رحلة إلى أقاصي النهار
عبدالعزيز البرتاوي
منتهى:
ذكر الإمام الذهبي في السّير، أن الوزير “نظام الملك“، قال عن أبي إسحاق الشيرازي-: “كيف حالي مع رجل لا يفرّق بيني وبين نهروز الفرّاش في المخاطبة؟ قال لي: بارك الله فيك؛ لمّا صببت على يديه الماء“. قال الذهبي: ولما مات أبو إسحاق* وعيّن المؤيد بن نظام الملك فقيهًا مكانه في المدرسة النظامية، بلغ ذلك النظام الأب، فكتب بإنكاره، وقال: “كان من الواجب أن تغلق المدرسة سنة من أجل الشيخ“.
مؤخرًا، فقدت بعض عاداتي السيئة، ليس بداعي التحسن، وإنما بدعوى الملل. اتجهت لأشياء أكثر سوءًا من تلك التي كانت. أشرب قهوةً –قد يودّ مثقف أحمق أن لو كانت “أحتسي“- ولا أكملها. وأقرأ صفحة من رواية عتيقة –عدت إليها لدواعي العزل بعد إذ لم تكن ثمة نية للعودة– وأجد نفسي مدلوقًا على صفحاتها، رغم كونها مكتوبةً، منذ قرن –قرن، يا للهباءة– وأعدّ أيامي، على ورقة، تبقت من حساب مشتريات البقالة. حسنًا، “إليكم كيف جرى الأمر“*.
قبل ثلاثة عقود، حملتني أمي -وهي لم تَضعني أو تُضِعني حتى الآن-. ثلاثة عقود ونصف. أقلّ من ذلك، أو أكثر، حسنًا، لا يهمّ، ماذا تعني هذه الأوقات الهباءات بالنسبة لعمر سلحفاة، ببغاء، وحيدِ قرن وحيدٍ جدًا، أو أيّ حيوان آخر، لا يحتفل بعيد ميلاده بالطبع، ولا يملك أي أوراق ثبوتية للحياة، سوى الحياة.
كل أيامي تمضي مهرولةً، تخبّ، تحث سيرها، جنازاتٍ تلو الجنازات، بالتفاصيل و”الدقائق”، تحملها عقارب الساعة، وتشيّعها تكّات الثواني -كما لو كانت وقْعَ خطوات المشيّعين- نحو مقبرة العمر.
يعدّ هذا العالم قتلاه. يحصيهم فردًا فردًا. أعدّ أيامي، أحصيها يومًا يومًا. يكوّمهم في مقبرة بلا أسوار، وأكوّمها في قلبي. على وجهي شواهد ذي الليالي التي ترحل. لن يعرفني ذاك الذي مدّ كفه القذر يومًا، ولطمني، للعبي في المسجد، لقد توالت اللطمات، واستحال وجهي وجهًا آخر، أو وجه آخر لا أعرفه. “إنه الوجود؛ يهشّم وجهك، ثمّ لا تمّحي آثاره أبدًا”، كما كتبَ سيلين مرةً.
أنهيت كتبًا كثيرة، حول اكتساب السعادة والأصدقاء -تحويشة العمر- والمال والصحة، واكتشفت لاحقًا أن التفكير الدائم في المال والأصدقاء والصحة، يورث التعاسة، وأننا ”نفتقد مع العمر، شيئًا نجهله. ربما الظل، أو المذاق، أو حتى التعاسة”، بعظمها وشحمها، كما يقول أنطونيو راموش روسا.
و”قبلَ الحرب، كنتُ كثيرًا جدًا. أبلغُ من العمر، مئات الأصدقاء. فمي كان حقلاً من الأزهار. كنتُ أركضُ في الشوارع، وأُنادي الأطفال. كلَّما قلتُ اسمًا، تَفتَّحت في فمي وردة. جاءت الحرب، فأصبحتُ قليلاً، وصار فمي مقبرةً، أدفن فيه أسماء أصدقائي الذين يموتون”. وصار اليمن السعيد، تعيسًا، تموت فيه الخيول الراكضة، وتكثر فيه الدماء الراكدة.
أجلس وحيدًا، في عزلة هذا العالم المهزوم من طرف فيروس حقير لا يرى، ألوك عزلتي وأتأمل قول بوكوفسكي: “ثمّة أشياء أسوأ من أن تكون وحيدًا، لكن غالبًا ما يتطلّب الأمر، عقودًا؛ لإدراك ذلك”. وذلك لكوننا “لم نغيّر؛ لا جواربنا، ولا أولياء أمورنا، ولا أفكارنا، أو أننا سنغير ذلك بعد أمد طويل حين لا تعود له أي أهمية. لقد ولدنا أوفياء، وسنهلك نحن أيضًا مثلما هلكوا، جنودًا بالمجان، أبطالًا للعالم أجمع، وقردة ناطقة”، بحدّ قول سيلين.
أذكر حين حصد السويدي ترانسترومر جائزة بلده، نوبل، على مجموعهِ الشعريّ، تكلّفتُ كتابة تقرير، يشبه “بروفايل” مصغّر، عن حياته، وشِعره. وضمن تفاصيل كثيرة، ما بين شلل جسده، وطيران مخيّلته، تراءت لي شعرية قصيدته عن الموت، فوق كل ما في الديوان: ”يحدث في منتصف العمر، أن يأتي الموت، ليأخذ مقاسات الإنسان. تُنسى هذه الزيارة، وتستمر الحياة، لكن بصمتٍ؛ تخاط البزّة”.
نُشرَ التقرير في جريدة محلية بليدة، قرأه اثنان غيري، محرر القسم الثقافي والمصحّح -جاء وقت لم يعد المحرر حتى يقرأ، والمصحح يبحث عن الأخطاء في جناب الحكومة أكثر مما في جناب اللغة-، وانطبعت قصيدته بقلبي عميقًا، حتى جاء يومٌ، أُلبَس فيه ترانسترومر نفسه البزّة، ومضى تاركًا إيانا نتخبط في هذا العالم الموبوء، نُسائل بعضنا: “هل من أحدٍ يعرف العنوان؟ لا أحد؛ لكنّنا في الطريق إليه”.
لقد خيطت البزّة. سنينٌ، تسنّ أسنانها، على مفارق ملامحنا، وتعوم أعوامها في بحر عالم أجاج، وتُشهر شهورها سيوف الكآبة في وجوهنا، بينما تؤمّ أيامها صلاة ليالينا الحزينة، وتسعى ساعاتها نحو حتفنا. وحيثما وليت بصرك، رأيت التفاهة تتسيّد كل شيء. تفاهة تتمشى على قدمين، ببزّات براقة، وثياب ناصعة. الجميع تملؤهم التفاهة، وبحماسة فائقة، يلوكون أخبارها، يتناقلونها. إنهم يتمضمضون بالتفاهة، يغتسلون في أوحالها، ويستنشقون روثها كل صباح.
وفي اللحظة التي كان جيران بوكوفسكي يرفعون الشكاوى إلى الشرطة، لأن آلته الكاتبة تظل تقرقع حتى الصباح، كان هو يصر على أن “ما يجعل الوضع أكثر سوءًا وقرفًا، كون كثيرٍ من المشاهير؛ مجرد حمقى وجبناء وأوغاد، وأنهم ربما ربحوا صفقة ما، أو مقامرة ما، رفعتهم إلى الأعلى، أو أصبحوا أغنياء بسبب غباء الجماهير. إنهم أشخاص عديمو الموهبة، عديمو الأعين، وعديمو الأرواح. إنهم روث يسير على قدمين، لكنهم في نظر الجماهير أنصاف آلهة! وغاية الجمال والجلال. ذلك أن الذائقة الرديئة، تصنع العديد من أصحاب الملايين، أكثر مما تصنعه الذائقة المرهفة”.
لم يعد اليوم للكاتب، أي جيران. ذلك أنه إما في السجن، أو في الجريدة، مشغول بتعداد حسنات الحكومة -ويا للمشقة في تقصّي ذلك- أو تبريز سيئات أعدائها -ويا للسهولة في إيجاد ذلك-. رفيقًا للحمقى، والمشاهير بالطبع، كي يكرسوا رداءته لليوم التالي، بعد أن ينتهي من النشر، في الصحيفة الميتة، معلنين عن مقالته “الفاصلة” في تاريخ الثقافة، لقطيع المعجبين، بعد الفراغ من ترويج شطيرة لحم مجمدة.
بينما الشعراء الحمقى، يتبعون الغاوين، في الوديان والجبال والمدن، مرسلين قصائدهم في كل برنامج وشاشة، بقرفٍ فائق، يندلق صوت الشاعر، بملامح مغمضة من فرط الشاعرية، وصوت لزج من دبق التأمل، وتنهيدة، وأخرى، وتأوّه قصير، ثم آهة أكثر طولًا، ليصل عمق المعنى إلى رحم السامع، حتى يفرغ أبو نواس الغفلة، من استفراغ عصيدته/قصيدته.
لم يعد في عراء الشارع شعراء. أصبحوا رُفقة الكتَبة الكذَبة، أمام قصر الحاكم، يتملقون الحاجب، حتى إذا دخلوا، أقعوا على أربع، بين قدمي جلالته؛ يلعقون أشداقهم بعد آخر مدح، متأهبين لهجاء أول طريدة. والذي كان يترنم زهوًا وفخرًا مع ابن هند: “وأيّامٍ لنـا غُـرٍّ طِـوالٍ .. عصينا المَلْك فيها أنْ ندينا”؛ أصبح يرعد خيفة من شرطي مرور.
لقد مضى زمان الشعراء الذئاب، الكتّاب الصعاليك، النافرين من نباح القطيع، إلى عواء الوحدة، والمتأملين في مرارة، حمرة القمر، وحزنه المديد، على هذا العالم المتهالك. “هذا زمان الشعراء الصغار آتٍ، مع السلامة يا ويتمان، ويا ديكنسن، ويا فروست”، كما قال من قبل، البديع سيميك.
لا أريد فألًا، ولا أطلب منك أن تتفاءل. ما ضيّعنا إلا فغارة الأمل البارد هذا. أغلق فمكَ، أو هشّ عنه ذباب التفاؤل. لا أريد شؤمًا، ولا أريدك أن تتشاءم، ليس أشأم مما نحن فيه. عضّ على أسنانك، أو اعبس في وجه الليالي الحالكات. “غزلان” ترتب لي شعري، بينما الحياة تبعثر أفكاري.
ها أنذا، في عميق انعزالي المرفّه. مرت ليال كثيرة، ولا زال غيابكِ هو سيّد الحضور. وبُعدكِ ما يفتأ يزداد كل يوم اقترابًا. سنابل شموخك؛ تثلم حدة منجل الجلاد، وتخمش نعومتك قسوة وجه الدجل. أيتها الماضية في طريق لم تخترها، السائرة في درب لم تقصده، وقع خطو نعلك؛ أجلُّ من حديث شفاههم، وسكون وحدتك، أرفع من طنين صدى خوفهم. (إلى ن.ع).
مطلع:
ذكر فرديريك دارد مرةً، عن أول لقاء له بسيلين، ورحلته نحو أقاصي الليل قائلًا: “لقد قرأتها فور خروجها من المطبعة، قال لي شارلي وقتها: اقرأ هذه الرواية. إنك لن تقرأ مثلها أبدًا. اجعلها قاعدة سلوك لديك. لا تقف أبدًا في صف الأغبياء والمغفلين، لا تُقلّد قطيعَ الأغنام في الثغاء. ابقَ في الهامش. افهم جيدًا ما يحدث من حولك، وبعد ذلك اعوِ عاليًا“.
________________
* “كانَ الشيخ أبو إسحاقَ الشيرازي، إمامَ الشافعية، والمدرّس ببغداد في النظامية، شيخَ الدهرِ، وإمامَ العصرِ، رحل إليه الناس من الأمصارِ، وقصدوهُ من كل الجوانبِ، والأقطارِ، وكانَ يجري مجرى أبي العباسِ بن سُريجٍ، قالَ: وكانَ زاهدًا، ورعًا مُتواضعًا، مُتخلّقًا ظريفًا كريمًا سخيًّا جوّادًا، طَلقَ الوجهِ، دائمَ البِشرِ، حَسنَ المجالسة، مَليحَ المحاورة، وكان يحكي الحكايات الحسنة، والأشعار المستبدعة المليحة، وكانَ يحفظُ منها كثيرًا، وكان يُضربُ به المثلُ في الفصاحةِ“. | الإمام الحافظ السمعاني
* تعتبر جملة: “إليكم كيف جرى الأمر“، مطلع الرواية الشهيرة “رحلة في أقاصي الليل“، لسيلين، أحد أشهر مطالع الروايات العالمية، ضمن مدرسة كتابية، مزجت بين الفصيح والمحكيّ العاميّ، تاركةً جيلًا من المتأثرين بسيلين، يأتي في أبرزهم: سارتر، كامو، هنري ميللر، بوكوفسكي، سيمون دي بوفوار، وآخرون.
عدد المشاهدات : 2976
شارك مع أصدقائك
3 Comments