إيزابيل الليندي عن إدواردو غاليانو
مدير التحرير
قبل عدة سنوات، عندما كنت صغيرة السن، وعندما كنت ما زلت أعتقد أن العالم يمكن أن يتشكل وفقا لأفضل رغباتنا وآمالنا، أعطاني أحدهم كتابًا ذو غلاف أصفر، التهمته خلال يومين مع رغبة جامحة بأن أعيد قراءته ثانية بضعة مرات، لكي استوعب جميع معانيه. كان ذلك الكتاب بعنوان: “الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية”، من تأليف إدواردو غاليانو.
في بدايات سبعينيات القرن العشرين، كانت شيلي جزيرة صغيرة في بحر عاصف أغرق التاريخ فيه أمريكا اللاتينية، تلك القارة التي تظهر في الخارطة على شكل قلب رجل مريض. كنا آنذاك في أيام حكم الرئيس الاشتراكي سلفادور الليندي، وهو أول ماركسي على الاطلاق يصبح رئيسًا في انتخابات ديمقراطية، وكان سلفادور الليندي هو ذلك الرجل الذي كان لديه حلم تحقيق المساواة والحرية وكان مندفعا لجعل هذا الحلم حقيقة. ورغم هذا فإن ذلك الكتاب ذو الغلاف الأصفر، أثبت أنه ليس هناك جزرًا آمنة في منطقتنا، فنحن جميعًا تشاركنا في 500 عام من الاستغلال والاستعمار، وكان يربطنا جميعا مصير مشترك، وكنا جميعا ننتمي إلى نفس العرق من المظلومين.
إذا كنت قد تمكنت من قراءة ما بين السطور، فيمكنني أن استنتج أن حكومة سلفادور الليندي كان محكومًا عليها بالفشل منذ البداية. كان ذلك زمن الحرب الباردة، وكانت الولايات المتحدة مصممة على عدم السماح لنجاح أي تجربة يسارية في المنطقة التي كان هنري كيسنجر يدعوها بـ”حديقتهم الخلفية”. كانت الثورة الكوبية كافية، ولن يتم التسامح مع اي مشروع اشتراكي آخر، حتى لو كان نتيجة لانتخابات ديمقراطية.
في 11 ايلول 1973، حدث انقلاب عسكري في تشيلي، أنهى قرنًا من التقاليد الديمقراطية في تشيلي، وبدأ عهد طويل من حكم الجنرال أوغستو بينوشيه. وتبع ذلك حدوث انقلابات مماثلة في بلدان أخرى، وسرعان ما أصبح نصف سكان القارة يعيشون في ظل أنظمة ترعبهم. كانت هذه الاستراتيجية قد رُسمت في واشنطن وفرضتها على شعوب اميركا اللاتينية قوى اليمين الاقتصادية والسياسية.
في كل حالة من الحالات كان أفراد الجيش يتصرفون مثل مرتزقة للمجموعات المهيمنة على السلطة. كان القمع يمارس على نطاق واسع. وأصبح التعذيب ومعسكرات الاعتقال، والرقابة، والسجن دون محاكمة، وصدور أحكام الإعدام بعد محاكمات سريعة من الممارسات الشائعة. اختفى الآلاف من الناس الجماهير، وهرب العشرات من المنفيين واللاجئين من بلدانهم حفاظًا على حياتهم. أضيفت جروح جديدة إلى الندبات القديمة والحديثة التي كانت القارة قد تحملتها من قبل. في خضم هذا الجو السياسي، صدر كتاب الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية. جعل هذا الكتاب من إدواردو غاليانو بين عشية وضحاها إنسانا مشهورا، على الرغم من أنه كان من قبل صحافيًا سياسيًا معروفًا في بلده الأوروغواي.
ومثل جميع مواطنيه، أراد إدواردو أن يكون لاعب كرة قدم. وأراد أيضًا أن يكون قديسًا، ولكن كما اتضح فيما بعد، فقد انتهى به المطاف إلى ارتكاب معظم الخطايا المميتة، وكما اعترف هو ذات مرة: “لم يسبق لي أن قتلت شخصًا، هذا صحيح، ولكن كان ذلك بسبب أنني كنت افتقر إلى الشجاعة أو الوقت، وليس لكوني افتقر إلى الرغبة”، وقال إنه عمل في المجلة السياسية الأسبوعية مارتا، وعلى مدى ثمانية وعشرين عامًا أصبح رئيس تحرير صحيفة ايبوكا وهي من الصحف المهمة في الاوروغواي.
كتب مؤلفه الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية في ثلاثة أشهر، في الأيام التسعين الأخيرة من عام 1970، بينما كان يعمل خلال النهار في الجامعة، وتحرير الكتب والمجلات، والنشرات الإخبارية. يقول غاليانو في كتابه: “كانت تلك من الأوقات العصيبة في أوروغواي. كانت الطائرات والسفن مليئة بالشباب الذين كانوا يهربون من الفقر والرداءة في بلد أجبرهم على أن يكونوا طاعنين في السن وهم لم يكملوا العشرين من العمر، وكان ينتج من العنف أكثر مما ينتج من اللحوم أو الصوف. وبعد الكسوف الذي استمر قرنًا من الزمان، غزا الجيش المشهد بحجة محاربة العصابات. فقضى على فضاءات الحرية والتهم السلطة المدنية، والتي كانت أقل ما يقال عنها أنها مدنية”.
بحلول منتصف عام 1973، حدث انقلاب عسكري، وتم اعتقال غاليانو، وبعد فترة وجيزة غادر بلاده إلى المنفى في الأرجنتين، حيث أصدر مجلة “أزمات”. ولكن بحلول عام 1976 حدث انقلاب عسكري في الأرجنتين كذلك، و بدأت “الحرب القذرة” ضد المثقفين واليساريين والصحفيين والفنانين. فبدأ غاليانو حياة جديدة في منفى آخر، وكان هذه المرة في إسبانيا، مع زوجته هيلينا فياغرا، وفي إسبانيا كتب “أيام وليال من الحب والحرب”، وهو كتاب جميل حول الذاكرة، وبعد وقت قصير بدأ نوعًا من الحوارات مع الروح الأميركية، فكتب “ذكريات من النار”، وهو لوحة جدارية ضخمة عن تاريخ أمريكا اللاتينية منذ عصر ما قبل كولومبوس الى العصور الجليدية الحديثة: “لقد تخيلت أن أميركا كانت امرأة وكانت تقول في أذني أسرارها، وتخبرني عن أعمال الحب والظلم التي خلقت منها أميركا التي نعرفها”. وقد عمل لمدة ثمانية اعوام يكتب بخط يده الأجزاء الثلاثة من هذا الكتاب. “أنا لست مهتمًا بشكل خاص في توفير الوقت؛ أنا أفضّل أن استمتع به”.
وأخيرًا، في عام 1985، بعد اجراء استفتاء هزمت فيه الديكتاتورية العسكرية في أوروغواي، أصبح غاليانو قادرا على العودة إلى بلده. استمرت حياته في المنفى أحد عشر عاما، لكنه لم يتعلم أن يكون في الظل ولم يتعلم الصمت؛ بمجرد أن وطأت قدماه مونتفيديو عاصمة بلاده كان يعمل مرة أخرى لتحصين الديمقراطية الهشة التي حلت محل المجلس العسكري، استمر في تحدي السلطات وعرض حياته للخطر لتنديده بجرائم النظام الدكتاتوري.
نشر إدواردو غاليانو أيضا العديد من الأعمال الروائية والشعرية. وهو مؤلف للعديد من المقالات التي لا حصر لها، ولديه الكثير من المقابلات، والمحاضرات. وحصل على العديد من الجوائز والدرجات الفخرية، تقديرًا لموهبته الأدبية ونشاطه السياسي. وهو واحد من الكتاب الأكثر إثارة للاهتمام الذي انتجتهم أمريكا اللاتينية على الإطلاق، وهي منطقة معروفة بالأسماء الأدبية العظيمة. العمل عنده هو مزيج من التفاصيل الدقيقة والمعتقد السياسي، والتذوق الشعري، ورواية القصص على أحسن ما يكون. وقد جاب أمريكا اللاتينية كلها وهو يستمع إلى أصوات الفقراء والمظلومين، وكذلك استمع الى القادة والمثقفين. وعاش مع الهنود والفلاحين والمتمردين والجنود والفنانين، والخارجين عن القانون. وتحدث إلى الرؤساء والطغاة، إلى الشهداء، والكهنة، والأبطال، وقطاع الطرق، والأمهات اليائسات، والعاهرات المرضى. تعرّض إلى لدغات الثعابين، وعانى من الحمى الاستوائية، وسار في الغابات، ونجا من نوبة قلبية شديدة؛ وعانى من اضطهاد من الأنظمة القمعية وكذلك، من مضايقات الإرهابيين المتعصبين، وعارض الدكتاتوريات العسكرية وكافة أشكال الوحشية والاستغلال، وتعرض الى مخاطر لا يمكن تصورها في طريق دفاعه عن حقوق الإنسان.
لديه المعرفة الهائلة والعميقة بأحوال أمريكا اللاتينية أكثر من أي شخص آخر يمكن أن يخطر على البال، يستخدمها ليخبرنا عن عالم من الأحلام وخيبات الأمل، عن آمال وإخفاقات شعوبها. وهو مغامر يمتلك موهبة الكتابة، وذو قلب رحيم، ويمتلك حسا عاليا ولطيفا من الفكاهة. “نحن نعيش في عالم يعامل الموتى أفضل من الأحياء، ونحن، الأحياء، من يسأل الأسئلة ويقدم الاجوبة، ونحن من لديه العيوب الخطيرة الأخرى التي لا تغتفر من قبل النظام الذي يرى ان الموت، مثل المال، يحسن من حياة الناس”. جميع هذه المواهب كانت بارزة للعيان بالفعل في كتابه الأول، الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية كما تجلت فيه عبقريته في رواية القصص.
أنا أعرف إدواردو غاليانو شخصيًا، فهو يمكن له أن يصرخ بعدد لا نهاية له من القصص من دون أن يبذل جهدًا يذكر، ولفترة غير محددة من الزمن. في أحد المرات حدث وأن تقطعت بنا السبل في فندق على الشاطئ في كوبا ولم تتوفر لنا وسائل نقل ولا أجهزة تكييف الهواء. ولعدة أيام أمتعني غاليانو بقصص مذهلة، هذه الموهبة الخارقة في رواية القصص هي التي جعلت كتاب الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية كتابا من السهل جدا قراءته –كأنه رواية عن القراصنة-، كما وصفه هو ذات مرة حتى بالنسبة لأولئك الذين ليسوا على دراية بشكل خاص بالمواضيع السياسية أو الاقتصادية.
يتدفق الكتاب بسرد تلقائي؛ ومن المستحيل أن يتركه المرء. وحججه، والغضب الكامن فيه، والعاطفة المتقدة في ثناياه، ستتلاشى إذا لم يعبر عنها بهذا الاسلوب الرائع، مع مثل هذا التوقيت البارع والتشويق. كان غاليانو يحارب الاستغلال بشراسة لا هوادة فيها، ولكن هذا الكتاب يحمل وصفًا شاعريا للتضامن بين الناس والقدرات البشرية على البقاء على قيد الحياة، في خضم أسوأ انواع السلب لحقوق الانسان ونهبه واستغلاله. هناك قوة غامضة في طريقة غاليانو في رواية القصص. إنه يستخدم حرفته لغزو خصوصية عقل القارئ، لإقناع القارئ أو القارئة في مواصلة القراءة حتى النهاية، وفي الاستسلام لسحر كتاباته وقوة مثاليته.
في كتابه عن العناق، هناك قصة لإدواردو غاليانو أحببتها كثيرًا. بالنسبة لي كانت استعارة رائعة من الكتابة بشكل عام ومن كتاباته على وجه الخصوص: “كان هناك رجل عجوز يعيش وحيدًا، يقضي معظم وقته في السرير. وكانت تدور شائعات عن أنه كان يخفي كنزًا في منزله. وفي أحد الأيام جاء بعض اللصوص، وفتشوا في كل مكان، ووجدوا خزانة في القبو، فأخذوها معهم، وعندما فتحوها وجدوا أنها كانت مليئة بالرسائل. كانت تلك رسائل حب كانت قد بُعثت إلى الرجل العجوز على مدار سنين حياته الطويلة. وكان اللصوص في طريقهم لحرق تلك الرسائل، لكنهم تجادلوا فيما بينهم وقرروا أخيرا إعادتها. واحدة تلو الأخرى. وكانوا يعيدون رسالة واحدة في الأسبوع. ومنذ ذلك الحين، كان الرجل العجوز وفي ظهيرة كل يوم اثنين ينتظر ظهور ساعي البريد وحالما يراه، يبدأ بالجري وساعي البريد الذي يعرف كل القصة، يحمل الرسالة في يده. وكان يمكن سماع دقات قلب ذلك الرجل العجوز من أمكنة بعيدة، الذي كان مجنونًا من الفرح لتلقيه رسالة من امرأة”.
أليس هذا هو جوهر التلاعب في الأدب؟ تحويل الأحداث من خلال الحقيقة الشعرية، الكتّاب هم مثل أولئك اللصوص، يأخذون شيئًا حقيقيًا، مثل الرسائل، وبخدعة سحرية يقومون بتحويله إلى شيء آخر، جديد تمامًا.
في حكاية غاليانو كانت الرسائل موجودة عند الرجل العجوز في المقام الأول، ولكنها بقيت غير مقروءة وفي ظلام القبو، لقد كانت ميتة. ومن خدعة بسيطة عن طريق إرسالها بالبريد الواحدة تلو الأخرى، فقد قام هؤلاء اللصوص ببعث حياة جديدة في هذه الرسائل وخلق أوهام جديدة عند ذلك الرجل العجوز.
بالنسبة لي هذا هو ما يعجبني في عمل غاليانو: العثور على كنوز مخبأة، وإيقاد النار في أحداث أصبحت بالية، وتنشيط الروح المتعبة بإيقاد نار العاطفة، كتاب الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية هو دعوة لاستكشاف ما وراء ظهور الأشياء. الأعمال الأدبية العظيمة مثل هذا العمل توقظ الوعي، وتجمع الناس معًا، تفسر، وتشرح، وتهمل، وتسجل، وتحرض على التغيير.
وهناك جانب آخر يلهمني عند إدواردو غاليانو. هذا الرجل الذي لديه مثل هذه المعرفة الهائلة والذي -من خلال دراسة القرائن والإشارات– يحمل الإحساس بالتنبؤ، هو إنسان متفائل. في نهاية كتابه قرن من الرياح، وهو الجزء الثالث من كتاب ذاكرة النار، وبعد 600 صفحة تثبت الإبادة الجماعية، والقسوة وسوء المعاملة والاستغلال التي مورست بحق شعوب أميركا اللاتينية، بعد إعادة حساب صبور لكل ما قد سرق وما زال يسرق من القارة الآن، فإنه يكتب ما يلي: “شجرة الحياة تعرف تماما أنه مهما يحدث، فإن الموسيقى الدافئة حولها لن تتوقف أبدًا. مهما كان حجم الموت الكبير الذي قد يأتي، وحجم الدم الكثير الذي قد يتدفق، فإن الموسيقى ستجعل الرجال والنساء يرقصون بقدر ما يتنفسونه من الهواء، وبقدر ما تعطيهم الأرض وتحبهم”. نَفَس الأمل هذا، هو ما يثيرني أكثر في أعمال غاليانو.
ومثل الآلاف من اللاجئين في جميع أنحاء القارة، كان علي أن أغادر بلدي بعد الانقلاب العسكري عام 1973. ولم آخذ الكثير معي: بعض الملابس، وصورًا عائلية، وحقيبة صغيرة فيها حفنة تراب من حديقتي، وكتابين: الأول طبعة قديمة من قصائد كتبها بابلو نيرودا، والثاني كتاب ذو غلاف أصفر، عنوانه “الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية”. وبعد مرور أكثر من عشرين عامًا، لا زلت أحمل نفس الكتاب معي. وهذا هو السبب في أنه لا يمكنني أن أفوت هذه الفرصة، لكتابة هذه المقدمة وأشكر إدواردو غاليانو على الملأ، لحبّه المدهش للحرية، ومساهمته في صقل وعيي، بصفتي كاتبة، وبصفتي مواطنة من أمريكا اللاتينية. وكما قال ذات مرة: “يجدر بنا أن نموت، من أجل تلك الأشياء التي بدونها، لا يجدر بنا أن نعيش”.
عدد المشاهدات : 1375
شارك مع أصدقائك
Comments are closed.