الحجّ إلى بيروت

الحجّ إلى بيروت

عبدالعزيز البرتاوي

بحكم الحنين والكتب والشِّعر وفيروز، صار لبيروت محجٌّ سنويّ، أهفو إليه. يزامن منتهى العام، ومطلع معرضها للكتاب، بوصفها فرن خبز النشر الطازج، في العالم العربي. حتى جاءت سَنة/سِنة وقال لي موظف في وزارة الخارجية: “من الأولى أن لا تذهب هذا العام”. وليقول آخر في السنة التي تليها نصًّا: “لا تذهب إطلاقًا”.

أستذكرُ الآن قول الراحل الكبير، أمجد ناصر: ‏”أنا من الأشخاص الذين يعتبرون بيروت، تاريخًا فاصلًا في حياتهم، على أكثرَ من صعيد”. وأتذكر أنه في سماء بيروت، الملبّدةُ الآنَ، بالدخان والأحقاد والحروب والطوائف، كنت التقيتُ نجومًا، لا زال بعضها يهديني درب الضياع الذي أتخبط فيه كل يوم؛ مبعثرًا عثراتي على طرفيه، وخائطًا خطايايَ عبر خطواته.

في بيروت، التقيت مبكرًا: رشا الأمير. أربعون كتابًا؛ بلا مقابل، إلا أن تقرأ. كانت تقول للفتى الغرّ يومذاك، متطلعًا إلى الخارجة من معطف الوزير المثقف، والأدب المرهف، عائلة لقمان سليم، بفصاحة تعرّب سيوران، كأول ناقل إلى العربية، كما لو كان الجاحظ يكتب، في سلسلة أخذ دوره فيها درويش وأنسي والعلايلي ورهطٌ كبير وكثير.

وبِحسّ الإنسان المقهور والمهدور، التقيت بمعيّة عبدالرحمن -الذي لن يقرأ هذا كالعادة- مصطفى حجازي. أعطيته تفاحةً، كانت معي بالحقيبة. مسحها بكفيه، وقضم قضمة وهو يستمع للولد الذي يقول له بفجاجة: إن كتابك: “الشباب الخليجي والمستقبل: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية”، لا يساوي ثمن الحبر الذي كُتب به؛ لكونه مكتوبًا بحسّ رقيب لم يكمل تعليمه الثانوي. يضحك البرفسور الأب قائلا: “الرقيب لا يقرأ أولًا. وثانيًا: لقد منعوه لأنهم رأوه متجاوزًا لحسّ الرقيب الحساس”. وحديث رقراق، رغم كونه عن الهدر والقهر، وسيكلوجيا القمع في بلاد الجموع بلا جمع، وحوار طويل سيأخذ منه وليد -لا يدري أنّي أكتب أصلا- لاحقًا، مادةً لعمل جميل.

ورفقتها؛ ورفقة شعرها المتموّج كبحر الروشة؛ التقيتُ سمير عطالله. اتصلتْ به قائلة: أين موعدنا؟ قال لها منزلي. لكنه آخرًا طلب مطعما باهيًا، يقع على سطح بناية سكنية عتيقة. وجئتُ رفقتها، ورفقة بعض التمر. ماذا يمكن أن تجلب معك من هنا غير التمر؟ برميل نفط؟ لا حقّ لنا فيه. كان السمير، بصحبة زوجته التي لا أذكر اسمها. ثم التحقت بنا ابنته، في سهرة ممتدة، حتى غلبه التعب. كان ولا زال الكبير سمير، ملهمنا الكتابيّ الأول، في عصر صار أقزامه طوالًا أكثر مما يجب لوضاعتهم. وصَغارهم هو ما يتباهى به صِغارهم. -كان أستاذنا الكبير؛ أحد الضحايا المتماسّين مع تفجير بيروت الأخير. ونجى؛ لكننا لم ننجُ-.

وفي يوم من أيام كانون الأول، ببرد لم يشتدّ بعد، خرجت لالتقاء سوزان عليوان. الشاعرة التي جاءتنا على هيئة شمس وكلمات، قبل أن نراها سماء وقصيدة. ذهبتُ بقميص صيفي، أنا الآتي من صحراءَ لاهبة، ورأت ابنة بيروت بعد برهة؛ أي برد أصابني، تخلع معطفها برقة، وتقول: إما أن ترتديه، أو مثلكَ لا أرتديه. وبعنَتِ رفض المكابرة، أمضيتُ الحديث متجمدًا، رغم الحكايات والمدن والقصائد التي كانت تهطل دفئًا، على سماء مقهى “الروضة”.

وبمعيّة صالح -الذي ربما سيقرأ هذه الفقرة وحدها- أمضينا أمسية طويلة، مع واسيني. كان واسيني حكّاء كبيرًا، حديثًا وكتابة. لم تعجبني كتابات واسيني. لكن ثلاث مرات متباعدة، من اللقاء اللطيف، والتواضع الذي لا تكلّف فيه؛ من نخلة سامقة في أعالي مدن الأدب، والتمكّن الأكاديمي، تجبرك على احترام هذه القامة الرائعة. اتصل بأحلام مستغانمي لتلتحق بنا مرةً، لكنها فضلت النوم علينا. بالطبع، أليست هي “أحلام”.

وكأحد أحفاد “جيل الأحلام والإخفاقات” جلست متتلمذًا، طالبًا توقيع النجومية من الكبير: شفيق الغبرا. كان نجم ذاك العام؛ بسيرته الذاتية “حياة غير آمنة”، ولكأنه يعنون حيواتنا الآتية، ويكتب قصة من فصول رواية طويلة اسمها: بيروت.

وسائرًا في طريق الحمراء، صاعدًا إلى ظهر كفّ المدينة، التقيته يسير على مهل، أنهكته السنين، وضعضعته الأيام، بتؤدة سلمت عليه، هو الخارج توًا من حادث أليم، شظّى أيامه وعظامه، وعجز اللئيم عن أن يفكك التئام روحه. قال لي عباس بيضون: من الأخ؟ شاعرٌ أم كاتب؟ فقلت له: لست بشاعر، ولا كاتب. بل ربما قاريء. واستحسن الأستاذ الكبير هذا التعريف، وقال لي: منذ زمن لم التقِ سوى الشعراء والكتّاب.

ثم جاء يوم من أيام بيروت، مددت كفي مصافحًا عبدالباري عطوان؛ بوصفها الكفّ التي صافحت بن لادن. كنت أنهيت كتابيه عن القاعدة -قرأت الأول منهما في حافلة نقل قديمة بين مراكش وطنجة، مما تسبب لي ببعض النظرات المرتابة-. وفيما بعد، قرأته في سيرته الذاتية: “وطن من كلمات: رحلة لاجيء من المخيّم إلى الصفحة الأولى”. وهي ممتعة وعذبة. لكن الأمرَّ في الأمر، أن عطوان، جعل من الكلمات وطنًا فيما بعد. “انتكاس” بلا حدود ولا ملامح. شوَهٌ يعتري طلاقة الوجه السياسي، ويحتّ عن الكلمات التي أحببنا بريقها وانفعالها. واقع يُندّي ويُندّم الفتى الذي تعب حتى وصل إلى “شقة” القدس العربي في لندن، قبل عقد ونصف، يصافح الطاقم الجميل هناك، رفقة  صفحات جريدة، كانت إحدى مُتع السفر حينها، تحصيلها في كشك الجرائد وقراءتها، لظروف المنع هنا.

جاء يوم، وذهبتُ بتقديم من صديقة، إلى أنسي الحاج. في مكتبه الصغير، يراجع مسودة صحفية، قبل الطبع. سألني عن عبدلله القصيمي. عن ماذا أقرأ، وعن كيف أرى الأمور؟ نعم هكذا، الأمور يا فتى، فهذا عصر الهزيمة، وكنت أجيب فقط بكلمة واحدة:  “لن”، وهو يضحك. كان أنسي نبيًا كبيرًا، وهائلًا، بشَعره الطويل وغير المقطوع، لكثيرين على ينابيع الشعر، وبمقالاته بالنسبة لي أكثر. لأغيب عامًا، ثم أعود لألتقيه مرة أخرى، يحكي عن النسخة الفرنسية من رواية “جسد”، وكيف أن جمانة حداد في نسختها العربية جعلتها أكثر “سخونة” من نصها الأصلي، ضاحكًا يقول: “العربية؛ لغة ساخنة؛ يجب أن تقرأها يا فتى”. ثم في ليلة باردة غاب أنسي، تاركًا إيانا نفكر كيف سنفعل في “ماضي الأيام الآتية”.

وفي مساء حالم، رفقة فهد -لم يعد يقرأ بالعربية- أمضينا ليلة مع جهاد الخازن. وتكسرت النصال على النصال. وفيما بعد، كتبَ مقاله لليوم التالي، في مؤخرة جريدة الحياة -الراحلة-، عنّا وعن ليلتنا. أوسعنا ثناءً، وأوسعناه شتمًا. بالطبع كنا نشتمه أمام تعيسي الحظ من أصدقائنا، لم تكن لنا أعمدة صحفية، ولم يكن أحد ليقرأ لنا لو ملكنا يومًا بعضها. كان جهاد يتحدث معنا كرجل دولة، وكنا نرد عليه كأولاد شوارع. كانت أفكاره رسمية جامدة، ولم يكن لنا أية أفكار. ويا لها من ليلة. غادرنا جناح فندقه الفاخر: “انتركونتيننتال فينسيا”، نحو غرف فندقنا الذي لا أذكر اسمه الآن، أو أنه كان بلا اسم.

ويومًا ما، وبمعيّة الأميرة رشا، التقيت فيصل جلول. كان الوقت أوان ثورة كتابه عن “ثورات اليمن”. الرجل الذي تبدّى مترجمًا ليوميات ماكيسيم رودنسون، ومدافعًا عن “معنى أن تكون عربيًا”، ومحاورًا للجابري وحسن حنفي، في “حوار المشرق والمغرب”، والذي يصمت الآن، بينما يلغُ ويلغو الجميع، في قضايا “السلام” -ههه- والتطبيع والخيانات الممتدة من الخليج إلى الخليج.

ورفقة صالح أيضًا -سيقرأ نصف هذه الفقرة- التفينا جورج شامي. في محاضرة عن مسيرته الكتابية والصحفية. ويا إلهي، يا للروعة التي يتحدث بها قديسٌ عن أبلسة نفسه. عن كيف يجللنا بالرصانة وهو يسخر من نفسه، وكيف يُدمع أعيننا وهو يضحك على أيامه. عبرنا معه الباب لاحقًا، مقسمين عليه أن يكتب سيرته الذاتية. قال لنا وهو يضحك: “يا حمقى لقد فعلت. إنها من ١٢٠٠ صفحة، موجودة بالبيت، بانتظار أن أموت”. وحكى الجملة الأخيرة كما لو كان ذاهبًا إلى رحلة مطار، أو موعد غرام. فيما بعد، لم يمت جورج شامي، لكنه أصدر سيرته الذاتية لاحقًا: “رواية طويلة في سيرة عادية” في ١٦٠٠ صفحة. هذا الحكيم الحكّاء قال لنا آخرًا؛ إن غاية أمانيه، أن ينضم إلى شباب الصومال، يقرصن على هذا العالم الرأسمالي القذر بعض نفطه، ويربك حراك أساطيله، الآتية من حرام، والذاهبة إليه.

أيام وليال في بيروت. ولقاءات تعبر ولا تعبر، و”ماضٍ لا يمضي”، مع: سلمى خاتون. عبده وازن. محمد أبي سمرا. محمد علي شمس. عقل العويط. زينب مرعي، فيديل سبيتي. زينب عساف. إنعام كي جي. حازم صاغية، جمال صوان؛ سائق الأجرة العزيز، متسائلا كل مرة: “ماذا سنفعل بكل هذه الكتب؟”، بائع الطاووق الذي كان يحفظ طلبنا من أول مرة، وعامًا بلا عام لا نحتاج أن نقول له: “بلا كبيس”. رياض الريس، الكبير الراحل توًا. فتاة لا أعرف اسمها، رأتني تائهًا، فقالت لي: إن الطريق إلى ما تريد من هذه الجهة، وكنت أعرف أنها مخطئة؛ لكوني عائد من هناك توًّا؛ لكني ذهبت من حيث قالت، ولم أصل. وآخرون، وأخريات.

هاهي بيروت اليوم، تتعفّر نواصيها في ركام التفجير، بعد أن عفرته سنينًا في رغام التحقير. لا يعرف الناس من يشتكون، ولا يعرفون أكثر إلى من يشتكون. لقد تناهب بيروت الأقارب العقارب، والأباعد الأجاحد، ولم يعد من أحد يشفق عليها في الزمان المرّ سوى فيروز، في الأغاني وحسب.

لم تعد الشوارع هي الشوارع. لم تعد بيروت بيروت. صار وميض ولاعة ليلا، مظنة خوف كبير. صار “راسل بيترز” يُضحك أهالي لوس انجلوس، وهو يقول: إذا أردتم أفضل حفل ليلي، فاذهبوا إلى بيروت، هناك، حيث يحتفل الجميع، بكونها آخر لليلة في العالم، وكأنها لن تصبح أبدًا، ولن تشرق الشمس من جديد. ويضحك الجميع، وأدمع وحيدًا.

تطل فيروز، خارجة من عزلتها، كقمر من خلف غمام كثيف. تمدّ النجمة يدها، تصافح كفّ فتى الاستعمار الأنجس. تحتضنه بعدها، ماجدة. تدوس معالم الاحتراز والوقاية الصحية وخوف الوباء في أول حضن، أليست هي من أطربتنا ثلاثين عامًا، تبحث عن صديق، يمشي معها تحت المطر، ووقت الخطر أيضًا.

حريقٌ، تلو حريق. “حرائق”. لكأن دينيس فيلنوف كان يدري عن نكبات حلّت، وأخرى ستحلّ بعد عقد من الزمان، فجاء يصورها مسبقًا، في بلاد حروبها هي الأصل، وسلامها هو الاستثناء. 

وعودًا على بدء، ولكون بيروت تاريخًا فاصلًا في جغرافية أيامنا، فهذا آتٍ في باب التتلمذ على نواصيها، وتقبيل ناصيتها، والحنين إلى مرابعها. واعترافًا منّا نحن البعيدين عنها مادةً، القريبين روحًا، بمدى أستاذيّتها في وجداننا، وعملقتها أمام قزامة واقعنا، وأن ما أصابها أصابنا، وأن أيامنا بلا أيامها ليالٍ، وثوانينا بلا ثوانيها ثنايا تعضّ منّا الروح.

عدد المشاهدات : 1055

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.