أكتبُ لأنّك حلوة

أكتبُ لأنّك حلوة

عبدالعزيز البرتاوي

أكتبُ للإعجاب العابر، لا يهمّني الخلود. أكتبُ للضحكة الخافتة، لا تهمني القهقهة. أكتبُ للوحيد، لا آبه للجموع. أكتب للغريب، لا يؤنسني قرب القريب. أكتب للهامشيّ والضحل، لا يلزمني المتن ولا العمق. أكتبُ لأن الدرب يوشك أن ينتهي؛ والرحلة بعدُ لم تبدأ.

أكتبُ للصباحات المشرقة بضحكتك. أكتبُ لليالي الغافية في طمأنينتك. أكتبُ لأنه لولا ثلاثة وجدّكِ لم أحفل متى ما قامَ عُوّدي: قول لا، وقهوتكِ صباحًا، ومسامرة الذين لا يعرفون أنهم يعرفون. أكتبُ لأنّ سماء أيامنا مظلمةٌ، ونجم لياليكِ لامع.

أكتبُ للقرى البعيدة عن العين والتنمية. تلك التي لا تهمّها سرعة انترنت المدينة القصية، ولا كاميرا إشارة المرور باهظة الغرامة، لا لأنهم لا يتوقفون عندها، بل لأنّه لا توجد كهرباء دائمة ثمة. لأنّ الحياة أكثر عجلة من تريّث بليد، أمام إشارة مرور عوراء اللون الأخضر.

أكتب لأنّ أمي يأبى السكريّ إلا أن يخالط حلاوتها. لأنّ خطوط مراراته تخرّب خارطة كفّيها. لأنّ حفنة حبوب أصبحت مفتتح أيامها. لأنّ إبرة إنسولين تخزّ منتهى لياليها. أكتب لأقبّل بالكلمات رموش عينيها، وأفرش للقلب سجادةً بين يديها.

أكتبُ لأنّ الهجرة حلم، والعودة كابوس. أكتب لأن خرائط قوقل تكشف الطريق إلى نقاط ضعفنا، أكثر من أماكن وصولنا. لأنّ المطار متعب، ولو كان إلى الفردوس. لأنّ العسكريّ بليد، ولو حاز نوبل. أكتب لأنّ غرفة فندق غريب، أكثر ألفةً من بيتنا الذي هدمته الحكومة.

أكتبُ لأنّك حلوة. لأنّ ڤانيليا كتفيك، أعذب من عطور ديور، وألذّ من بوظة ميلانو. لأنّ شعركِ قصيدة. بفتح حرف الشين، مع أنّ ذلك لا يمنع أن يكون بالكسر أيضًا؛ كسر قلبي وعين الغريب الذي يحدّق فيك بفم مفتوح وعقل مغلق.

أكتبُ لأننا أرخص. لأنّ ثمن حياتنا أقلّ من سعر موتهم. لأنّ الكلمات لن تهبنا ثمنًا. لأنّ بشراتنا الداكنة، توازي سواد أيامنا. لأنّ حربهم، حربنا، وحربنا، حربنا وحدنا. لأنّه لا بواكي لنا، لا السيف الرديني -ذهب إلى المتحف- ولا الغضا -مات من الجفاف-، ولا مذيعة النشرة في قناة موجهة، تدفع ثمن موظفيها من نفطنا ودمنا.

أكتبُ لأنّه ليس من طريق واحد للحبّ. لأنّ ثمة طرقٌ وافرة للحبّ؛ توصل إلى الضَياع، أكثر من الضِياع. أكتب لأنّ الكتابة، محبّة. أكتبُ، لأنّ الحبّ أن تسأل السؤال وأنت تعرف الإجابة، أن تعرف الجواب وتجهل السؤال الآتي من عمق عينيها.

أكتب لأنني منذ زمن لم أفعل. لأنّ الكتابة حرمانٌ، وقسوة. لأنّ أيامنا قاسية حقًا. لأنّ اليمن السعيد، لم يعد سعيدًا سوى في منهج جغرافيا صف عربي بليد. لأنّ فلسطين صارت رأيًا. لأنّ سوريا صارت رقمًا. لأنّ ليبيا تفتش عن عمر المختار، فلا تجد سوى غوتيريس المحتار. لأنّ العراق صار مكسور العين والخاطر. لأنّ لبنان، جنة شرقنا، صار جحيم أرضنا.

أكتب لأنك حلوة. أكتب لأنه يجب أن نراكم ذكرياتنا. أكتب لأنّ هذا العالم قسوة عارمة، ونحتاج لحتّها بالكلمات والشتائم. أكتب لأنّ كل يوم بلا كتابة إليك، ليس من أيامنا. أكتب لأيام قادمةٍ؛ أكثر نعومة، كما تقول عبوة شامبو محظوظة بقربك.

أكتب لأنه قد لا نجد شارعنا في الغد. يقرّر أحمق ما؛ أن يجعله نهب الذكرى والمشروع القادم. أكتب لأرصف شارعنا في قلبي وقلبك. أكتب لأنه خالدٌ كل شارع تباهى بوقع كعبيك. أكتب لأنّ الشوارع حكايا، والخطى كلماتها. أكتب لأقول للمدينة ما لا تعرفه عن نفسها.

أكتب لأنّك حلوة. لأنّك تعرفين ذلك. لأنّه لا شكّ في ذلك. لأنّه مُرّ كل يوم بلا مديح يُزفّ إليك. أكتب لأنّنا لم نعد نصدّق النشرة -متى صدّقناها؟- منذ قال مذيع غبيّ: الجو صحو هذا اليوم، وكانت عيناك تدمعان. أكتب لئلا نصدّق النشرة.

أكتب للجدة الميتة منذ سبعة أعوام. أكتب لإعجابها بزخرفة الدرابزين الأسود لدرج بيتنا. أكتب لها وهي تشبّه الدرابزين الأسود بصوت محمد أيوب*. أكتب لضجرها من أخبار العراق. أكتب للعناتها الوافرة على بوش. أكتب لزهو فرحتها آن انهيار برجي التجارة. أكتب لعبوسها الدائم بعد ذاك. أكتب لغيابها، لوحشتها، وبُعدها، وفقد حكيها.

أكتب لأنّ المصرفيّ لصّ. أكتب لأنّ البنك كعبتهم، ولعنتنا. لأنّ القرض باهظ، والسداد طويل. لأنّ البائس الذي لم تأخذه المنافي والمشافي، تأخذه البنوك والصكوك، ويمضي رهين حساب رقميّ، يتنامى لديهم بكل يوم ينقص من أيامنا.

أكتب لأنّك حلوة. ولأنّه يجب أن يعرف العالم ذلك. لأنّ العالم غابة وأنتِ غزالتها النافرة. لأنّ الصيادين يكمنون، ولأنّ القحط يعمّ، ولأنّ سباع الليالي كثيرة. أكتب لأنّ جديلة شعركِ تربكهم. لأنّ ارتخاء شفتكِ السفلى في لحظة سهومٍ؛ يبعثرهم.

أكتبُ لأنّه يجب أن نكون أحرارًا. ولأنّه لا خيار في ذلك. أكتب لأنّ الكتابة طريق إلى ذلك. لأنّ الكلمات دلالة على ذلك. لأن الحروف حتوف، ولأنّ أجملها ما كان بين أمرين: نعمٌ، لكِ، ولا، للحكومة.

________________
* قصيدة: (إلى مقرئ منتصف الليل – الشيخ محمود الحصري) : “أيها الصوت العميق كالذكريات، كحفر القنابل، أعدني إلى البصرة، إلى تهامة. وصيفاً للأميرات، أو راويًا في مجالس الملوك. لا تتركني وحيدًا أنا وصرتي، على قارعة القرن العشرين. إنني مجرد بدويّ مشقق الروح والقدمين، يضع خفّه تحت إبطه، وينتقل من عصر إلى عصر، كما ينتقل المشرد من قطار إلى قطار. أيتها الكلمات المزخرفة كمقابض السيوف، والآيات المتشابكة كالزيزفون في الربيع، بك أحتمي، وبك أستجير“. | محمد الماغوط


عدد المشاهدات : 6883

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.