدولُ يلتفّ حبلَ مشنقة، حين تُعجب بالانسيابيّ المنثور للريح والحكايات.
ولكم أذكر تلك التي في ناصيةٍ قالت لي: هل رأيت هذا الفيلم؟ وحكت لي مشيرةً إلى غلافٍ بيدها، عن فيلم طويل، لا أذكر منه إلا بياض ذراعها وسواد عينها. ولولا أنْ دوّنت اسمه في الهاتف، لكدتُ لا أتذكره. وحين شاهدته لاحقًا، في قرابة ساعتين ونصف، ما كان فيه إلا صوتها، بموسيقى السحر يحكي ما أراه، وعيناها، بتلألؤ الإغراء تؤطّر ما أشاهد. فاحذر أيها المشاهد، هواية الرواية، حين تسحبك إلى هاوية الراوي.
وحين وقفنا آخر الأمر، على قبر بوكوفسكي. كان الأمر حزينًا، ويذكّرنا أننا عالقون. كانت بلاطة قبره تقول بأسى: “لا تحاول”. وكلما حدقت يمنة ويسرة، في كل هذي البلاطات المديدة، لجنود وقتلاهم، عاهرات وقواديهن، كتّاب وقارئيهم. مجهولين وعارفيهم. في مقبرة شرق لوس أنجلوس، “المدينة الحقيقية الوحيدة” في عالم أميركا الكاذب، والتي لم أطق البقاء فيها أكثر من ثلاث ساعات، نصفها عند قبر بوكوفسكي، والنصف الآخر للاهتداء إلى جدث ميللر. كانت الخارطة تشير إلى مئتي كيلو متر وبضعة كتب، تفصل بين القبرين. لكن تفصيلا صغيرًا منعني إكمال الرحلة: جثمان ميللر، مسكوب ثمة في قارورة من رماد، على عرض البحر والموج والزهو والشمس. وبحزن وجدت قبر بوكوفسكي يقول لي: ألم أقل لك: “لا تحاول”. ولكنك فتى لا يسمع الكلام.
يمرّ الآن عامل مسكين. من أمام شرفة المقهى. ثلاث فتيات يحتسين -يحتسين لرقّتها عن يشربنَ، وتقصّيها التجرّعَ شيئًا فشيئًا- قهوتهنَّ، ويحدقنَ إليه. ينظر المأخوذ بحسرة إلى عالم تفصله عنه طبقة سميكة من الزجاج والنقود والنفوذ. يتذكر حبيبةً، ابنةً، أمًّا، وجه امرأة أربعينية في آخر قطار ركبه من قريته نحو مدينة تقوده نحو الجنون. يحركنَ أكوابهنّ برقة ويضحكنَ. يلتفتُ بأسىً، يكمل طريقه، ويكملن كذباتهن.
تستعرُ المدينة. تركض شوارعها مع المارة والسيارات والقطط والأشجار. تلهث. تعوي. تتمدد. تهرب الصحراء والطبيعة منها، كالسراب. كل ذي المقاهي لا تكفي لتعديل مزاجها. كل ذي المطاعم لا تسكت جائعيها. ثمة مطاعم في المدينة، حظّ بعض أهلها منها، رؤيتها في إعلانات المشاهير. وثمة مقاهٍ تحتاج طائلًا من النقد والأمر لبعضهم، ليعبرها يومًا، ويخلّدُ، في 300 صورة في هاتف قديم، كوبًا منها. هذه مدينة تأكل ناسها، وتقتل إنسها وأُنسها. تنكبُّ في مناكبها الكآبة، وتملؤ مآلاتها بالملل. هذه مدينة تقطع اليد المصفوعة، وتقبّل الكفّ الصافعة.
ولكم هو كئيب هذا المطلع، لعام جديد، تسّاقط أيامه رفقة التوابيت. سوريّ غريبٌ -كالحقّ في زماننا- لا يجد من يصلي عليه، إلا رجل الإجراءات الشكلية، والريح العاوية. وزعيمٌ تخلَّدَ في كرسيّه نصف قرنٍ، حتى إذا ولّى، لا يدرون إلى كم قبلة صلّى، ولا كم عدوًّا صافح، أو قاتلًا سامح. عام سيكلّ صحافيّوه البيرقراطيّون آخر العام، يعددون هوائل أيامه ومآسيَ لياليه، وليس هذا بشؤم. الشؤمُ أن تفتح فمك صباحًا ببلاهة التفاؤل، بينما يترصّدك غراب الخبَر الحزين في كل شارع تحمل حروفه اسمًا عربيًا.
أتمشى رفقةَ كتاب، إلى مقهى قريب. أجلس إلى أناس لا أعرفهم، لكن يبدو أنني أعرفهم. أفكر: ماذا عن الغد؟ ماذا عن خطة محكمة لقضاء عام جديد؟ كلا، بل للقضاء على عام جديد. ماذا عن خطط الأعوام الراحلة، غير المكتوبة، فضلا أن تكون منفذةً، ماذا عن بدء جدّي لعام مميز وخلّاق ومحكم و …، تتبدى لي بلاطة قبر بوكو شامتةً: “لا تحاول”. تنهيدة.
عدد المشاهدات : 3154
شارك مع أصدقائك
6 Comments