حول شخصيتي | تينيسي وليامز

حول شخصيتي | تينيسي وليامز

مدير التحرير

ولدت في المسيسيبي، تلك المدينة العتيقة “الأسقفية الكهنوتية” في كولومبوس المعروفة “بالاحترام والإجلال” والتي ـوحسب مقولة كاريكاتورية عنهاـ يجب أن تعيش فيها سنة كاملة قبل أن يقدر أحد جيرانك على أن يبتسم لك في الطريق.
وبما أن جدي الذي سكّنا عنده كان كاهناً أسقفياً، تمّ تقبلنا في المنطقة من دون المرور في فترة التجربة. والدي، الذي كان يحمل اسماً مؤثراً وهو كورنيليوس كوفان ويليامز، كان ينتمي إلى سلالة آل “ويليامز” الذين يعتبرونه من مؤسسي ولاية تينسي من جهة، ومن جهة أخرى كان ينتمي أيضاً إلى أوائل المستعمرين في جزيرة ناتوكيت في إنكلترا الجديدة. أما والدتي فكانت ابنة عادية من الكاكيرز. باختصار، أنا نتيجة خليط يتألف من جانب قدسي ومتحفظ وجانب فروسي جريء، وهذا ما يفسّر الغرائز المتضاربة دائماً في شخصيتي.
صار اسمي في المعمودية توماس لانييه ويليامز. انه اسم جميل، وربما جميل أكثر من اللازم.
وحسب رنين هذا الاسم وقوة وجمالية لفظه، كان يجب ان يكون اسم ابن شاعر كتب مجموعة قصائد تمتدح الربيع. بالمناسبة، أول جائزة أدبية نلتها في حياتي وكانت قيمتها المادية 25 دولاراً، جاءت من قبل مجموعة نساء في نادٍ ثقافي وذلك بعد ان ألفت ثلاث قصائد خاصة بفصل الربيع! ولكن أتوق بقوة لأن أضيف بأنني يومها كنت يافعاً وصغير السن. وبنفس الاسم أيضاً وقّعت مجموعة كتابات شعرية كنت أقلد فيها وبشكل سيئ للغاية شعر إدّنا ميلاي. بعد وقت قصير، فهمت وأدركت أن تلك القصائد لم تكن ذات قيمة أدبية ولكي أبتعد عن ذاك التوقيع الأول، اتخذت اسماً جديداً لي وكان تينيسي ويليامز ولقد اخترته مقتنعاً به على اعتبار ان عائلة آل ويليامز قاتلت بقوة ضد الهنود الحمر من أجل الحصول على ولاية تينيسي، كما أنني اقتنعت أيضاً بأن حياة كاتب ناشئ ستشبه حتماً ذاك الدفاع المستميت الذي سيقوم به من أجل الحفاظ على مكانه وبقوة في مواجهة عصابة متوحشين.
وحين كنت أبلغ حوالى 12 عاماً، توظف والدي في سانت لويس مع انه كان من قبل يعمل في التجارة الحرة لذلك انتقلنا الى ناحية الشمال. وكان تغييراً دراماتيكياً بامتياز! فلا اختي ولا أنا تمكّنا من التأقلم في حياة مدينة في الوسط الغربي للولاية. وكان رفاقنا في المدرسة يسخرون من لهجتنا ومن تصرفاتنا.
أذكر ان عصابات من الأولاد كانت تلحق بنا في كل مرة وصولاً الى منزلنا وهم يصرخون: “دجاجات مبلولة وجبانة!!” في حين لم يكن بيتنا ليشكل ملجأ مهماً لنا. كنت شقة صغيرة ينقصها الضوء في بناية محشورة بين مجموعة بنايات متشابهة بحجاراتها باللون القرميدي والباطون، ولا لون أخضر ولا شجرات من حولها سوى في تلك الحديقة العامة البعيدة.
في الجنوب، لم تكن لدينا أدنى فكرة حول اننا من فئة فقيرة نسبياً وكنّا نعيش أفضل من غيرنا.
ولكن في سانت لويس صرنا نعرف انه هناك الأغنياء والفقراء بين البشر واننا ننتمي الى الفئة الثانية. وحين انتقلنا الى عمق الغرب في المنطقة، وصلنا الى شارع يتميز بعمارات جميلة ومتشابهة تحيط بها الحدائق الجميلة.
ولكن نحن سكنا في شارع تصطف فيها الأبنية البشعة والملعونة والمصبوغة باللون الأصفر الغامق والأحمر الناشف. وربما لو كنت عشت هناك طوال حياتي لما كنتُ تأثرت، ولكن ان يفرض عليّ هذا المكان في مرحلة معينة من طفولتي وشديدة الحساسية، فقد شكل هذا الأمر بالنسبة لي صدمة واستفاقت لدي ثورة صارت فيما بعد جزءاً من كتاباتي. هنا، كانت اليقظة في ضميري الاجتماعي الذي كان في أساس كل ما كتبت. وأنا سعيد لأنني تلقيت هذا الدرس المرّ في طفولتي لأنني اعتقد ان الكاتب لا يمكن ان يعطي في كتاباته ما لم يتعرّض الى تجربة قاسية تجعله يكتشف الظلم في المجتمع. ولكن بقيت الجدلية السياسية والاجتماعية بعيدة كل البعد عني وإذا ما سألني أحدهم ما هي آرائي السياسية أجيبه أنني فقط مناصر للنزعات التي تصب كلها في الإنسانية. تلك كانت الخلفية للوحة حياتي.
ودخلت الجامعة خلال الأزمة الاقتصادية الكبرى وبعد سنتين وجدت نفسي مجبراً على ترك الجامعة بسبب نقص المال، فقبلت بوظيفة في معمل الأحذية الذي كان والدي يعمل فيه.
أمضيت هناك سنتين وكانت تلك الفترة محض عذاب بالنسبة إليّ غير أنها علمتني الكثير لأستفيد منها فيما بعد في كتاباتي، حيث صرت أعرف ماذا يعني ان يكون الإنسان موظفاً بسيطاً ويقوم بعمل روتيني ممل. بدأت الكتابة في صغر واستمررت في الكتابة في تلك المناخات. وكنت حين أعود من عملي في المساء أبدأ بشرب ليترات من القهوة السوداء القوية علها تتركني متيقظاً طوال الليل تقريباً لأكتب قصصاً قصيرة لن أتمكن من بيعها فيما بعد.
شيئاً فشيئاً، بدأت صحتي تتراجع. ذات يوم، وأنا عائد من عملي، فقدت الوعي وتم نقلي الى المستشفى، فأعلن الطبيب استحالة عودتي الى العمل مجدداً.
فما ان قدمت استقالتي حتى تحسّن وضعي الصحي بسرعة فعدت الى الجنوب، الى ممفيس وتحديداً الى منزل جدي وكانت عائلة جدي قد انتقلت الى تلك المدينة منذ ان أحيل جدي على التقاعد من منصبه في الوزارة. هناك بدأت أعمالي تلقى بعض النجاح والشهرة وبدأت أكسب بعض المال ما ساعدني على العودة الى الجامعة واستكمال دراستي للسنتين الأخيرتين في جامعة أيوا حيث نلت الليسانس عام 1938.
بعد ذلك، سافرت كثيراً وعملت في مهن متعددة في دوامات قصيرة. ويصعب عليّ ان أخبر ذلك مع ذكر كل التفاصيل والتواريخ خاصة لأن السنوات العشر الأخيرة من حياتي كانت مثل مشكال يدعو الى الدوار. حتى انني أنا شخصياً لا أصدق كل ما عشته وأعتقد ان هذا لم يحصل ربما لأكثر من خمسة أو عشرة أشخاص.
ولقد حصلت على أول نجاح حقيقي عام 1940 عندما نشرت “معركة الملائكة” ونلت منحة روكفللر، ولقد قدمت المسرحية “معركة الملائكة” على “مسرح غيلد” وكان ذلك في نهاية العام ومع الممثلة ميريام هوبكينز في دور رئيسي.
من ناحية ثانية، ساءت حالتي الصحية وتدهورت بشكل مفاجئ فذهبت الى المستشفى بعد زيارة طبية قصيرة لم تدم أكثر من خمس دقائق. بعد ذلك عملت في نزل كبير ثم انتقلت للعمل كنادلٍ في مطعم في أورليان الجديدة وبعدها في الاستقبال وباب التذاكر في “مسرح ستراند” في برودواي… وكل هذا ولم أكفّ عن الكتابة ليس من أجل الكسب ولا من أجل النشر السريع لكنني كنت أعرف أنها الطريقة الوحيدة التي تجعلني أعبّر عن مشاعري وأفكاري التي من الضروري الإفصاح عنها.
وأنا الذي كنتُ أكسب حوالي 17 دولاراً في الأسبوع في عملي على افتتاح الصالة لعرض الأفلام في السينما، وجدت نفسي فجأة مرسلاً الى هوليوود حيث صرت أكسب حوالى 250 دولاراً أسبوعياً. وطوال الستة أشهر التي قضيتها هناك كتبت “معرض الزجاج” وأظن انه منذ تلك المرحلة صارت الأمور في إطار آخر وكل ما قد أخبره لن يعوزه التبرير.

 

_______________________
ترجمة: كوليت ميرشليان. المستقبل اللبنانية.

عدد المشاهدات : 459

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.