أبي العظيم آينش .. لا بأس

أبي العظيم آينش .. لا بأس

أشعار الباشا

1
تبدو الحياة بلا سياسة، كمن يعتنق التسول مبدأً. قواميس عشوائية فيها كلمات لا نهائية، لكن ليس من بينها مفردات عروبية كالكرامة والفضيلة والنزاهة. ستجد هذه الكلمات مثل فكاهة لتسلية المارة، منقوشة على لوحات تعلو مباني مستأجرة بخط ردئ، وأحياناً بأخطاء إملائية. المبنى المستأجر قد يكون إدارة وزارة تكافح الفساد مثلاً. ليس في الأمر شبهة للانتقاد. لم يعد بمقدورك هذا أصلاً. الحكومات اليوم منعت كل شيء قد يُبتدأ أو ينتصف أو ينتهي بكلمة لا. معهم حق، لابد أن يضربوا بيدٍ من حديد، علينا.

إننا فوضويين ومزعجون، قطعنا عليهم تفكيرهم في إحياء محاكم التفتيش بديكور حضاري باهر. أقصد الإبهار بالمعنى الذي يجعلنا نظن أن ما يحدث هو أعظم تشييد لمدينة أفلاطون. وأخيراً .. تحقق الحلم، وستعم الفضيلة، بعد أن أمّرنا على قول نعم، يليها تعريف شامل عن أنفسنا، هكذا مثلاً: نعم سيّدي، أنا نعامة.

لا بأس، لا زلت تستطيع اختيار القناة التي تشاهدها من بين الحزمة المحدودة في تلفازك. كما أنه إلى هذه اللحظة التي تقرأ فيها بياني، تستطيع اختيار نمط بنطال الرياضة الذي سترتديه. مطاط فقط؟ أم ذو حبل يشد من الوسط؟ أنا أيضاً حرة. تجاهلت اليوم كوب عصيري الأبيض المرسوم عليه علم السعودية بأريحية، وشربت في الكوب الأبيض الآخر المرسوم عليه قلب يخترقه سهم تقليديّ. يقول بيسوا في اللاطمأنينة “إنَّ عالم اليوم، هو عالم البلهاء، وعديمي الإحساس والمهيَّجين”. الحق في العيش وفي النجاح يتم اليوم بنفس المبررات التي يتم بها الحجز في مصحات الأمراض العقلية. بالنسبة لي: أفضّل المبررات التي تدخلني المصحة، على المبررات نفسها التي إما تمنحني أو تمنعني الحق في العيش ومعارضة خضريّ الحي الذي لا تعجبني بضاعته.

أعرف أن ما أكتبه الآن هو كي لا ينتفخ قلبي وينفجر لا أكثر ولا أقل. لا فائدة من الكلام مع المشغولين بالمشاريع الفتاكة، فلديهم ما هو أهم من سماع عقوقنا السافر. نحاول إيهام أنفسنا أن لنا قيمة، إذ لدينا مجلة ننشر فيها هذياننا الذي يسمِّه قطيعنا المغلوب على حريته أدبًا، وما هو إلا عبادة لله من حيث لا يعلمون. طريقة ملتوية لعدم الانتحار قهراً أو رفضاً. طاعةً للخالق الذي يمتلك أرواحنا، استماتة للحفاظ على الأمانة التي استودعها خالقنا في أضلاعنا. هدهدة لعقولنا التي صار تسكن فيها مع إنساننا، مجموعة نوارس تحاول إذكاء ما يئسنا منه من مفردات الصلاح، وفي جزء آخر من العقل تجاورها مجموعة كلاب، تعوّضنا ما يعوزنا من حماية ووفاء.

أنا أحاول، لا لأبقِ على أنقاض الانتماء. بل لأنفض عنه الشعور المزري الذي يتبعه، مثل شرخ يحدثه احتكاك رأس ابرة مفاجئ بسطح زجاج شفاف، إلى درجة قصوى تمنع الانتباه له كرقاقة .. لولا الشرخ المتسع.

9
كل شيء نسخة، عن نسخة، عن نسخة، عن نسخة. حتى الرجل الذي تنكَّر في لهجة فتاة مرّة، و قال أنا أصلٌ ولست نسخة، كان قد نسخ القول عن نسخة أخرى ظنت أنها أصل نبت من الأرض بلا سابقة الخالق الناطق. هي أصلان يعني. أفكر أنه ما من سبيل للتفرد الذي يفضي إلى وِحدة يسديها لنا أصدقاؤنا عن طيب قلب إلا الهروب عن رؤوسنا، وإيداع قلوبنا بين عينيها.

هل تعرف قصيدة الشمس؟ إنها القصيدة التي لم يكتبها شاعر للآن. بالنسبة لي؛ متى ما كتبَت قصيدة الشمس، سينفصل رأسي عن عنقي بفَن.. يشبه تماماً ما يحدث عند انطلاق صاروخ من متن قاعدته التي تحمَّلت مراحل تأهّبه للاّعودة. تسألني ماذا إن وجدت من فعلها قبلي وقال أنه أول من فعلها، رغم أن قبله من ابتكرها أولاً، لكن الصحف لم تتحدث عنه؟ إليك جوابي: لن أفعل شيئًا. لن أزم شفتيَّ امتعاضًا. ولن أحك أسناني ببعضها غيظاً. ولن أضرب بقبضة يدي على الحائط قهراً من الفشل في ابتكار أصلٍ أوّل لشيء.

الفتاة التي سبقتها بفكرة بودكاست وضعته في مدونتي، تفعل مثلي الآن، و تقول أنها الأولى. لم أفعل شيئًا. كنت أبتسم بسخرية عندما يحدث شيء أعرف حقيقته التي لا يقولها من ابتسمت ساخرة من قوله غير الصحيح. لكنني لا أسمِّه كذباً، إنها غريزة حب التميز و الالتصاق بالرقم واحد في أي شيء. الآن لا أبتسم. لا أسخر. لا أتهكم، ولا أغضب ولا ألمّح. أرسل نجمة إلى سقف غرفتي، لتحفزني على اللمعان في شيء يفعله الجميع، لكن ليس بالتوهج نفسه. هل استخدام النجمة كصورة تشبيه في محله؟ لا أعرف إن كان هذا مناسباً. لكنني استخدمت النجمة، لأنني بطريقتي الخاصة أموت كي لا ينشق رأسي عن عنقي من النعاس الآن.

لماذا رؤوس كراسي الحكومات لا تنفصل عن أعناقها أيضاً؟ ليس رؤوس؟ ظهور ومقاعد فقط؟ أرسل نجمة تخسف بعمود فقراتها إذن. مجدداً لن تكون الأول في هذا الإنقاذ. لكن العالَم سيتذكر طريقتك الشاعرية، وينسى من سبقوك إلى الفعل نفسه بطريقة همجية، سينساهم جميعاً. سيذكُر العالم فقط أنك أنت فعلتها و أنقذت الأوطان .. بحوافّ نجمة.

8
الحياة قاسية؟ يبدو هذا السؤال ستريو تايب لحقيقة متعِبة يتبناها الجميع. حرفياً، العصاميون والمكافحون والعاطفيون والمجاهدون والمجرمون والمنحطون. الصعلوك يشعر بقسوة الحياة لأنها لم تمنحه المجد الكافي بين العابرين في أزقة المدن المكتظة بالآثام. “المجاهدون” يشعرون بقسوة الحياة لأن النساء السافرات لم يتشحن بالسواد و يقررنَ في بيوتهن ويرمين من أيديهن الكتب الفاسدة التي يسمونها دراسة. مجاهدون آخرون يشعرون بقسوة الحياة لأنهم لم يستطيعوا الحصول على عرش الحكومة. يؤمنون أن عدل الحياة هو أن يصبحوا ملوكها. المكافحون يشعرون بقسوة الحياة لأنها لم تمنحهم المنزل والمال والعمل. كم أحب هؤلاء المكافحين و أكرههم معاً!

العاطفيون يشعرون بقسوة الحياة لأنها لم توفّق الحب المتفجر من قلوبهم إلى مستقرِّه الأخير .. الزواج. أو على الأقل في حياة قاسية كهذه .. عدم الفراق. المنحطون يشعرون بقسوة الحياة لأنها لم تركِّع البشر أجمعين تحت إمرتهم. يسقطون جمعاً وفرادى من السخط إن سمعوا كلمة لا. لذَّتهم في قيادة قطيع من النعام، يدفن رأسه في نفس الأرض التي يتبول فيها وينام. الحياة ليست قاسية. الحياة مسرحية يتفاوت أداؤها حسب مهارة المخرج و ثقافته و نوع الكاميرا التي يحملها على كتفه وينقلها إلى الكتف الآخر أو يحملها بذراعه وينصبها أمام عينه كما ينصب القناص بندقيته أمام الفريسة عن بُعد. أيها المتفرجون، اضحكوا. المسرحيات خلقَت إما للتصفيق أو الضحك. في التراجيديا و الدراما نصفق متأثرين. في الكوميديا نصفق و نضحك معاً. في الحالتين نخرج أقوياء بفعل النشوة. لا بأس.

4
يا صديقي، ويا عزيزتي، لا نعرف لماذا يشنون الحروب إن كانوا يهدفون كما يقولون إلى نشر السلام. أجزاءنا الداخلية عقل وقلب وجوارح تصدّق بعض الأسباب السلطوية. لكن الحقيقة هي أن أحداً لا يعرف جواباً أكيداً، لأننا جميعاً دون أن نُدرك، نسخة جزيئية خاصة التكوين من الأصل الكبير .. آينشتاين. هذا عالمي المفضل، أقولها بهذه البساطة والسذاجة. لقد كان يريد أن يفهم الكون. لم يقل حسب ما نقل إلينا كلمة بعد تلك الكلمة: “أريد فقط أن أفهم الكون. والباقي مجرد تفاصيل”.

إنني في هذه الأيام منشغلة بكتابة نظريات على غير هدىً ولا قاعدة. لم أضع فكرة لما أريد الوصول إليه. أتذكَّر نهاية آينشتاين المؤلمة و أكتب معادلات عشوائية، أحاول حلها و أصل غالباً إلى ∅، مرتين كانت نتيجة اتحاد جزء ثيوفيلين بثلاث ذرات نيتروجين ∞، و باقي المعادلات كانت تنتهي إما بالحذف أو عدم الإكمال. لم أتوقف، أضع شرح نظريات آينشتاين أمامي وأغير مكان القيَم، وأضيف أخرى وأقرر دون سبب أن قيمًا ثانية لن تفضي بالمعادلة إلى شيء. أفكر أنني قد أركّب بلا سبق تعمًّد .. قنبلة تمحي الأرض بمن عليها دون ألم و ضجيج. بلا حرب، بلا دم، بلا أشلاء ولا تدمير ممتلكات.

ألعابي الصغيرة ستظل نائمة في محلها على السرير، كتب كونديرا وسيوران وبيسوا ودوستويفسكي وغوركي وأورويل وفيرجينيا وولف لن تتزحزح من رفوفها الأمامية في مكتبتي. أنت لن تفتقد فرشاة أسنانك من مكانها، ولا ماكينة الحلاقة ولا البقعة الزاوية في الأرض التي تلقي فيها دوماً ثوبك و باقي ملحقات الزي السعودي بلا مبالاة. نسيت أهم شيء، هواتفنا و أجهزتنا المحمولة. لن تشرخ شاشاتها ولن يتعطل النظام ولن تنقطع الشبكة. سيبقى تدفق سرعة الانترنت الضعيف الذي تدّعي شركة الاتصالات أنه كامل بحجم البيانات الذي طلبناه كما هو. لا شيء سيتغير، سوى أن الوعاء المبتلى بنا منذ آلاف السنين سيصطحبنا في نزهة أبدية إلى العدم.

ربما لن أركِّب هذه القنبلة. قد أركّب إكسير السلام. تبدو عبارة سطحية لزجة، تشبه ما كانت تروِّج له أفلام الخيال العلمي الأمريكية في السبعينات. مع اختلاف جوهري، كانوا يخترعون إكسيرهم لحروبهم الباردة. أما حروبنا، فهي لم تخطر على بال الشيطان! لذا لن يتشابه الإكسيران، سيكون ما أصنعه شيء أشبه بخطف الذاكرة . سأستبدل ذاكرة مجرمي و طواغيت العرب كلهم بذاكرة خنازير. سنصبح نحن الأقوى، ونريهم كيف تكون اللعبة على أصولها بلا بيادق شطرنج ولا عجلة روليت.


ما زلتُ صديقتك كارلا يا جورج أورويل. غير منتمية لامبراطورية الأخ الأكبر، ولا لوزارة الحقيقة والمحبة. إنما لسلالة المحسودين في رأي فرناندو بيسوا. بإمكانهم كتابة سرورهم واعترافاتهم الخاصة، يمنحون أنفسهم الحق لتحويل كل ما ليس له قيمة في حياتهم إلى شيء له انتماء لمجرد أنهم دوَّنوه. يعبر بهم في حياتهم كلها شخص واحد على الأقل، يجد فيهم ما يلفت النظر، فيفكر في كتابة سيرة عنهم و قد يعرِّف عليها الآخرين أو يحتفظ بها لنفسه، في دفتر ذكرياته. إنني من هؤلاء تمامًا، ليس إنجازًا كونيًّا أن أكون الأصل في شيء ومن يقلدونني نسخة. حدث هذا في بعض أشياء سخيفة أقل من أن تُذكر. لكنني لم أعد أهتم بغير الخفض من حمَّى الإحساس. هذا الإحساس الذي حولني إلى آلة إنتاج معادلات غير مترابطة ولا أعلم أنا ولا من قد أفضي إليه بقراءتها، أي شيء إلا بعد مئات السنين، لو قدِّر لكائن من كوكب آخر -أحبُّ زحل- أن يعثر عليها فيكتشف منها أنه في أحد الأزمان كان هنالك كوكب يُدعى أرض، عاشت فيه فتاة غير ذات قيمة في عصرها، لم يعرف الناس أنها كانت ستنقذهم، لولا أن كل ما يحدث ضربٌ فاخر ولا عقلاني من الجنون.

عدد المشاهدات : 1150

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.