الترف بوصفه حلًّا
أشعار الباشا
أفكر في أن الترف مظلوم. نحن المتواضعون البسطاء البؤساء، المتسكعون على رصيف النقد والشكوى، وضرب نفاق العالمين وجدلياتهم التي يخفون وراءها أكاذيبهم اللامنصوصة، في سياسة إبليس.
لقد ظلمنا الترف عندما حصرناه بالطامعين اللاهثين خلف شهوة الجماليات المؤقتة، والقصور المشيدة بالرمل أمام الشاطئ في كارولينا. اضطهدنا الترف، عندما رميناه كحذاء في وجه الظامئين إلى الشهرة وصنع الأمجاد من تأليف الكتب التي لا تشترى ولا تباع ولا تُقرأ ولا يمكن استخدامها لغرض التصوير الفني في موقع انستقرام أكثر من مرتين: عند الشراء، وفي فجر عطلة نهاية أسبوع بجوار كوب القهوة، وبطاقة عليها صورة برج إيفل ويظهر على طرفها من الأسفل بطاقة أخرى عليها اسم فندق في باريس.
أسأنا إلى الترف عندما أخذناه على محمل الجد فقط عندما استخدمه التافهون في صنعة الظهور، وعندما تمادى في تعاطيه الطواغيت، مثل الحكومات العربية التي لم تذق لذة مبادلات أغراضنا الشخصية في بيتنا الصغير المتقشر دهانه من الأطراف. الحكَّام والرؤساء الذين وضعوا أرواح الأبرياء وأموالهم ودمائهم عُملةً لتأصيل الترف في أطراف ملابسهم وكراسيهم وأطراف أصابعهم وأرصدة أموالهم المملوكة للشعب المغلوب على حقه، ونبرات أصواتهم الخشنة. ما فعله كل هؤلاء ليس إمعانًا في الترف.
لقد أخطأنا عندما اعتقدنا أن الترف هو غرض من أغراض السيئين الشخصية، أنه رداء الملك في عزاء أخيه، أو اتحاد أيدي حكَّام العرب وخونة الإسلام والسلام في مسيرة شارلي ابدو، شطحنا في توهم أن الترف هو صمت المسلمين في قتل ضياء وزوجته يُسر على يد متطرف أمريكي، نكِرة الدين والتوجه، لم يبدُ على وجهه سوى مقته للإسلام، وربما للأديان.
إن كل هذه الشرور ليس ترفًا في الخسة وموت المروءة وانسلاخ الآدمية عن روح الإنسان. ليس اكتشافًا القول والتأكيد على أن التطاول ليس ترفًا، أو أن الترف برئ من الجريمة ومفاهيمها العدة. فهناك مجرمون في حق أنفسهم، وهناك مجرمون سلبونا العالَم وأنفسنا، وما صراع العالمين من المساكين وأغنياء أرغفة الخبز اليوم، سوى محاولة استخلاص إجابة من المجرمين على سؤال: لمَ؟
الاكتشاف هو أن الترف مخلوق وديع ومؤلم. كصفعة على ظهر كف، لا كرصاصة في منتصف رأس. هذا الفرق بين الألم الوديع والألم القاتل. لا يُمكن نسيان الأول إن كان بفعل فاعل، أما الثاني فعندما يقع لا يفسح وقتًا للتفكير في تجاهله أو الاحتفاظ به للانتقام في الوقت المناسب.
في الطب درسنا نظرية تقول أن اكتشاف شيء لا يكون صحيحًا عند آخر إلا إن كان هو من اكتشفه. أي أنك تقع دومًا في حيرة تصديق و تكذيب اكتشافٍ ما، لا أحد يمكنه الجزم أن هذا الاكتشاف صحيح إلا من اكتشفه. أنا لا يمكنني أن أصدق اكتشافك تمامًا حتى إن كنت بارعًا في شرحه وإثباته. ربما أوقن به. الإيمان ليس شرطًا لليقين بالضرورة. لكن عندما أجرب شيئًا ما، وأكتشف عنه شيئًا مصادفة، سأجزم به، سأؤمن وأوقن وأصدِّق أن ما انبثق أمامي هو ذا، لأنني أحسسته وتألمت منه، في حالٍ أخرى أحسسته و سعدت به. في الموقفين، كان مثل قرار اتخذته دون حدوث مشكلة. دون أن يضطرني الأمر إلى اتخاذه. إنه ترف أن تتخذ قرارًا بحرية دون ضغط أو احتياج.
العزلة. لك أن تسمها وحدة. لم أعد أكترث بالدقة في التسميات لأن المضمون دومًا لا يلتزم بحدودها. هل اكتشفت مثلي من قبل أن العزلة هي الترف في أكثر مفاهيمه وداعةً و ألمًا؟ لا أحد يستطيع الوصول إليك لإيذائك في العزلة. وأنتَ وحيد تكون في الأيام الأولى متضورًا من الوحشة إلى صوت يؤنسك. إلى صديق تتناول معه الطعام، وتغتاب عدوكما اللدود، ما بين اللقمة و اللقمة. تنفجر بكاءً و أنت تمشي في طريق طويل دون رفيق يقوِّي اتجاهاتك، أو يصحح مساراتك عند الضلال.
يصبح لديك كل الوقت لتنام، لكنك فجأة، دون أن تكون منشغلاً بشيء، تصاب بأرق يقسم بأسماء الله الحسنى ألاَّ يزول. تفكر و يصبح انشغالك عن النوم هو إيجاد سبب الأرق لتدرك أخيرًا، أنه خلو الجو من حبيب يدعو لك بأن تصبح على خير، ويوصيك على نفسك كما يفعل الوالدان مع الأبناء.
السلام هو سمة عزلتك الأعم. كما أقول بيني وبيني كل مساء بعد قراءة الأذكار: لا أؤذي ولا أؤذى. التلفاز مغلق، لا إنترنت، ولا شبكات تواصل ولا جرس باب قيد التشغيل. جُبنٌ محمود: لا تعرف شيئًا عن آخر احصائيات القتلى في سوريا ومصر. ولا عن آخر تطورات عَته الحوثيين في اليمن وعلى الحدود. لا تشاهد صورًا دامية لأطفال ازرقّت وجوههم من البرد و الجوع و المرض في مخيمات عرسال والزعتري واليرموك. لا تستمع إلى خطابات وزيارات وتسجيلات لحاكم عسكري متفوّق في اللصوصية والانتهازية وإزهاق النفس التي حرم الله، تضحكك تحركاته وكلماته فتوجع قلبك المتورم استياءً حتى يكاد يتوقف ندمًا على بلية عجزت عن الإنكار إلا بالضحك.
تتفرغ تمامًا للنوم، ثم لا تنام. هذا هو الترف الوديع. سيلومك الآخرون ويبدأون بتجربة أثواب الاتهامات التي لم يفكروا عندما كنت بينهم في وضعها على فراشك، كي يغريك لونها بعد نهاية يوم ثقيل. سينعتونك بالمنافق لأنك لم تستمر في نضالك الذي لم يغيِّر من حال قضايا الضحايا، ولم يحرر أسيرًا، ولم يشعل جذوة أمل في نفس جائعٍ استسلم على طرف خيمته المهترئة، إذ أن شعاراتك القومية الغبية لم تعد تهمه مثل أهمية أن تدفأ يده برغيف خبز طازج، وما يبدو حلمًا بعيد المنال في يومٍ خلا من ذوي المروءة و أصحاب اليمين.
ستبكي كثيرًا بعد ذلك اللوم القارع، وتشعر أن كل هؤلاء الذين كنت تحمل همهم تضاربت مصالحهم مع مصالحك. ستفزع من فكرة أنك تحولت إلى خسيس دون أن تشعر، دون أن تقصد. دون أن يكون لك أي ذنب سوى احتياجك كآدميٍ على هذه الكروية إلى راحة تجلبها إلى نفسك، لا تنتظر أن يدللك أحدهم فيجلبها إليك على طبق من ترف.
ستدرك أن مجرد التفكير في الراحة، أو حق الراحة المشروع، هو ترف بملامح جريمة. خيانة كان سيكون وقعها أقل سخرية إن جاءت من اسرائيليٍ أو أحد عائلة الشيطان الحاكم. إنك لست حاكمًا لشيء سوى نفسك، ولا صاحب صوت ينفذ بلا جدل، سوى صوت صراعك ما بين الواجب والفرض.
ربما بانزياحك إلى عزلة عن هذا العالم الموبوء، وقعت في خيانة مثيرة للشفقة، لكنك بعد العودة إلى الجموع، وعدم انتباه الغاضبين إليك -عكس توقعاتك- تعود رويدًا رويدًا إلى مكانك في الظل، وترنو إلى جمود أنفاس لاهثة، تليها أيام بدأت بالابتعاد عن تلك الأولى، وتجلو عن رأسك غمامة الآخرين، فتشعر بلذة الترف الذي آلمك طويلاً بلا جدوى.
يبدأ السلام بالكشف عن نفسه. تصفو. صفاء الروح في العزلة ليس كصفاء الروح و هي ممتزجة بالآخرين، إذ لا تشعر بها بل تعرفها فقط من خلال مدائحهم. تبدأ في تدوين شذرات تكتشفها كل يوم وأنت وحيد إلا من أفكارك التي تدور كخلية نحل في رأسك، لقد ولَّى الشعور بهذه الأفكار كمعول تدمير. تدوِّن مثلاً اكتشافك أن الحياة لم تمنحك ما تستحق. تعرف أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، لكن الحياة حملتك أوزار الآخرين بأنانية، وسلبت منك مشروعية تلك الأنانية نفسها، عندما أصبح الأمر يخص فرط التعب من التواجد في صالة بورصة الشر.
سوف تتذكر أكثر أشخاص أحببتهم في حياتك، ووعدك أحدهم أو بعضهم أن لا يتركك وحيدًا، لكنه في اللحظة التي صدَّقت فيها وعوده اختفى. ستدوِّن أن أفضل شخص في حياتك هو هذا الذي انسحب منها كشَعرة مسحوبة من عجين، إذ أنه عرف أن البقاء وحيدًا هو الذكاء الذي لا يتحلى به إلا من يستحق الترف المتلألئ منه. قد تعرف بعد ذلك أنه غادرك احتفاظًا بشخص آخر فضَّله عليك. ستقول لنفسك لا بأس، إن كان يستحق شخصًا أدنى منّي، فقد ذهب إلى ما يستحق. وهنا تأخذ أنت دورك في مصفوفة الذكاء. لا يقع فوقك سوى سلاماً نشدته فوجدته، ولا ينتظر تحتك سوى الصامدون أمام التغيير وهماً بأن هذا هو بيان التضحية من أجل بؤساء العالم و أطفاله المنكوبين.
الأيام الناضجة جداً للعزلة، هي التي تنام فيها قرير العين وعبارة ملصقة على رأس فراشك تقول أن الترف قطّ وديع، يتألم دون أن يؤلم من يخاصمه، دون انتباه لألمه. لم يعد يهم ما يظنه الجاهلون من الأصدقاء و المحبين. المهم أنك لم تجهل نفسك. تعرف أنك لست جبانًا بانسحابك و خلوتك، إذ أنك تقرأ. والقراءة ارتباط كعروة وثقى بالنُبل. كمية النبل اللازمة لبقائها صفةً في المرء الذي لا يشارك فعليًا في حل قضايا المظلومين.
في اليوم الذي تخرج إلى الصيدلية مضطرًا لشراء علبة جديدة من مسكن القلق والاكتئاب، يصادفك أول شخص أحببته وبادلك الحب بعهدٍ على عدم الفراق، ثم كان هو أسرع من غادرك. تشعر أنك في مشكلة، وكأنك تقابل إنسيًا لأول مرة. تتوهم أنك تتعرق، لكن لا شيء. تسبقك ابتسامة في وجه الحبيب الجبان، فيبادلك الابتسام بغباء ويغادر بقرطاس دواءه سريعًا، و كأنه يهرب من صاحب فضل لم يسدد له ديْنه. لا تفعل شيئاً إزاء هذا الاكتشاف الجديد، السريع كبرق. المشاكل أصبحت تحل نفسها بنفسها. بركات الوحدة؟ أم وفقاً للحياة، براءة الترف بعد الدفاع عن نفسه في محكمة ذاتية عنوانها أنا وأنا و فوقنا الله؟
لقد عشتُ في دوائر ما بين الوحدة والعزلة، إذ أنني في العزلة ابتعدت عن الناس بينما في الوحدة كنت أستقبل من رق قلبي إليهم فيغادرون قبل الاستماع إلى صوتي، وأنا أرحب بهم. شعرت بالسلام الذي تبثه راحة النفس من كل مسبب للعلة. وحينذاك شعرت بالترف يغزو روحي فيعلو بها إلى مطار توقفت فيه عن النزاع مع عقلي حول ما إذا كنت أفعل الصواب أم اقترف خطأً لا يُصحَّح.
كل كتاب قرأته في العزلة كان صلاةً، أدعو في نهايتها للمظلومين والمتجمدين، وأخرج إثر ذلك إلى فعل شيء يؤازرهم وعلى رأسي قبعة قطنية، تفسح لي طريقًا بين الجموع، لأعبُر كغريبة وحيدة بين الذين يعرفونني وأعرفهم، وأتمتم آخرًا بنبرة كالغناء: تعوَّدنا.
عدد المشاهدات : 1162
شارك مع أصدقائك
Comments are closed.