إلى إبراهيم كلستان
سارة فهد
عزيز القلب والروح. جُعلت فداك. فلتعلم أنّي في حالة كابوسية مرعبة، واضطراب مضيّع، وحزن مدوّخ. والنظرة الدائمة، والسؤال المرّ الذي أواجهه باستمرار، دونكَ، دونكَ، دونكَ، ما الذي يمكن أن يكون؟ وما الذي يعنيه؟ وما الذي يمنحني، حين لا أراك تأتيني، تشاهد معي، ترى، تشمّ، تعطيني الحبّ؟ آخ عزيزي، الأعزّ. يا أساس كلّ سعاداتي وأفراحي. فديتكَ. فديتُ عينيك ونظرتك التي لا تغادرني. لو تعرف كم أحبّك، لجئتَ. أحبّكَ، أعشقكَ، مجنونة بكَ.
عزيز القلب والروح، أنا بعيدة عنك. ولو كان وحده البعد دون أخبار، لكان من الممكن أن أتحمّله. ولكن لا أعلم بما تمرّ به، ولا أعلم متى سأعلم. لو كنتُ هناك لاتصلتُ على منزلك، وإذا لم تجب لأتيتُ أدور حوله، ولألقيتُ نظرة من نافذتك الوحيدة، وبالتأكيد سأجد مصباحًا مضاءً، أو أرى ستارة مزاحة جانبًا، أو بابًا مفتوحًا ويرتاح قلبي. ولكن الآن، الآن أسير وأفكّر فيك، وأبتلع غضبي، ولا أعلم ممن أحصل على أخبارك. فديتك. فديتُ محبّة نظرتك، ليتني لم آتِ. الآن أعتمد فقط على يديكَ وأشعر بوجودي عن طريق شرنقة محبتك.
أيها الجميل، يا عمري العزيز. فديتكَ. وحده الله يعلم كم أنا مدينة لمحبتك. الحقيقة كما هو في هذه اللحظة، لا شيء سوى حصيلة محبّتك. فديتك. أحبّك بحجم كلّ أشجار الدنيا. لماذا أنتَ والأشجار فقط تستحقان المحبّة. لماذا تخضرّ. كل عام تخضرّ وتتجدد، ولك ظلال، ومليء بالعصافير، وأنفاسك عطر، وجذورك في الأرض، فلا حقيقة سوى التراب وأنتَ. ولا شيء، لا شيء، لا شيء حتى الغد.
عزيز القلب والروح، أفكّر بذهابي لمكانٍ أنتَ فيه، حتى يتخفف حجم كآبة غربتي. حين أسير في الشوارع، كأنّي أصادف طفولتك وشبابك. حين أتنفس الهواء، كأنّي أتنفس أنفاسك العزيزة، وتبحث عيناي على الجدران، عن ذكرياتك، وتعود راضية. فديتك. فديتُ قامتك ووجودك. فديتُ شعرك الأبيض خلف رقبتك. فديت رموشك الحائرة. فديتُ فرحك وحزنك. ما أنت إذ لا أرتاح إلاّ فيك. حتى أثر خطواتك تكفيني. لكي أعتمد. لأقف. لأكون. يكفي أن تناديني، فآتي للعالم وتأتي معي الأشجار والعصافير والشمس. أحبّك، ولا يتحمل قلبي كلّ هذا الحبّ. يكبر قلبي أكثر في صدري. يجرني قلبي إلى عدم الاستقرار. الحب الذي مرّ من بين كلّ هذه التجارب المؤلمة، ولازال، لا يمكن إلاّ أن يكون هو.
استلقيتُ على فراشي فترة طويلة. تدور صور الفيلم في رأسي. فيلم “خلف المجنون” لـ “غودار”. يا عزيزي ليتك كنت معي. أحبّ غودار، الوحيد الذي أودّ رؤيته. هادئ في سوداويته. لماذا لستَ هنا لنتحدث عن هذا الفيلم. قسمًا بالله مشاهدة هذا الفيلم تكفيني لعام كامل. لم أقم بعملٍ ثانٍ ولم أذهب. والآن الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. فجأة خطر في ذهني ما الذي تفعله في هذه الساعة. نائم؟ مستيقظ؟ تقرأ كتابًا؟ تسير تحت الأشجار؟ ها؟ ماذا تفعل؟ تفكّر فيّ؟ فديتك. أقبّلك مئة ألف مرّة، مئة ألف مرّة، مئة ألف مرّة، مئة ألف مرّة.
عزيزي الجميل، أكتب لي. حين تُزهر، أكتب لي. أودّ لو وجدتُ شخصًا أتحدث معه عنكَ. شخص يعرفكَ مثلي. لو لم يكن الجوّ باردًا، لتعرّيتُ ودخلت البحر، وبكيت على أمواج البحر. أحبّك. فديتك. أحبّك. أريدك، أريدك بكل مسامه حين ألج إلى السرير. أنتظر أن أجد عينيك بقرب عينيّ. لكن عيني تمتلئ ببياض الشراشف. فديتُ بذلاتك. فديتُ أحذيتك، فديتُ قمصانك، فديتُ يديك. لو لم تكن لتقبلني سأصبح أكثر هرمًا كلّ ليلة. لو لم تُردني كلّ ليلة، سأصبح قبيحة مع كلّ لحظة وأجنّ.
أمطرت مرّتين إلى الآن، منذ الصباح تمطر، وحيث أنام، هناك البحر. على البحر قوارب ولا أعلم إلى أين ينتهي. لو كنتُ جزءًا من هذه اللانهائية، حينها لكنتُ أينما أريد. أعلى بيتكم أقف أمام زجاج سيارتك، وأحدّق فيك. أتساقط من الأشجار، وأستلقي تحت رجليك.
تعال لنحفر قبرًا، ونتعرّى، ونلج القبر. نستلقي بجانب بعض، ونكيل التراب علينا، وننام بسكوت. ننام لنهاية العالم بصمت، لنتحلل، ويبات انفصالنا غير ممكن. وإلاّ، وإلاّ، هل، هل ترى ما أتمناه؟ سامحني، ولكن الحقيقة أريدها هكذا، أو هكذا تكتمل. دائمًا تخرج طاقة من التراب، تجذبني، الصعود أو التقدم بالنسبة لي غير مهم. ما أريده هو الغوص، مع كلّ ما أحبّه، أغوص وأتحلل مع كلّ الأشياء التي أحبها في شيء لا يتحلل. أعتقد أنها الطريقة الوحيدة للهروب من الفناء. من التحوّل، من الفقد، من اللاشيء، آخ يا عزيزي. عزيز قلبي وروحي. فديتك. يا عمري، روحي، أحبّك. فديتك.
حبّكَ، ثروتي الوحيدة. الشيء الوحيد العزيز عليّ، وأحبّه. وليس مهمًا أن تكون بعيدًا أو قريبًا. أحبّك وتتسارع نبضاتي، تتسارع كأنّ كل نبضة تقول حبّ حٌبّ حٌبّ حٌبّ حٌبّ. أتمناك. يودّ قلبي لو قبّلتك. أشمّك. أضمّك. أموت في حضنك. فديتُ بشرة خديك. فديتُ خطوط عينيك. فديتُ عريك في غرفتي الصغيرة. هذه الطبيعة في حُرّية عريك. فديتُ كلّ لحظات ثقلك على جسدي، وصوت أنفاسك حين تذهب للنوم، والنسيان، وأغتّرُ، وأطير. لماذا أشعر أنّ النوم والنسيان أنا التي أعطيك إياهما؟
عزيز قلبي وروحي، قسمًا بالله اكتب لي. لو كلمة. عزيزي الجميل، رأيتك البارحة في الحلم. أحبّك. وحده الله يعرف كم أحبّك. تعلّقتُ بك وأنا منك، وكأنّي ولدت من جسدك، وعشتُ في أوردتك، وانحدرت من يديكَ وتشكلتُ وأدور منذ الصبح حتى الليل في دائرة، مركزها ذكرياتك، أدور ولا يريحني شيء. لا البحر ولا الشمس ولا الأشجار ولا الناس ولا الأفلام ولا الثياب التي اشتريتها حديثًا. لا أعلم ماذا أفعل. أرطم رأسي بالأشجار. أصرخ. أبكي. لا أعرف. أريدك فقط. مثل هذا البحر بحالة انحدار مرعب، أريدك. وكلّ هذا لا يُحتمل. مثل فيضان ينحدر ويكسّر جسدي. أريد الاستيقاظ لأجدك بجانبي. كم يمكنني التحمّل أن أستيقظ ولا أجدك بجانبي وحياتي متجمدة. كم؟ حتى متى؟ حتى أين؟ أودّ الاستيقاظ والبقاء مستيقظة وأنظر. حين الهواء في صدري، أنظر لك. حين تتوزع النبضة تحت جلدك، أنظر لك. حين يتماوج اللون البنفسجي بين رموشك، أنظر لك. أنظر لك ليس إلاّ. أعدّ خطوط جبهتك، أعدّ الشعرات البيض بجانب شقيقتك. أن أضع رأسي في الحفرة بين رقبتك وكتفك وأموتُ هناك. أموتُ لكي لا أبتعد عنك، ولا أنفصل.
عزيزي. فديتك. فديت وجودك. يكاد قلبي ينفجر. لم يحدث لي هذا مسبقًا. في كلّ مرّة أكتب اسمك، يضطرب جسدي ويرجف. اسمك شبيه لخبر مبارك يصل لأذن روحي، فتنهض كلّ الآمال والأمنيات. أحبّك. كم عليّ أن أقول أحبّك. على وجه الأرض شخصٌ واحد فقط أحبّه، وشخصٌ واحد أنا معه، وهو معي، وهو أنت.
عزيزي، فديتك، أحبّك. بعد أسبوعين من البعاد سمعتُ صوتك، عرفتُ كم أحبّك، اضطربت لدرجة أنّي بكيت. أعيش حلم مجيئك، وأعرف أنّك لن تأتي.
نموتُ، ونتحسر، نضحك من كلّ الجدران التي بنيناها حولنا طوال العمر، وخنقنا حياتنا بينها. أردتَ أخذي معك. وفي الليالي ليس لي عمل غير إغلاق عينيّ والتفكير. فكرتُ في هذه الرحلة، إلى درجة حين لم نذهب لم أحزن. كأننا ذهبنا وعدنا. ماذا أفعل ليس لديّ سوى الخيال لأكون معك.
فديتك. قلبي يشتاق بصورة مجنونة. أريدك. أريد النوم معك لأرى بجانبك عينيك، مثل دوّامة تنعتمان وتنحدران من الأعلى على وجهي. لن أرتاح. أريدكَ أنت فقط، وأريد الاتصال مع عمق وجودك، بذلك المكان الشبيه بأفق واسع، ويشعر الإنسان بالأمان. عزيزي، فديتك. الرغبة الوحيدة التي تغلي في أوردة قلبي ووجودي وتتفجر، هي الهروب فيك والتحللّ في لحظة في أحضانك. حين تنحني عليّ مثل غصن ومثل لحظة إعطائك روحًا لي، وتنسكب فيّ.
اليوم لم أخرج. حين أخرج من البيت، ينفجر قلبي. تنقصني. أرى حولي الحبّ والحرية والشباب والحياة، وأعرف أنها جميعها تقتلني. أنا أحبّك تعرف، أحبّك. ولم يعد بإمكاني إرجاع حياتي للخلف. آه لقد اختنقتُ من الجوع. اختنقتُ من عدم الكمال والتشظي. من الرغبة. لماذا أنا هنا، وأنتَ لست بجانبي؟ لماذا حضورك مؤقتٌ، وانعدامه أبديّ؟ لماذا وجودك ليس قابلاً للمسّ والتصرف فيه؟ وجودك حدثيّ، يقع في الذهن والتصور. آخ. حتى متى تمتلئ هاتين اليدين واللحم والعظام بالرؤيا والذكرى؟
أنا أحبّك، أحبّكَ. لا أعلم ما أكتبه. ألمك يغلي في قلبي. لو تركتُ نفسيُ لبكيت. اكتب لي. عن عبّاد الشمس. فديتك. فديت رسائلك. فديت تحرّك قلمك على الأوراق. أنظر للكلمات، وأستعيد حركة يديك. أين يداك؟ يداك مثل خبر موقظ يعبر جسدي. حين أقبض على يديك، أخلو من خوف الانقلاب بين الأرض والسماء. أحبّك. عزيزي، رجلي. هل تعرف أنّك رجلي مثلما كان آدم رجل حواء؟ ولدتُ من جرحٍ في جسدك. آخ، أحبّك. حين أكتب أحبّك، يتألم ثدياي. هكذا دائمًا. الحبّ مثل حليب في الأثداء لا يمصّ، يريد شطر الثدي. أحبّك.
العزيز، عزيز القلب، فديت صوتك الذي يشبه صوت عصافير الصباح التي تملأ قلبي بكلّ الأفراح. أنت نبع طهارتي، شيء يجري عليّ ويطهرني. تنجيني، تنجيني من مساوئي. حياتي خلف ظهري، حيث أنتَ، بين صدرك. في اللحظات التي تمنحني فيها نفسك، وتتركني أرتاح فيك.
على فكرة، متى تأتي؟ اكتب لي. فديتك. لو أتيتَ، سأطير من الفرح، لو أتيتَ، سأعيشُ أقبّلك من الصبح حتى المساء، أقبّلك من رأسك حتى قدميك، أبوسك، صدرك ملجئي، حضنك المكان الذي أنام فيه براحة بال، ودون اضطراب، ولا حزن. أنا ممتلئة بحبّك وبمحبتك وبألمك. عزيزي، عمري، نفسي، أحبك. البارحة كنتُ أحلم بك. وكم هو مؤلم في الحلم أنا معك، وألتصق بك. فديتك. أريدك لتدفئني وعبر بشرتك الطيبة تقول لي أحبكِ.
يا عمري، يا وجود عمري، كن ما تريد، ولكن لا تنفصل عني. تعلقت حياتي بك، وتأتي منك. كن كما تأمل أنتَ، هكذا فقط أتحمل البعاد عنك. أحبّك. فديتك. أريد تقبيلك، شمّكَ، وأنسكب تحت ضغط عظامك، أريد التنفس في رائحة جسدك. أريد الغرق في ذاتي، وألمسك في عمق وجع الجوع، وأشعر بك في عمق ألم وجود الجوع. أريد الوصول إليك. عزيزي، فديتك. أريد الجلوس، وأغلق عينيّ، وأصنع في ذهني تكرار هذه الرؤيا. رأيتك تأتي، وتأتي، حتى وصلت لي، ورأيتني، وأمسكتني، وقبّلتني، وقبّلتني، وقبّلتني، وتراخيتُ، وهربتُ من نفسي بين يديك. ومرّة أخرى مجددًا رأيتك تأتي، وتأتي، وتأتي. فديتك. فديتُ شفتيك العزيزتين، فديتُ عينيك العزيزتين، فديتُ خيط حذائك. كم أحبّك، كم أحبّك، كم أحبّك.
ليلتك سعيدة، أقبّلك ألف مرّة حتى الغد.
_____________
* تحت عنوان: مقتطف من رسائل متفرقة، من فروغ فرخزاد، إلى إبراهيم كلستان، ما بين الثلاثاء 24 مايو، إلى الأحد 17 يوليو 1966م. تم نشرها في كتاب: “فروغ فرخزاد – الرسائل السرية والسيرة الأدبية”، لـ: فرزانة ميلاني، وترجمة: أحمد حيدري. دار الرافدين.
عدد المشاهدات : 1450
شارك مع أصدقائك
Comments are closed.