برميلك يا وطن

برميلك يا وطن

عبدالعزيز البرتاوي

مؤمنًا بمقولة السيد “جونسون”، عن اللاجدوى والاعتزال، سأعتزلُ الناس. مؤمناً بلا جدواي، يوم عيد الوطن. أنا لا أحبّ الأغاني الوطنيّة بالفطرة والسليقة والذوق. ولا أهوى الرقص في شوارع الوطن الرسميّة، المزوّقة بالزفت اللامع، على حساب الزفتِ الدامعِ، للشوارع الخلفيّة، المكتظّة بالبشر والحفر، على حدّ سواء.

لن تكون لي الرغبة في مشاهدة أقمشة منشورة، كأعلامٍ خضراء، برغم كلّ الأصياف المتعاقبة. ولا الرغبة في الاتصال بمذيعة وطنيّةِ الصوتِ والضحكة، لنقل تهانيّ العارمة، إلى كلّ رفاق القرية السابقين، والقابعين إزاء مذياعٍ يبث الوطنَ أغانيَ وتهنئات تافهات، الرفقة البؤساء، من لم يكن لهم حظ على مكتب وزير العمل العاطل حتى اللحظة، إلا عن الثرثرة إلى سيدات أعمال المجتمع، ومؤتمرات التحديث، تحت رعاية سفارة أجنبية. غير راغبٍ أيضاً بإرسال صورتي إلى جريدة وطنية، برفقة كلمات عاميّة ركيكة، تناسب الحدث والحديث، عن الوطن العريض كقفا مواطن، والكبير والشامخ كوجعِ آخر، والـ فوق هام السحب، وتحت هامة الأمطار. الأمطار التي تصيبني الرعدة كلّ ما ألمح اقترابَ “بشائرها”، من مدني الغارقة، ومذيلًا مشاركتي الوطني، برقم صندوق بريد، في قرية بعيدة، ينتظر هبةً لن تجيء.

لن أرفع إليك التحيّة، أيها البلد الذي تعلمته كلامًا كبيرًا في التاريخ، وصغيرًا في الجغرافيا. قويمًا في كتاب الوطنية، ومكسورًا في النحو والإعراب، وأمام الأعراب. ولن أقبّل قماشة صينية تشير إليك بخضرة لونها، ويدًا تحملها، وتحمل صفرة شحوبك. لأن الوطنيّة يا صديقي الوطن، لم ولن تكون يوماً عابراً، تحدده مراسم الدولة، وتتاجر به رخاص الصحف و”القنوات”، وتسترزق من خلفه زوايا كتّاب النخاسة من ركايا الأمراء. ولأنها ليست رقصةً فاضحة، على طريق معطّل ومزدحم ومجنون وسط المدينة، بينما الشوارع الأخرى، من لا تصلها العدسة، ولا صور طويل العمر، تئن من فرط جدريّ الحفر، لا تصلح للمشي، فضلًا عن الرقص.

أيها الوطن، من كان حظّك “الغرق”. لا في الأمطار وحدها، بل في مواسم فتح الأسواق لكبار لصوص العملاء والعلماء، وإغلاقها على جرس خسائر أولئك الذين قدّموا أموالهم ودائعَ في بنوك الوهم، من المواطنين والموطوئين، ماذا يفعل يومٌ عابرٌ للفرحِ، بينما باقي أيامك سرادقات أحزان وعزاءات وديون وهموم.


قد أكتفي يا وطني، بكوب قهوة، في مقهى عالِ التكييف، يناسب سخونة الألم فيك. يقبع في مدينتك الرئيسة. مفكّراً، ووحيداً، كدائماً، عن المدن البعيدة. حيث الرجال العاجزون عن الرقص، والعمل، والفرح. بانتظار استلام “شرهاتهم”، أو متابعة مكاتب “الضمان”، المتبقي لهم، ضمانةً لما بقي من الحياة.

 

أودّ أن لا أنافقك عزيزي الوطن، على الأقلّ، في يوم عيدك، أودّ أن لا أراكَ في صفحة الحوادث، حزيناً، متشظيّاً، معدِّداً تنوّع الجرائم الجديدةِ فيك. أودّ أن لا تنغرز أهمّ مدنك بالأعلام الخافقة، بينما تنغرز قلوب أبنائك البعيدينَ بالأوجاع الخاطفة. يا ترى عزيزي الوطن، هل تراكَ تعلم عن القاطنينَ خيام النزوح في جنوبك.. يفكّرون: لقد ذكّرَ الأعداءُ الوطنَ بنا.


سأذكرك على المقهى، ساعةً. لربما ساعتين. محتسياً قهوة برازيلية. ملوحاً ببسمة لنادل فلبيني. متذوّقاً كيف يكون المشروب في كوب خزف صينيّ، على طاولة ماليزيّة. مطالعًا احتفالاتك على شاشة كورية، لائقة بتوفير أنقى صور البسمات على وجوه أطفالك الوسيمين بالبراءة، وترقرق الدمع في حدقات عجائزك المعجونين بالتعب، ومتسائلاً: متى كانت آخر مرةٍ رأيت فيها: “صنع في السعودية”، في غير مناديل محطة وقود رخيصة.

مبتعداً بما فيه الكفاية، عن الجنوبيّ الذي ودّ أن لوّح لك، رافعًأ يده اليمنى لجبينه، تحيةً يومَ عيدكَ، لولا أن طبيبًا قرّر أن تكون يده مبتورةً هذا العيد؛ لأن الخطأ الطبيّ أمرٌ وارد، ولأنّ المشفى “الوحيد” اللائق بعلاج يده الراحلة، يبعد عنه بما لا يكفي لعشر ساعات بسيارة مهترئة أن تصل إليه. مبتعداً أكثر عن  الشماليّ المحتار، أي دفء يرجوه ليضمن الوصول إلى ثكنة عسكريّة كي يحرس أطرافك البعيدة، ضامناً لأمه الحصول على علاجٍ مجانيّ من أقرب مستودع أدوية. دون احتراف شعر التسوّل على عظيم كرش ووجاهة، لاستخلاص منحة كريمة، بعلاج السيدة الراحلة.

سأحتفل بكَ على طريقتي الخاصة. في المقهى المذكور. غير طالبٍ منكَ دفع الحساب هذه المرّة. على الأقلّ يوم عيدك. مصافحاً إياك، رجلًا لرجل. تاركاً لك ما تبقى من صفحة الجريدة، محملة في أولاها بمانشتات الفرحِ الكبرى، عن أبرز انتصاراتكِ “الجرائدية”، بينما في آخرها، تندس أسماء الشاكينَ ديونهم مقابلَ صفحة اقتصادك الوطنيّ الكبير.

برميلك يا وطن.

عدد المشاهدات : 2273

 
 

شارك مع أصدقائك

One Comment