شرق ما وراء الشمس

شرق ما وراء الشمس

عبدالعزيز البرتاوي

هل تبدو عديم الجدوى. لا شيء يمكنك تقديمه. أنانيًا، لاهثًا، منساقا خلف غواية السرابات الوافرة. هل تفكر قبل أن تنام: أي عالة أنا على هذا العالم. هذا البلد، هذه الأسرة، هؤلاء الأصدقاء. هل تتحسس نمو كرشك الأحمق، وترتعب لضمور عقلك. هل توجعك كل عناوين هذه الكتب التي لم تقرأ. هل تشعرك الأفلام الخالدة، بالحسرة، كلما لمحت أرقام مشاهديها في تنامٍ، بينما تلهث تبحث عن وقت لتتأمل فيه مقطعًا قصيرًا في يوتيوب؟

هل تنام مبكرًا، لتصحو للوظيفة، وتعود من الوظيفة متعبًا، لتنام من جديد. هل يسيطر اللهاث على حياتك. تخاف توبيخ المدير السمين. نظرات إزدراء الموظفين الآخرين. عتاب أستاذ المادة العجوز كنخلة يابسة. هل يبدو عالمك مملًا، لزجًا، كئيبًا، لا شية فيه غير الانتظار، من موعد إلى موعد، تتحسس ما بقي من أهميتك، ولا يبدو بائنًا سوى الخواء. هل تتعب من فرط اللهاث، متأملا أن الكلاب، ليست كمثلك: تلهث من فرط التعب.

هل نتمدد. من قلق إلى أرق. ومن أرق إلى غرق. نلفّ ساقًا على ساق، حتى المساق. أم أننا، سنعبّ من بحر تنهداتنا، ما يزلزل شطآن الجفاف، بموج النصوع، لنصنع فارقًا، في عالم التوازي في المحطّة والسفول.

لن نلتزم بتعليمات عبيد الأمير، ولا تقاليد عادة جواري المدنية، ولا هراء المواعظ الدبقة، ولا سخافات الأيام الوطنية. سنقلب الطاولة في وجه العالم. نؤجل موعدًا لأجل مباراة. نقطع اجتماعًا، لأجل رسالة حب. نخرق صفّ طابور التخرج لمصافحة عامل نظافة الجامعة القذرة. نعبس في وجه الشرطيّ الذي ينتظر بسمتنا كجباية. ونقرأ الجريدة من صفحتها الآخيرة، باصقين على الوجوه التي تملأ أولها.

لدينا وفرة مبرّات لا تخضع معاييرها لجمعية الأمير اللص الخيرية: العاملُ ببؤسٍ، فاجئه ببسمة -هل تحتاج بسمة لنقود أو إذن وزارة داخلية-، نربّت على كتفه، نوقِعه في غواية الحكاية عن أطفاله، ليسلو الغريب قليلا، بأسمائهم وضحكاتهم، ما تمنّوا، وما غنّوا. ما غنّى وما تمنّى لهم.

أصدقاء الغرباء نحن، بكلّ حيّ ميّت، وشارع سحيق. سنوقف رتل السيارات المجنونة وراءنا، ليعبر الغريب. نلوّح بأكفنا السمراء للعابر. نشكر من لا نعرف، ومن نعرف. نكسّر حواجز الصمت في أماكن البيروقراطية، نبصق في ركود أسونة الرسمية، ونبسم للذي اكفهرّ له الصباح. المرأة السوداء، حاملة المتاع، تعبر الشارع صيفًا، نمنحها مشروبًا باردًا، ليثبّت قلبها تحت الشمس، ونشرب نخب قوّتها. ذاك الذي نهره مديره بالأمس، نواسيه من غد. كائلين للمدير المعتوه، غيبة، كل ما يمكننا من شتائم.

سنبعث الشمس في حلكة الليل. نحيي الربيع في إبّان القيظ. نكون اليد والمصافحة. الماء والعطش. الصحراء والمطر. قاعة السينما والمشاهدين. نكامل أضدادنا، ونخالف اختلافاتنا. نشعل الانطفاءات. نحزن لنبتسم. نصنع من اللاجدوى ألف طريق للجدوى. نهوي ونهوى.

ونأمل أن لو منحنا الله عمرًا، أن نكون الذي كنّاه. ثابتين على شكوكنا، لا يقين يهزّ ريبتنا، ولا ريبَ في جهلنا. نتعلّم ونتألم ونتأمل. ونسعى حثيثًا نحو كل معرفة بمغرفة. نعوم بحار العالم. نغتسل من زيف الغرور. نكشف للآخر ضعفنا، نضمّد جراحه، ويواسي حزننا. إننا لنبدو دائمًا أقلّ ما نكونه، عند أول رجفة حمّى، أو رعدة مرض. حين نصبح اللا شيء، أمام هذا العالم المجهول. إن هذا، ليجعلنا نعضّ على صحتنا العابرة، ونواسي تعب الآخرين الدائم، في هذا العالم؛ مصحّة الأمراض الكبيرة.

مرة جلست، برفقة صديق حميم، نستمع لجورج شامي، يروي بيوغرافيا حياته الأليمة. كيف أن مبناها على لعنته الدائمة، كل التحاق بعمل، يعني حلول كارثة. صار صحفيًا، فكُسرت قدم رئيس التحرير على عتبة الجريدة يوم التحاقه. وعمل طبّاخًا، فاحترق المطعم ليلة قدومه. وجاور شرطيًا، فماتت أمه بعد مضي يومين من حلوله. وتتابعت كوارثه المرافقة لوجوده، ثم ماذا. عمل في عشرين وظيفة ونيّف. شارف الثمانين. يضحك ويسعل. كتب سيرة حياته في 1800 صفحة، وقال ضاحكًا كملقي نكتة: أنتظر أن أموت لتطبع. ثم ماذا يا عم جورج. بتمهل وتنهّد قال: لو وهبني الله عمرًا جديدًا، لالتحقت بقراصنة المحيط الجنوبي، في الصومال، حيث الكابتن فيلبس ليس بطلا، لا الفيلم ولا الحقيقة، ولكنت إرهابيًا صعلوكًا، أقضّ مضجع الرأسماليين، أينما وكيفما ومتى ما عبرت سفنهم المحملة بالزفت والسحت والزيت والأسلحة، ولما خفت من حلول الكارثة؛ لأني حينها، في عمق الكارثة: أنا الكارثة.

عنّي أنا، لو وهبني الله عمرًا، لم أزد على أن اكتب هاته الحكاية. تاركًا إياها للغريب، يقرؤها، ويفتّش عن عملٍ، وعن كارثة.

عدد المشاهدات : 2542

 
 

شارك مع أصدقائك

2 Comments