“أميركا” .. ربيع جابر

“أميركا” .. ربيع جابر

فاطمة محمد

“قلبي راح يفقع”، العبارة التي استندت عليها لتقنع خالها والعالم بما أقدمت على فعله، والعبارة التي نقلت “مرتا حداد” ذات التسعة عشر ربيعًا، من قرية بتاتر المعلّقة على أحد سفوح جبل لبنان، لتجد نفسها تقطع محيطًا وجزرًا، وتجرفها المسافات إلى مدينة نيويورك، وتقف وحيدة أمام أكوام من البشر واللغات والسحنات، تحمل كيس “الجنفيص”، وتقبض عليه كما لو أنها تقبض على روحها. وسط ألسن لا تفهم معظم ما تنطقه، كانت تبحث عن “خليل”، ابن عمّها وزوجها الذي انقطعت أخباره عنها.

لم يدر بخلد “مرتا” اليتيمة التي نشأت في بيت خالها وهي تودعه، أن هذه الضمّة ستكون الأخيرة. ولم تعرف أنها وحين وصلت لنيويورك مبتلّة بمياه الأطلسي ودموعها، أنها تعطي الشرق ظهرها للأبد لتبدأ رحلة جديدة غير متوقعة النتائج.

بنت الضيعة التي ما خرجت منها، التي كبرت في حديقة الدار كزهرة بين أشجار اللوز والمشمش والتفّاح، تقضي نهاراتها تحيك القطع المطرّزة، جالسة على طرّاحة مفروشة تحت ظلال الكرمة.

تقطع تذكرة تشق بها أميركا من شرقها إلى غربها، عبر قطار يتلوّى كأفعى، وينفخ دخانًا يملأ صفحة السماء، تقف في المحطات تقصد عربة لتشتري فطيرة “هوت دوغز”، بالكاد تستسيغ طعمها، لكنها الأرخص سعرًا والمتوفرة في كلّ مكان.

تبدأ أحداث الرواية منذ عام ١٩١٣م. تعيش “مرتا” لتعاصر الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما صاحبهما من أوبئة وكساد اقتصادي، وتمر بها سنوات طيّبة بينهما وبعدهما. وتحملها الأيام لنرى الشابة العربيّة “ذات الشعر الأسود والعينين المشروحتين والأنامل التي تقبض على القلب مثل أنامل من حرير”، نراها في أواخر ١٩٧٣م عجوزًا بشعرٍ أبيض وشال بلون شعرها، تحيط به كتفيها الهزيلين. تجلس على كرسي هزّاز بحديقة بيتها في كالفورنيا، يحيط بها الأبناء والأحفاد، تحكي لهم عن رحلات القطار، والحجرات التي نامت فيها، عن “الجزدان” الذي كانت تعبأه بضاعة وتبيعها على الطريق، عن “الحجّة ماري” الاسكندرانية أوّل من أجّرت لها سكنًا حين وصولها، وعن عثورها على الحيّ السوري في قلب نيويورك، عن رائحة الأراجيل التي ملأت سماء ذلك الحي، وأعادتها لبيت الجبل وعائلة خالها، عن “علي” وأوّل لقاء بينهما في حديقة منزل أحد الأصدقاء، وحين حرّك الهواء أوراق الشجر وقلبها، و”لم تنس نفسها وأحزانها فقط، بل نسيت أيضًا أن العالم موجود”.

تصمت وهي ترسم ابتسامة رضا على كلّ ما جرى بعد ذلك. تحمّر وجنات الأحفاد يقهقهون، تصل ضحكاتهم للسماء وهم يعون كل ما جرى، الصور تحكي لهم، وقصاصات الجرائد تحكي لهم، وعينا الجدّة الضاحكتين تحكي لهم.

الرواية لا تحكي عن “مرتا” وحدها، بل عن جيلٍ كامل انتقل من جهة على الأرض لأخرى، من لغة لأخرى، ومن ثقافةٍ لأخرى، ليست مختلفة فقط بل معاكسة تمامًا هربًا من الجوع، أو الحرب، أو التحاقًا ببقيّة الأهل. وكعادة “ربيع جابر” وسرد التفاصيل، التي لا تعني شيئًا وتعني كلّ شيء. لم أستطع عد الشخصيات التي سرد أخبارها وتفاصيل ملامحها، وما حدث لهم ما يحبون وما يكرهون. لكني استمتعت بكل فصل، بكل سطر، بكلّ مكعّب سكر يذيبه أحد الشخصيات في كوب الشاي، قبل أن يبدأ الحكاية وكأنني أسمعها منه.

عدد المشاهدات : 523

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.