الوعي هو الحلّ

الوعي هو الحلّ

عبدالعزيز البرتاوي

ليس مطلوبًا منك تغيير العالم، ولا نفسك. الثبات هو ما نرجوك إياه الآن. أصبح التلوّن سمة. والتقلّب ثيمة مجتمع كامل. ما بين أقصى اليمين، إلى منتهى اليسار، حُلقت لحى وشوارب، وجُرّت أحجبة وإزارات. مطلوب منك: أن تبقى واعيًا، في عالم، يكافح حبّات مخدر صغيرة، ويرعى تكاثر قوى التخدير الكبرى. أن تظلّ أبلهًا، فاغر الفم، فارغ الفؤاد، ما سيخلقه منك عالم الشركات والشِرْك والشَرَك هذا.

لا تنتظر النشرة، لتملي عليك موقفك التالي. كن سابقًا للنشرة والنشور، الموكل إلى بوق وليّ الأمر. لا تكن كشيوخ البلد، أهل المال والولد. كيف صاروا أضحوكات، أمام بهاليل الإعلام. أتفه تهمة، تقيمهم عن كراسيهم المذهبة كبشوت، وتؤجج مقالاتهم، وتشنّج خطبهم، لرد كيد المعتدي الصائل بأفاعيل الكلام، وسيوف الشاشات والورق. لا تكن الشيخ “ردة الفعل”. إن سمع وليّ الأمر نوى خيرًا، أسبغ على بلاطاته فارط المديح المبجّل في من نوى خيرًا، ولو لم يفعله. وإن رأى علائم الشرّ، وأفاعيل الظلم، وكبائر المنكرات، التمس الصمت كمخدرة في حجرها، طارقًا أبواب سدّ الذرائع، والتماس 700 عذر لوليّ أمره وأمرك. لا تكن المذيع، العامل بالعملة. تنجمه هتافات، وتقضي عليه تفاهات. تنتهي تواريخ صلاحيته -إن ملَكَ-، بإشاحة عبد وليّ الأمر عينه عنه. ليموت بحسرة نشيد وطنيّ منقرض.

يلزمك الآن وعيٌ كامل الانتباه، لتقطع هذا العالم المفازة. لا تفكّر بأحمال الربح. فكّر بأوزار الخسارات.

ينبغي لك وأنت “تشحذ” وعيكَ، أن لا تعميك فلاشات اللحظة. أو تبدّل رأيك قصاصات الجريدة. أو يضحك عليك بهلوان السلطة: إعلامي الشحوم المتكاثرة بين دعايتي برنامجَي حمية. أتدري: الأفكار، ليست كالأحذية. الأحذية أكثر ثباتًا في هذا العالم. في سن معينة، يثبت مقاس قدمك، لكن لا سنّ لثبات أفكارك. لكن لتحذر: سقطة الفكر، لا تشبهها سقطة القدم. تلك تصمك إلى الأبد، وبعصا أبديّة. وهذه عرج خفيف، وعصا مؤقتة. منهم من ينتعل ألف حذاء، وحافي الفكر يظلّ. تخزه شوكات الأيام، وتدميه أحجار الدروب.

تعال أخي. تعالي أختي. تعالوا نبني عالمًا لا يرتكز على مِنَح وليّ الأمر، ولا محِنه. لا يستقي شرعيته من لحية الشيخ. ولا ينتظر توصية من قلم المثقف الساقط. تعالوا نبني عوالمًا من فنّ حرّ. لا ينتظر تصويتًا من برنامج دعائيّ قذرٍ، ترعاه شركات أدوات نظافة منزليّة. تعالوا نقرأ كتبًا لا ترشحها لجان وزارات الثقافة الرسمية. من تكفر بالشعب، وتؤمن بالحاكم. من تمجّد شعراء البلاط، وتمسح بالمبدعين البلاط. الوزارات التي يقودها منتهزو اللحظة: سلماوي وعصفور وحجازي وفلول مرتزقة الأنظمة. أتعرف: انظر إلى شاشات مصر، البلد الذي عرّف العرب جنون الشاشة وجمالها، كيف يستولي عليه الآن: عجزة حمقى. كل عتهٍ، يمكن أن تسمع به، ستراه ثمّة: عكاشة وسعد ومنى وأديب غير الأديب، وثقة فارطة الجديّة، لو كان لكانط أن ينحطّ مذيعًا، لما تحدّث بها.

تعالوا نتواصى أن لا تعمينا تذبذبات الواقع. لا تعمينا شعارات قيادة المرأة للسيارة، في بلد لم يقد رجالهم فيه أنفسهم. مسائل ختان الإناث، بينما وقائع ختان أعناق البؤساء والعمّال والحروب تحصد أرقامها. يقول تشومسكي: بالنسبة لشعبين متدينين وأصوليين، كالأمريكي والسعودي، كلّما عنّ للحكومتين ارتكاب فساد ما، فتحت الصحف الحكومية الباب للجدال حول أمرين: ختان الإناث للأمريكان، وقيادة المرأة للسعوديين، بينما تمضي الحكومتان بإمان إلى ما تصبوان إليه، في ظل شعب منشغل بالجدال”.

ما يقيم عودك الهشّ، في غابة الحرائق هذه، وعيك أن ليس من شيء آخر سوى وعيك. لن ينفعك الشيخ المدجّن، ولا المثقف الزائف. لن يتلفت إليك أمير العطايا على صفحة الجرائد، وحاتم طيء، في برنامج صباحيّ. لا أمك ولا أبوك. قد يسّرع بك نسبك قليلاً، لكن تعثرك الأخير، أقرب من حبل الوريد. يلهونك بضياعاتهم الماضية، كأن ليس من ضياع حاليّ. يتبرأ الشيخ من ماضيه، كأنه ولد نبيًا. ويتبرأ المثقف من يومه، كأنه عاش، ويعيش مسخَ إنسان، يتسوّل حضوة السلطة، ورضى عبيد الأمير.

ولا يستلزم الوعي شراهة جمع الكتب. وتكديس العناوين. ورصّ أغلفة الكتب العظيمة، واستعراض كل ذلك في صفحات تواصلك وانفصالاتك الاجتماعية. الوعي أكبر من مجرد استعراض. وأكثر من توقيت موضة، ونشوة لحظة. اقرأ بقلبك، لا بكاميرتك. اكتب بدمك، لا بحبر الشاشة. وبدلًا من أن تتباهى بإنهاء كتاب، لتستح من تأخيره إلى هذا الأمد.

في مقابلة سجلها القاريء الكبير مانجويل بين القزم يوسا، والعملاق بورخيس. قال يوسا، كاتب الاحتلال الأمريكي لبورخيس، إنه متفاجيء من بساطة مكتبة بورخيس، وتداني أثاثها وقلة كتبها، فرد بورخيس على البيروفي الأحمق -بحدّ وصف مانجويل- قائلا: إن الترف يمكن أن يكون ميزة في ليما. أما في بوينيس إيرس فليس بميزة. مات بورخيس خالدًا، في أذهان مخلوقاته الوهمية، معترفًا بحضارات الشرق، ومؤمنا بروحانيته، وتعثر يوسا المترف بنوبل هذه المرة، بأجندة جيوش الاحتلال، يكتب مرة من بغداد، ممجدًا حضارة أمريكا المصدرة قسرًا إلى غياهب الشرق الرجعي المتخلف، ويخطب من منصة معرض سيدني للكتاب، محرضًا على الإسلام.

تعرف، حتى مسوّق الكتابات الجميلة كويلو يقول: “لديّ الكثير من وقت الفراغ. هناك هذه الفكرة: أنه عندما تكون كاتبا ناجحا، تكون دائما مشغولا للغاية. ولكن أنا لا. أقضي الكثير من الوقت، أتجوّل متناولا القهوة مع الغرباء”. هل يعي المزيّفون، صاحبو الرطانات الصحفية، ومؤلفو الكتب المتتالية كحلقات مسلسل تركي، أن الوعي لم يكن يوما حجابًا ضدّ الشارع، ولا انعزالا عن عمالته المساكين، وأناسه العاديين. وأن الوعي، أو القراءة السالفة الذكر، يومًا لم تكن تعني الكتب، وعزلة المكتبات، وجلالة الأرفف، وطاولة الندوات العميقة والعقيمة. وأن “اقرأ” الأولى، نزلت على رجل أميّ، فغيّر بها عوالمًا من الفصاحة والجلال الأسمى لما كانت عليه الكلمة.

وفي حمأة سعار الرياضة الكروية المحليّة، رعاية الشباب لم تعد مهمتها سوى الأقدام. لا تفكر ولو عرَضًا بدار سينما واحدة. تلك لعبة الرؤوس ولا تهمهم. إنه ليخجل المرء، وهو يرى بلد “متشددًا” كإيران، ينافس أوسكارات الأفلام الأجنبية، بينما حظك هنا، تتبع أفلام شاشاتك العقيمة، المنقولة عنهم، والمقطعة بدعايات الاستهلاك الأبدي، لشعوب تأكل ما لا تزرع، وتلبس عريّ الآخرين كموضة. وما تنتجه العقول النسقية المضادة للتوجّه العام، بدعوى المخالفة للمعرفة، والمشاكسة، و”ردات الفعل” أيضًا. لكن وعيك لن يقف على باب الأمير. سترى أفلامك. وتبني أحلامك. ستهتف لممثل يركّع الميديا لخدمة الإنسان، وتبصق على آخر همه من الفيلم خدمة مصلحة قاتل، أو تزييف وعي عالم.

تعال إذا نتحصّن بوعينا. بكلمات لا تذروها الرياح. ننظر من علٍ إلى كلّ أمير. وبشفقة إلى كلّ أجير. نتكبّر على المتكبّرين، ونتواضع للمتواضعين. ندخل سوقًا لا يزايد فيها من يبيع قيَمه أولًا. ونشتري بضائعَ، لا تلهينا عن حياة حرّة وكريمة. وندعو لـ “أمل لا شفاء منه”. لن يحبطنا كل هذا الضياع. كل هذي القضايا التي تُفتح هنا وهناك، لتحويلنا صرعى عجلة تنمية مثقوبة بالأساس. سنعطّل تنميتهم، لا أمانينا. ويا ظلام السجن “خيّم” في أي مكان غير براري الشبوك هذه. أتعرف: ظلام السجن زال. كلّ مصابيحنا المنيرة، تقبع ثمّة.

أو إن لم ترد. فانتظر دائمًا “أمرًا ملكيًا”، فالعبد يقرع بالأوامر الملكيّة، و”يامر عليه ظالم ونص”، والحرّ لا تخيفه زنزانة.

عدد المشاهدات : 2280

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.