“كل كائن هو نشيد مدمّر”

“كل كائن هو نشيد مدمّر”

أريج البواردي

“إلى الذين كانوا، فأبوا أن يظلّوا”.

أُقدّم عمري إلى الضّيـاع، على طبقٍ من ذهب. أووه، يا للوصف المستهلك، لهذا الشيء البرّاق والزائف. كلا، بل أقدمه على رصيف، في شارع مجدور، كما لو كان الضياع كلبًا مسلولًا، يلهث، وأطعمه أيامي. أقدّمها هادئة مبتسمة، و أنا أهمس: صلبٌ قلبي، بما يكفي لئلاّ أحزن على شيء.

كلّ خسارةٍ، عبور، مثل ذبابةٍ تمر. هل يلقي أحد بالًا لذبابة. كلّ من علّمني الرمايةَ يوما، أشحذ الآن نبالي، لأقتنص مقاتله. كلّ من ظنّ بي يومًا سوءًا، كنت عند سوءِ ظنّه. كلّ من أحسن لي يومًا، أنكرته وأنكرت فضله. أنا اللئيمة بالشكلِ الذي لا يُتَـصَوَّر. أرأيت كل ذي الهدايا التي حُزت؟ كل هذا الحب الذي نِلت؟ لا أشعر منه بشيء. ذي الهدايا، جمادات لا روح فيها. وهذا الحبّ، لا شية فيه. أرأيت أغنياتي التي بها احتفظت؟ تستطيع محوها أغنية أغنية، ذلك لا يحزنني. لم يعد يحزنني شيء، إلا أن لا أحزن. تنتزع مني شيئَا أحبه، تصفعني، تكذب علي، تكذّبني. لقد ساعدني “توقع أي شيء، من أي شيء” على مواجهة كل شيء.

لا أُنزِلُ الناس منازِلُـهُمُ الآن، بل أنفيهم مشردين إلى الشوارع والجوادّ. مُدرِكةً -في وقتٍ متأخّر، كعادتي- أني كنت أنزلهم فوق منازلهم. لم يكن في الآخرين خلل ما. كان الخلل خللي. إنني مُصابةٌ بطفرة مذ ولدت. طفرة في الحب، في الغباء، في الاحترام، في الحزن. المقاييس فيّ: فوق المستوى الطبيعيّ. ولم أكن أعرف. لم أكن أفهم. كنت أعلم أني مختلفة عن الآخرين، أؤمن بهذا الاختلاف. لكني رغم كل ذلك، كنت أستغربه، ذلك أنه من الغريب، أن أكون فردا وحيدا من هذا النوع.

أنا مجنونةٌ بالفطرة كذلك، كلُّ أفكاري تُحارَب. يُسخَرُ مِن أفعالي دومًا. كنت أزهو بهذا الجنون، كنت أفخر. المُهِـم، أنني الآن أعيش فوق الحياة، فوق الألم، فوق الندم، فوق الإحساس. لا أهاتف أحدًا، و هذا سرُّ سعادتي. لاأعاتب أحدًا، وهذا سرّ راحتي. إني بطريقة حمقاء أبوح بأسراري.

كنت أحسب -حمقًا- أنّ قلبي يضيقُ بِالكُره، عملت على مشاريع توسعة جبّارة لقلبي، بالحب والحب فقط. لكنني الآن، وبعد أن اتّسعت بصيرتي، أوقفت كل مشاريعي، فرِحةً غير آسِفة. ماذا يفعل بك حب الآخرين؟ غير أن يصيّركَ غيرَك؟ ينتزعك منك، ثم لا يعيدك؟ وتكتشف -متأخرًا كعادتك- أنّك تزرع زرعك في حقول الريح، لا الزرع أثمر، ولا أنتَ تحصد إلا عمرك. أخبرك سرًّا؟ ليس من شعور ألذّ من أن تكره. بِالكُرهِ أنت قويّ. صلبٌ ولا ترهقك خسارات و لا أوجاع. لا تعرف معنى للحزن، ولا مبنى. أحبّوا كرهكم، وآووه.

البشر، هذا التراب المتلاشي، الماشي على قدمين، لا يشكّل لي أدنى اهتمام. إنّهُ مخلوق قابل للفناء في أي لحظة، ليس شماعة آمالٍ ولا آلام. البشر وسيلة لقضاء حاجاتك فقط. لا تحاول تشكيل أدنى شعور تجاههم، إنك بذلك تستهلك قلبك فيما يضر ولا ينفع. جرِّد الأشياء من شعورك، كن وقِحًا، صلبًا، مجنونًا. إنها طريقتك للعيش، أنت ترسم طريقك لك، لقدميك، وليس الآخر، الذي ستدوسك قدماه آخرًا. أنت من يقرّر: تكون/لا تكون. تنسى/ تُنسى. بالنسبة لي: قرّرتُ ألا أنسى، إني قادرة على النسيان، لكنه قرار. إنني أتذكّر، أجترّ أحقادي، كما جمل عجوز. لقد قرّرت رغبةً، أن أنسى. الجوهر في الرغبة، كما يقول سيوران، كل الأشياء ممكنة، لكنها بين أن تُرغب أو أن لا تُرغب.

هل تريد أن أقول لك أني كائن ضعيف و عاجز؟ لا. لستُ كذلك. إني أوقح من ملامحي البريئة، إنّني أوقّحها. أنا أكثر لؤما من تصوراتك و تخيلاتك، أكثر خيانة وشراسة. ولو أنّ شجاعتك كإنسان تقاس بقدرتك على الاعتراف والنسيان، فإني لا ذا ولا ذاك. لكنّني شجاعة رغم ذلك. لماذا ؟ لأنّها رغبتي. الخوف شجاعة، حين يكون ترغبه، لا ترهبه، ولا تجبر عليه. ثمة فرق بين الرغبة و القدرة، انتبه. بالنسبة للذنوب؛ لا مشكلة لي معها، لقد أخبرني أبي يوما “أنني سأدخل النار”، لست متصالحة معها، ولامنكرة لها. لكنني أعترف بها كجزء من كينونتي، لا أهرب منها، لأن هذا زيف، ولا أركض إليها، لأن هذا فجور. لقد ولدت ناقصة مثل الكمال، ذاك الناقص الأبديّ، ومثلك، أنت الذي تذنب بحقِّ وقتك، وتضيعه في قراءة هذا الهراء.

يستطيع أحدكم أن يموت الآن، لن أحزن عليه. يستطيع أحدكم أن يشتمني، سأضحك في وجهه: شتائمك تمثلك، ولا تعنيني. يستطيع أحدكم أن يهجوني، سأكتب إليه رسالة حب، فليعطني عنوانه في الجحيم. لا، لن أكتب رسالة حب، لقد أوقفت هذي المشاريع. أكتب الآن شتائم، أكتب نصوصا مُنحلّة، أكتب كذبات منمّقة، أكتب كلمات قاسية وقاتلة، لكن لا أكتب حبًّا، لا اعتذارات، لا رسائل عتاب.

ما أروعها من حياة، تلك التي تسير بانتظام على وتيرة واحدة، حيث لا أحد يعكّر صفو مماتك، مروّعة ورائعة. لا حقّ لأحدٍ عليك، لا حقّ لك على أحد. لا حقوق، لا واجبات، لا شروط، ولا وعود، سوى لنفسك وعليها، لا يضرّك من خان، إن أدّيتَ أمانة ميتتك. حتى في هذه، فإن حقوقك اختياريّة، لا إجبارية. لقد قرّرتُ بكلّ حبّ وسرور، أن أكره الذين أحبهم. أن أنسى جلّ محاسنهم وأذكر كلّ سيئة لهم، وهكذا أكون إنسانا حقيقيًّا. حزينٌ أنت؟ ذلك لا يعنيني. غضبان؟ لا يعنيني أيضًا. تعتب؟ يُسعدني. مريض؟ ليس من شأني، ولن أعودك. تأرق؟ لك السهر حتى مطلع فجر لن يحلّ. تسعل أو تعطس، سأشتمك، لا أشمّتك. تموت، لن أسير في جنازتك.

إنني أكفر بك كإنسان، وأؤمن بك كحيوان. أكفر بالحب والإنسانية والكذبات اللزجة، وأعتنق الرأسماليّة الصريحة الواضحة. أتعامل مع ابن آدم كوسيلة، وسيلة فحسب. أتحكّم بها كيفما شئت. أكفر بالأب والأخ، وباقي أرباب العائلة المهزومة. أنا الابنة العاقّة -ولا فخر-، أنا الأخت السيئة -ولا اعتراض على القدر-. أنا الكائن الطفيليّ اللا فائدة ترجى منه، ولا صلاح. دودة فاسدة، أينما لقيتني تلقى العفن. الروث الذي يخبّئ الرماد. وحين يتفاعل العفن مع الأوكسجين، أكون صدَأً صدِئًا، بلا صدى، ذلك أني توقفت عن الصراخ -وهذا سر نسيته- وعن البكاء، وهذا تطوّر عظيم لسلالتي الآتية، ينبئني بأنّ انسلاخي منّي، تمّ على أكمل وجه.

الآن، تستطيعون أن تموتوا جميعًا، لا أمتنّ لأحدٍ منكم، لا أحزن على أحد، لا أشتاق لأحد، تذكروا دائما أنكم مجرّد وسائل، مطايا توصلني إلى مبتغاي، وكونوا أنتم دائمًا، فالأرض وحدها تليق بكم.

عدد المشاهدات : 1640

 
 

شارك مع أصدقائك

One Comment