نحن بخيرٍ .. كأنقاض
مدير التحرير
ربّما فات وقت الشكوى، يا صديقي مصعب، بعد أن فات وقت قراءتك لهذه الكلمات، ولكن أكتب لك الآن وأنا أنتظرُ مصيرك الدمويّ الخاص، الذي صار مصيرا ً دمويّا ً، ويا للأسف، لكلّ أصدقائنا الذين نعرفهم، والذين فات وقت التعرّف عليهم.
الكثير من الناس عرفوا أنه تمّ ذبحك بالسكين أسفل منزلك المستأجر في دمشق، بعد أن تمّ سحلك على الدرج من الطابق الثالث وحتى أسفل البناء، وهم يشتمون عائلتك وعشيرتك ومذهبك ومدينتك ودولتك الصغيرة “سوريّا”. ونقلت وسائل الإعلام مقتلك كصحافيّ منضمّ إلى قوافل الصحافييّن الذين لقوا حتفهم، بطرق مختلفة وغريبة، في هذه الثورة السوريّة الغريبة، والتي لم تنته بعد. لا يعرفون، مثلا ً، بأنك كنت تريد أن تـُرسل والديك، الطاعنين في السنّ، من أقصى الجنوب الغربيّ، درعا، حيث قريتك التي كُسرت أضراسها على الحجارة السوداء، إلى أقصى الشمال الشرقيّ، الحسكة، حيث خلق الله جزءً من الكرد هناك كي يأكلوا أصابعهم ندماً لأنّه خلقهم في هذه البقعة الأكثر إهمالا ً في العالم.
كنتَ تعرف بأنهم يبحثون عن أيّ سبب لطردك من الوظيفة في الجريدة الحكوميّة لأنك من المكان الذي انطلقت منه الثورة الكبيرة، كما حدث مع آلاف العساكر، من المدن الثائرة، الذين تمّ إقفال أبواب الثكنات العسكريّة عليهم، كإقامة جبريّة موقتة، بانتظار أوامر إعدامهم الرقيقة في الوقت المناسب… ولكنهم لم يطردوك، وهذا ما جعل القلق يتورّم في قلبك الضعيف، وجعل الرئة مريضة بالهواء السّام الذي يأتيها من تقليب ذلك المعنى.
لذلك، اتصلت بي كي يرتاح العجوزان في أرض الكرد المخفوقة بالضغائن. ولا أدري لماذا تراجعتَ عن مرافقتهم في اللحظات الأخيرة؛ ربّما كي تودّع حبيبة، أو حبيبات، أو كي تعيد ترتيب حياة ترسّبت في قاع ثمان ٍ وثلاثين عاما ً في يومين فحسب. أو ربّما لم يكن معك مالاً لدفع ما تراكم من بدل الإيجار، وأنت تحرّك وحدتك بملعقة القلق تلك. لا يعرفون، مثلا ً، بأنك كنت ستأتي ولم تأت. وبأن والديك كانا سيأتيان لتنفـّس هذا الهواء المسموم هنا، لأول مرة في حياتهما، في طريقهما لبناء مدينة من الشوق الغريب الطويل، ولم يأتيا. لأنك قلت لي ظهرا ً بأنهما بعد يومين سيكونان عندي، ولم تكن تعرف بأنهم سيذبحونك بعد المكالمة بساعة وربع تماما ً. كنت تظن بأنك ستعيش يومين آخرين، على الأقل، كي تطمئنّ على حجرين أسودين سيتمّ نقلهما دامعين إلى أرض المواويل الحزينة هنا. ثم تأتي أنت أيضا ً.
لا يعرفون أيضا ً بأنه تمّ قصف بيت عائلتك بقذائف الهاون، والناس تعزي أهلك بفقدك. لماذا كلّ هذه الأحقاد عليك، وعلى المئات من الشباب السلمييّن مثلك، وأنت الذي كنت تأكل التفاحة بعد غسلها مباشرة كي لا تجرحها بالسكين؟ ولولا أنّ الأبواب يلزمها مفاتيح كي تفتح وتغلق، ما كنت استخدمت المفاتيح أيضا ً. وبأنك كنت تحب أن تحضر الأفلام السينمائية لوحدك، كي تبكي براحتك. وبأنك وقفت مرة على جبل قاسيون وبكيت على دمشق، لأن هوائها صار نقيا ً فجأة. وبأنك كنت تشتري من السوق طيورا ً في الأقفاص، ثم تعلق على حيطانك عشرات الأقفاص الفارغة. وبأنك كنت تبكي في مناماتك، ويظن أهلك بأنك تبكي بسبب الحبّ.
ثم عرفنا تدريجيّا ً، يا مصعب، بأنّ كلمة واحدة مثل “الحريّة”، أو مثل “إرحل”، وبأن جملة ركيكة مثل “الشعب يريد إسقاط النظام”، يمكن لها أن تضعنا في المعتقلات لأسابيع، قد تطول أو تقصر، بعد أن يتمّ سحلنا في الشوارع كعصاة. ولكن، ها أنت ترى، كيف يمكن لكلمات قليلة كهذه أن تودي بمن ينطق بها، وبعائلته وعشيرته وأبناء مذهبه ومدينته نفسها، بكل وحشيّة ودمويّة ولا إنسانيّة. أصبحت لديك عائلة هناك الآن في باطن هذه الأرض؛ سبعة أصدقاء باتوا يشبهونك، على الأقل، في مصيرك. وهناك ستلتقون بعشرات من الأشباه الذين ماتوا تحت التعذيب بسبب كلمة أو كلمتين، فلو أنهم قلبوا باطن هذه الأرض، سيجدون شعبا ً كاملا ً مدفونا ً تحت سوريا.
أنت لا تعرف مثلا ً، ولكنك تستطيع أن تـُقدّر ذلك بالتأكيد، مقدار الهلع الذي نعيش فيه، مع أناس بريئين، كلما سمعنا قذيفة تسقط في الأنحاء القريبة، والبعيدة، حيث نهرع إلى الهاتف كي نطمئنّ على أحبّاء نعرفهم، ولا نعرفهم، كمن يبحث بين الأنقاض بأظافره، وكم نظلّ مرعوبين عندما لا يردّ على نداءاتنا رقم من الأرقام التي تعودنا على طلبها في العتمة.
مات لحدّ الآن أكثر من ثمانين ألف شخص يا مصعب، واعتقل عشرات الآلاف، ونزح مئات الآلاف. لكلّ واحد من هؤلاء موته الثقيل والكبير والحزين، كما كانت حياته الثقيلة والكبيرة والحزينة. له كتبه وحبيباته وخيباته المضيئة، وآلامه وماضيه الذي لم يمض معه إلى الموت. له عاداته السرّية والعلنيّة… وله قطط وطيور وقلوب ستموت بغيابه عن سقايتها طويلا ً.
أتعرف يا مصعب؟ ربّما مشكلتنا، ونجاتنا، هي تلك الحساسية المفرطة التي كسبناها بشكل غامض؛ ربّما بسبب عسر الولادة، أو بسبب الإقصاء والشعر والفقر، ثمّ صارت هي مَن تصنع حياتنا البسيطة والخفيفة، حتى في نشرات الأخبار، لذلك أفكر أيضا ً بالكتب في تلك المناطق المنكوبة من بلدي. أفكر، أنظر لركاكة التعبير، برضيع تحت الأنقاض ظلّ يرضع ثديا ً مقطوعا ً قبل أن يقتلوه بمسننات جرّافة الإنقاذ. أفكر بحياة كاملة تحت الأنقاض امتدّت لعشرات السنين، ثمّ أكملناها في سنوات الحريّة العذبة. بالهواء القليل وبالصبر الثقيل، وكذلك بالوحشة، يا مصعب. بالأرامل الضعيفات. بالثكالى. بالوردات المغتصبات في أصصهنّ، قبل رميهنّ في مخيمات النزوح، أو أفران الاعتقال. بالأطفال الذين يؤلّفون حياة بائسة في المشافي والمخيمات والشوارع المدكوكة بالصواريخ. الذين سيكبرون تحت سقف متهدّم لحين الالتفات إليهم فجأة. بطفل خائف أطلقوه لوحده في الليل والخراب، كي يدخل لوحده، بلا أب ولا أم ولا مأوى ولا ذنب، هذه الوحشيّة التي يصفونها “حياة”.
وفوق كلّ هذا يا صديقي: نحن بخير .. لا تهتمّ لكلامي. زوجتي أيضا ً تقول لصديقاتها، في الهاتف، نحن بخير، وهي تنظر إلى اللوحة الجداريّة الكبيرة، مقابل وجهها الباكي، لجواد جميل وقويّ يسقط كاملا ً في الوادي السحيق. ابني، الذي في السادسة من عمره، تعلّم الرسم في العتمة، وما زال يشاهد كابوسا ً واحدا ً وأبديّا ً؛ بأنهم يُمسكون به في نهاية المطاردة الطويلة، ثمّ يأكلون قلبه الصغير بعد أن يقتلعوه بأظافرهم الوسخة، والذي يظلّ ينبض أمام عينيه المختلفتين في لونهما. ولكنّني لا أقلق بسبب كابوسه هذا؛ طالما يظلّ يقول لي: أنت قلبي يا بابا!.
أما ابني الثاني، الذي في الثالثة من عمره، ما زال يُحرجني أمام قوّات الأمن في الشارع؛ عندما يصرخ في وجوههم كلما مرّوا: آزادي … آزادي. طاعنا ً هواء الكرة الأرضيّة كلها بإصبعين صغيرين. ولا أعرف، يا مصعب، إذا كان هذان الإصبعان بالذات سيُغمضان جفنيّ عينيّ أولا ً، أم جفنيّ عينيّ أخيه المختلفتي اللون؟.
أترى؟ ما زلنا على قيد الحياة. ومازال الأطفال والزوجة لديّ، بينما هناك الآلاف الذين فقدوا كلّ شيء. لذلك اطمئن يا مصعب. يبدو أنها ديدان الشوق، التي تعمل في الأوقات المناسبة، لذلك يجب عليك أن تطمئن. فنحن بخير. نحن بخير. ولكن كأنقاض.
_________________________________
* عارف حمزة. كاتب سوري. جريدة المستقبل اللبنانية.
عدد المشاهدات : 919
شارك مع أصدقائك
Comments are closed.