المياه بلون الغرق

المياه بلون الغرق

ريم الفضلي

العالم مصيبة كبيرة. كنا مشاهدين اعتياديين لمصيبة إحراق الفتى أبوخضيرة، لمصيبة قتل الأخِ أخاه في داعش، وأن توقد فوانيس رمضان، والمصابيح في الزنازين. حتى تجيء المصيبة الجلل: أن يرحل أبي. كنا الغفلة والارتياح، حتى أقامنا وأقعدنا الرحيل الذي فجيعة، بلا مقدمات ولا تصورات عن الموت واليتم والحسرة. أبي ماتَ يا أفراح العالم.

أفتّش في قلبي عن كلام لم أنطقه بعد، أبحث عن بدايات لم تنسج، مفردات لم تلمس من قبل، لأقولكَ أبي، لأنشج رحيلك، وما يشابه فجيعتي بك، لانكسار ظهري، لاعوجاج لن يستقيم أبدا. لا أعرف كيف أكتب، لك أم عنك، ذلك أني لا أريد أن أصدّق، لا أريد أن أسلّم بموتك، بغرقك. أتحشرج بالحروف، والعبارات المستهلكة في سوق الكلام البشري.

لقد قلتَ لي أشياء كثيرة، إنما لم تخبرني يوما أنك ستموت. أعطيتني الكتب والنصائح والحكايا والنقود، إنما لم تعطني يوما وصفة الوقوف بعد رحيلك. ولقد كنت مفوّها، تسهب موجزا، وتوجز مسهبا، وتركتني خلفك بكماء أتعثر بالكلام، ولقد كنتَ تسألني محين مجيئي، فلما أتيتُ، وجدتُ أنك لم تعطني محين ذهابك. ولقد كنتَ حصنا، كل بنيك معلّقين في كتفك، تركت الآن مجموعة حيارى يتكسرون في المصيبة، يجهشون بالبكاء فجأة. ولقد أرسلت لي شعرا في حبي، فتركتني ضحية لذكرى أب أحبني كما لم أدرك. ولقد كنا أصفارا مدللة عن يمينك، فأمسينا أصفار ضائعة يسار جدثك. ولقد رأوك ممددا جانب حوض لعين، مسجى في مشفى، مكفنا في مغسلة، وأنا لم أرك، وأنا لم أرك سوى الأنيق الذي يقدم فجأة، يصفق الأبواب، وينادي: القهوة. ولقد كنتَ صحيحا، صحيحا جدا، لا تساوم على السلَطة، ولا تضيف السكر، اتقاء لا علاجا، وأنا حذوك، ارتداءً للمرارات القادمة. ولقد كنتَ تقدم كغيمة، في ثناياها اللطائف و”التوفي”، وتذهب كموسم واعد بالأخبار والدروس والربيع. لقد كنت تسافر بحقيبة وأوراق وتاريخ عودة، إنما لم تأخذ أيًّا بسفرك للآخرة، إنك تمعن في التأخر. أشعر أنه في سفر وسيعود -قالت أمي- إنما تأخر في العودة قليلا.

أبكي عليك أبي، أبكي أني لن أجدك ثانية، أنك لم تكن بانتظاري، أنك ما انتظرتني ليلتين، كفاء حضن وحكايتين، شكاية واحدة وثلاث قصص ضاحكة، أبكي أنني قضيت ليلة أبكي وحدي في شقة معتمة، أبكي أنني سرت يوما كاملا لأصل لمدخل بيتنا، لأجد أرملة وأخوات كليمات، ولو رأيت أمي لتمهلت في الرحيل قليلا. أبكي أنني آخر ما التقيتك قبل عام وكنت أبكي، وأنك سألتني إذا كان هناك ما يخيفني، وأنني أقسمت لك أنه ليس سوى وداعكم، قبّلتك وذهبت، وتعاطف معي موظف جوازات. لوحتُ لك، لوحتَ لي، وافترقنا مؤبدا، توقفتَ جانب الطريق وكتبتَ لي على علبة مناديل: “ودعتْ الريميّة وأقفرت ديارها…”، ثم جاءتني رسالة هاتفية لاحقا. أبكي الخيانة، خدعة المواعيد، ليّ ذراعي، رنين الهواتف الفزعة، دارك التي اتشحت سوادا، وكل دربك غرائس البياض. الحياة غير محرضة على الإكمال باتقاد، في غياب تربيتك، مخيفة، في توقف انتباهك لي. نلتقي ونتفرق كما شجرة تلقي بذورها للريح. قلت لي اذهبي، عودي، افعلي، أنا خلفك، ومن سيزود زوادتك بالتربيت، في منتصف المسير، توقفت يداك الدافئتان عن المباركة. سألتك مرة عن سر دفئهما الدائم، أجبتني: الحساسية، ولا أصدق أنه سوى قلبك.

يعرف الله أنني لم أصبر، ولم أعرف ما الصبر تحديدا عند المصيبة الأولى، وأنني أدمت سؤاله: لماذا يا الله. أنني فتحت سبعين صماما لـ”لو”، لتجعل من أبي حيّا الآن، ولم تكن سوى مداخيل شيطان، لم تعط لاختناق أبي نفَسًا واحدا.

لا تهون الأشياء، إنما تتنامى الفجيعة، التفاصيل التفاصيل، لم تعد التفاصيل الصغيرة التي تجلب السعادة كما في قاموس الأدباء الناشئين، غدت لطمات يومية، تذكرنا أنك هنا، وأنك لستَ هنا تماما. أبي يأتي كل مرة مختلفا، ضاجا في تفصيل أحزن وأنكى، كانت الأحزان تصاب بالنعاس في سكون الظهيرة، والضمور وسط جموع زوار المواساة، حتى كانت سيارته المهيبة، الانفنيتي الأبيض، إنما لم يكن أبي بالداخل، كما كان أبدا، حين نذهب سوية صبحا إلى الجامعة، ولم تكن الحوارات التي تبدأ من اقتراح بلديّ لأرصفة الحي، وتمر بقصة للخليفة هارون الرشيد، ثم كمؤرخ يؤلف في ثورات العصور الوسطى، وحروب بيزنطة وبني العباس، و”دراسات في التاريخ والحضارة”، تنتهي النقاشات بأني أحمل أفكارا هوجاء في التغيير السياسي، ولا أفهم في سنن المراحل التاريخية وظروفها. أنصاعُ لعميدي، نتمنى الصباحات الحلوة لبعضنا، وأذهب لكلّيته، ذهب الصديق الفكري الأول.

كان أخي بالسيارة وأحزان، كانت بقية عطور أبي التي لم ينهها بعد، شممتُ أبي. ونحن نعرف أن أبي مرّ من هنا، دون رؤيته. كانت عطور حزينة أصيبت بالشمس والترك، فوق بعضها، لم يجرأ أحد على تناولها، أقسم أخي أنه سيقتني مثل هذا، وأقسمت أنا مثله. أبي الأنيق، أجمل مَن يترك رائحة خلفه. أبي حبي الأول، أبي حبي الآخر، سيجيء الآخرون، سيذهبون، سيبقى الذي يضع يده على النار التي على يساره، ليدفئ وجنتي ابنته التي ترقد على يمينه.

وكنت لا أبكي لسوى نهايات الأفلام الرومانسية، وموت الأبطال في الروايات الملاحم، الآن يحرق المآقي مشهد لولي، تحضر ثياب أبي، تتلمسها بتقديس، تعلقها، تبعد الفساتين والتنانير الزاهية جانبا. كان هناك ما ينبئ عن شجار دام في أعيننا، بسبب تركة ثيابك المنزلية، لولا أنهما اثنان، يأتيان بتساوٍ في ذكريات مجالس العصر، واتكاءات ما بعد العشاء.

الحياة لم تعد سوى خدعة، خدعة كبيرة مُمضّة، لا ثقة بالساعات، لا إيمان بالتقاويم ومواعيد التذاكر. تأسّف الموظف، قال لي لا حجز أقرب من حجزك، وكان حجزي أن أصل لسرادق عزاء، ومبيت لليلة ثانية لك بالبقيع. الحياة نكبة الآن، بنصف “والدَين”، وغيابك جعل من صدري بئر مظلمة، في ضيعات وأودية تشبه ما أخذتنا إليها.

تركتنا لا كبارًا حدّ الاستقلال، لا صغارًا حد الشفقة، انكسارات منتصف العصا، ابتداءات العمر، ما قبل رسوّ الأحلام، وحلول المستقبل، وقرّة العين. أكبر من أن ننسى، وأصغر من أن نتحدث عن وكلاء شرعيين سواك، أضيع من أن نحاسب لمصاريف، وأضلّ من اتخاذ خطوة سواك. فعلت كثيرًا من الأشياء لنا، لم أستطع سوى فعل عمرة لك، بمعونة الأصدقاء الأوفياء، وكانت الدروب صوتك، وكان السعي عدوُك، وكانت الوجهة أوامرك، أن تقول “باب الفتح” مثلا.

المدينة كلها من الأعلى تعني أنت، في مروحية، لتجزم حدود المدينة، أو تتحدث في تفاصيل دروب النبي وصحبه. المدينة أن تتحدث عن سلع، أن تقترح مرفقات لأحد. أن تحذر من إهمال الآثار. ستزول الآثار، لن يكون لها الاعتناء الذي حلمت. كنتَ بالبلد الذي يجب أن تكتب مترجيا، للمسؤولين الذين أقل، تسأل الحفاظ على بواقي الرجال الذين أقدس.

الرجل الذي مدينة، الذي أطلس المدينة الطيبة، أشِر له مكانا، ثم يبحر، يحبّر لك صفحة في التاريخ، واستشهادات المؤرخين القدامى، والزملاء المحدثين، عابرو الصحراء المستشرقين، أمِ الذين اجتهدوا من المباعد. أبي مبارِك اليوم، حامل هم المجتمع، الذي يحقق وثائقا، ثم يتكأ لمراجعة رسالة عليا، يعد لمحاضرة الغد، ثم يكتب مقترحا لشق الخطوط والازدحام. مخطط منازله، فنان زخارف، متعهد الإشجار حتى تحدي الإثمار. ثم في فسحة العمر القصير، كوّن جموعا غفيرة من الأحبة والأصدقاء، تبكيه رثاءً. “كيف وجد وقتا لكل هؤلاء”، قالتِ الخالة. الذي لم يلوِ مساند الأضواء لتلتفت إليه، والتفتت إليه كنتيجة الكدّ المخلص؛ استيقظات الأسحار، وإنهاء الأعمال في الرواحات. الذي يبدأ كاتبا: “لم يرد عن ياقوت”. الذي يُسرق جهده، فيكتب ورقة رفيعة في نقد عمل سارقه. فعل الكثير حيا، وما لم يكفه عُمره، تركه منجزا على مكتبه، ينتظرنا. “الأحدية”، وليمة الفكر والثقافة الكبيرة القديمة بدارك، ستقاضينا غيابك، حين لا يدوي بمكبرات الصوت، صوتك الحلو، مقدما ضيفك المحاضر. مكافح، تيتم مبكرا، ينطلق سَحرا، ماشيا الكيلوات، نحو ابتدائيته، في القرية المجاورة.

يرقد أبي خطوات عن مقابر الصحابة. لعلك الآن تحادثهم، كأفضل من لم تلتق بحياتك، أنك تخبرهم أنك عرفت “الطريق النبوي إلى بدر”، وتتبعت طرق النبي وصحبه ومساجدهم ودورهم وآبارهم. ربما الفيروزأبادي والحموي يقرّان لك الآن.

تذهب أبي، مشكلة الحزن أنه لا يأتي بسكتة قلبية نذهب بعدها بعدك، أننا نظل، نحتاج لأن نأكل، ننام، نتحدث، ونضحك أيتها الرحمة الإلهية. ذهبتَ إلى ربك، في ذهاب لم تتيسر له سواعدنا، ذهبت هكذا، وكلهم فجيعة، أنهم قبل ساعة رؤوك، وأنك السبّاح، الذي تعلمتها طفلا في ماء السماء، وأنك الذي ندعوك غواصة، الذي نذهب من موجك نحو الأطراف، وأنك حامينا، علمتنا كيف نربط سترات النجاة أولا، ثم كيف نستغني عنها ثانيا. لا أحد يعرف كيف، لا أحد يسأل لماذا. أفرع المسبح إلى الأبد، وكانت ساعتك الفضية متروكة جانبا، كما لحظة قررت الدخول، الدقائق من خانك أولا. يقولون أنك شهيد، أنك عائد من تراويح، أن الناس، شهود الله في أرضه، شهدوا لك بالخير، يتفلت مني كل هذا، حين أدخل غرفتك مرارا وتكرارا، ولا أجدك في جانبك، وأني أتصنم في الصالة طويلا، ولا تدخل.

أقلّب صورك، لا أفهم ماهية الغياب الأبدي، صليتُ غرب الحرم، وأنتَ شرقه، لأول افتراق وأقربه، أنا فوق سطح الأرض، وأنت تحته، وأول مرة أعتني بالدعاء لأموات المسلمين، وأنني غضبتُ من الإمام الذي ركع دون أن يذكر قبيلتكم الغائبة أبي. ورغم كل هذا أنا لا أصدّق، أنا لا أصدق انتهاء المزيد منك. رحلتَ وأنا في انهماك حزِم العودة. دُفنتَ وأنا كنتُ في قطار أكتم نفسي، وأخفى تورم عيني عن الغرباء. وأنا لا أصدّق، إنما أشكي تأخرك. كنتُ قريبا لا أذكركَ أمام الذين بلا آباء، قالت لي رفيقة حديثة اليتم أنها الآن تفضل الجلوس مع فاقدي الآباء، وأنا بدأتُ أنتبه لتواجد الآباء بالخارج، ألتفت أكثر للآباء الذي يزين صدغهم بعضا من الشيب، من يشبهك، من له نظرتك. لقد كنتَ كبيرا، تحملُ كثيرا من الناس، نحن أحوج لك اليوم، وكل الغدوات القادمة لا تعد بالبهاء، حين لا تقول: “الفطور بالحوش”، والأعياد القادمة لا تتحضر بالسرور، إذا كنتَ لا تدخل أنيقا أول الصبح ببشتك، حاملا أنسا في مطلعك، وخيرا في أياديك.

شجرة الليمون التي تعهدتها كما ابنة، كبيرة وخصبة، تساقط ليمونا كثيرا وذكراك، ونخلة عجوة، رأيتها مثقلة بالتمر المبارك، ومنظرنا وأنت، بالسلال والعلب، وعتبك أننا أكسل من عملية حصاد يومي.

كنا -كما صديقين- نتشاجر قليلا، كنتَ أحكم، كنتُ أحمق. كانت دواعي المحبة في تصرفاتك، كانت تبارير الاستقلال في دعاويّ. وكان الود، الذي لا يفسده ما كُشف وما أخفيت من قضاياي. أخبرتكَ قصصا عن السائقة الغشيمة، كما أحد سائقيك، مستفزوك بالحوادث. ضحكتَ، وسرني كثيرا، ليس من السهل إضحاك الرجل الجليل عديدا يا صديقي. وانتهى آخر مرة أن يرن فيها تانغو بـ”بابيتا”. وأنك أب، من فصيلة فاخرة، الأب الذي يقول في نهاية المكالمة: “سعد يومي لسماع صوتك، يومك جميل”. بالعبارات نفسها، بلا احتياجات لمنكهات الكتابة، وزخارف النصوص.

“يسعد صباحك يا ريمو”، أعيدها حتى ينزّ الدمع، ويبيضّ الليل من الكمد، مقطع ثانيتين منك لصباح الغربة، معدودة في أتعابي. ولو أنك انتظرتني، لكانت حياتي كلها محاولة لوهب ساعد لك، يعطيك نفسا لحياتك المنذورة لكل خير.

هاكَ صدري، أرعى ما تبقى من أحلامك، هاكَ عمري، أكمل سني كهولتك من شبابي. هاكَ أنا، كلّي، خذني حكاية لما توحّد من لياليك، وخذني مظلة عن الشموس التي تؤذيك، وخذني غيمة ترعى ندى ترابك. هيه بابا، أنا ريم، ريمو، ريما، ريمويه، ريما مكتبي، ريم الفلا، ريمانوف، رْميّة، أنا بكل ما دعوتني، بأقل مما ظننتني، لا تنسني، أناديك، أبحث عنك، أقبّل وسادتك، أسرق غترتك، أُخبّأ خبرا حلوا لك، كلنا بانتظارك، لا توغل في الذهاب كثيرا، إنني لا أصدّقهم. تعال أبي، اسحبْ لحافي للصالة، اقرصني، لن أتذمر، أدخل أصابعك في شعري، واسحبها فجأة، ولتمزح أنك عنيت مشطا، لنضحك سوية، لمرة واحدة، لمرة لا تنتهي، مرة بطول الأفلاك، وتوقد النجوم، أنا هنا، أتوه في مكتبتك، أمام قصاصات بخطك الفتّان، تعال، لمرة واحدة، أقسم أن أقيم لك مأدبة ذكرى في قلبي، لا مأتم عزاء يتحدث فيه الغرباء بسواك. تعال، ليمتدّ جدثك الطاهر فيّ. أيها الرجل العظيم، اتّقدْ، أنقذنا، نحن الذين غرقى دموعنا.

عدد المشاهدات : 7108

 
 

شارك مع أصدقائك

11 Comments