حقيبة الذكريات الأخيرة

حقيبة الذكريات الأخيرة

رحمة الراوي

 

وداعًا أيها البيت، وداعًا أيها الهواء الطازج، وداعًا أيها الطعام اللذيذ، كانت هذه الكلمات تكرّر نفسها في رأسي بينما تسير السيارة خارجة من المدينة، ما الذي أحببته في ذلك البيت؟ الكثير، لكنني بدأت أفقده منذ اللحظة الأولى التي خطت فيها قدمي نحو نهاية الحياة فيه. السيارة تسير بهدوء كأنها تريدني أن أتشرّب الأوقات الأخيرة لي هنا، أن أنظر لكل الأماكن التي مللتها في السنوات الماضية، كرهت بعضها، وشتمت الآخر، والآن، تظهر وفيها شيء من السحر والغموض، كأن النهاية تمنحها هالة خاصة.

بعد أن قفّلت الأبواب كلها، ووقفت أنتظر السيارة التي ستحملني خارج المكان، تأملت الحديقة، كان الخريف يغيّر ألوان كل شيء، وأوراق الأشجار التي عبث بها، تملأ الأرض كلها، شعرت بأنني أرى الحديقة لأول مرة، وصارت لديّ رغبة بأن ألتقط لها صورة، غير أن صوتًا غريبًا في الشارع شتّت انتباه رغبتي، ففتحت الباب وتقدّمت خطوتين، كنّ خمس بقرات يسرن، يجتزن الشارع بتأنٍ ومرح، مستمتعات ربما بلطافة الهواء، خلفهن كان رجل في الخمسينيات يرتدي بنطالا وقميصا فضفاضين وملوّثين ببقع من التراب، سلّمت عليه:

ـ إنها المرة الأولى التي أرى فيها هذا المشهد! أبقار في شارعي.

ابتسم بوقار: لا بدّ وأنك جديدة في هذا المكان إذن.

ـ ليس تماما، عشت هنا أكثر من ثلاث سنوات.

ـ وأنا أمرّ ببقراتي من هذا الشارع منذ عشر سنوات، في الحقيقة، كنّ سبع بقرات، بعت واحدة قبل سنتين، والأخرى هرمت وأراحها الموت، أحيانًا أبيع المواليد الجدد، وفي بعض المرات أفضّل بيع الأمهات، الأمر فيه تفاصيل معقدة. قال جملته الأخيرة وضحك من نفسه على هذا الاستطراد.

ضحكت أنا أيضا، رغم الشرود الذي حلّ عليّ ما إن أخبرني بمدى قِدم حضوره في الشارع، تراجعت إلى الوراء وأغلقت الباب ببطء، بينما علقت عيني على الرجل وبقراته واختفائهم عن نظري. كيف لم أنتبه لمروره اليوميّ؟

كان الهواء يصفع يديّ الخارجتين من نافذة السيارة بعنف، أحبّ هذا الشعور، لم أتذكر التقاط صورة لحديقة البيت قبل أن أغادره، مثلما لم أفعل ذلك مع أي ركن من داخل البيت، أنسى دائمًا التقاط صورة أخيرة لما أمرّ به، ثم أعزّي نفسي بعدها بأن ذاكرتي ستكون حاضرة لتعيدني إلى أي وقت ومكان أريد، غير أنه عزاء مؤسف، إذ شيئًا فشيئًا تبدأ الأشياء بالتحرر مني، وتدخل عالم النسيان الخاص بها.

هناك شيء ما يفلت منا دائمًا، حتى وإن حاولنا استعادته، ما اللوحة التي كنت أعلقها فوق سريري؟ إنني أتذكر بشكل دقيق وجودها، بل حتى تأملي لها، لكنني عبثًا، لم أستطع تذكّر الرسمة التي كانت فيها، شيء ما يفلت دائما، وآخر يظلّ، حتى عندما يكون بلا أهمية، مثل مشهد الحديقة يحطّ على جنباتها الخريف، وخمس بقرات يرعاهن رجل ودود، كيف نسيت اللوحة التي ابتعتها بحبّ وتأملتها باندهاش، وأتذكر مقطعا عابرًا للرجل وبقراته..

هل تفلت الأشياء؟ أم إنها اختيارات الذاكرة لما نحبّ حقًا، ولما نريد تذكّره إلى الأبد؟ السيارة تكمل سيرها، لكنها لم تعد السيارة نفسها، إنها سيارة أخرى، تخرجني من مدينة أخرى، بينما أتأمل بحميمية كل المشاهد التي اختارتها لي الذاكرة مما مضى.

السيارة تعبر المدن والقرى، وأنا لم أتوقف عن نسيان الصورة الأخيرة، غير أن هناك دائما، ذكرى أثيرة، تظل تنتقل من حقيبة لأخرى، تملأ عليّ حياتي، ترتحل معي، ولا تفلتها الذاكرة.

عدد المشاهدات : 981

 
 

شارك مع أصدقائك

One Comment