خوسيه إميليو باتشيكو

خوسيه إميليو باتشيكو

مدير التحرير

خوسيه اميليو باتشيكو شاعر لا يضاهيه، إلا أوكتافيو باث، في تاريخ أدب أميركا اللاتينية المعاصر. ولد في مكسيكو سيتي عام 1939 وبدأ النشر وهو تلميذ في العاشرة، وبدل أن يلبي رغبة أبيه المحامي وكاتب العدل، في أن يدرس القانون لكي يؤمن وضعه الاجتماعي ضد ظروف العوز والفقر؛ مصير كل كاتب، اتجه خوسيه نحو دراسة الفقه تجنبا لأي احتمال في أن يصبح حارسا للقانون في الحرب ضد الفقراء”.

ولذا ليس غريبا أن يصرح في كلمته عام 2009 بمناسبة حصوله على جائزة سرفانتس، وهي الجائزة الاسبانية المعادلة لجائزة نوبل في الأدب، بأن معظم الكتاب، سواء أرادوا أم لا، هم “أعضاء في جمعية الشحاذين”، ذلك أن حياة معظمهم مليئة بالإذلال والفشل. فالكتاب لم يُعطوا الاعتراف الذي يستحقونه. وإنه ما من كاتب في كل الأدب الإسباني تم إذلاله وعانى الإخفاق والإهانات أكثر من مؤلف “دون كيشوت”… وتمنى باتشيكو أن توجد جائزة سرفانتس لكي تعطى لميغيل دي سرفانتس نفسه؟ وسبب فقر الكتاب هذا، هو أنه، وفق باتشيكو، منذ أن أنشئ في روما، أيام القيصر أوغسطس، سوق لبيع الكتب، تم تثبيت مكافأة مالية لكل من تورط في عملية النشر، من ناسخي النص، وموفري الورق البردي، والمحررين وبائعي الكتب… إلا واحدا فقط استبعد هو المؤلف، الذي من دونه لما استطاع الآخرون العيش.

ومن حسن طالع باتشيكو أنه عندما صعد المنصة ليلقي كلمة شكر أمام ملك اسبانيا خوان كارلوس، على منحه جائزة سرفانتس لعام 2009، هبط بنطلونه إلى حد الركبة مما سيطر على الحادث دون أن يشعر بالحرج وإنما اكتفى بالقول انه لا يرتدي حمالات.. وهكذا سجل، بطريق الصدفة، نقطة تواضع حقيقي ضد كل الغرور الذي يصاب به الكتاب عندما يتواجدون في أماكن أبهة كهذه.

مارس النقد منذ شبابه، وعمل محررا وكاتبا وناشرا لعدة مجلات ثقافية كمجلة “بلورال” المشهورة. أصدر عام 1963 أوّل مجموعة شعرية عنوانها “عناصر الليل”، ثم تبعها بعدة دواوين وقصص ومقالات… متنقلا وفق حاسته التشكيلية بين كتابة الشعر، المقالات، الترجمة والسرد النثري. لكن الشعر هو نشاطه الأكثر غنى. حافظ على استقلاله وعدم الانتماء إلى أي مجموعة أو حركة أدبية: “ليكتب الآخرون القصيدة الكبرى والأعمال الداويّة… فإن الشعر الذي أبحث عنه هو يوميات حيث لا يوجد فيها لا مشروع ولا مقياس”. وبعض قصائده تجرد الشعراء من هالاتهم المصطنعة: “هذا العام كتبت عشرَ قصائد/ عشرة أشكال مختلفة للإخفاق”… وغالبا ما تتميز بقصرها الصاعق: “ليست يدُكَ/ وإنما الحبرُ هو الذي يكتب على غير هدى/ بضع الكلمات هذه”. كما تتميز بصوفية دنيوية: “في كل مرة تبدأ فيها بكتابة قصيدة/ إنك تتوحد والموتى/ فإنهم يَرَوْنـَك تكتب/ ويساعدونك”.

لقد ازدرى باتشيكو بصناعة الأدب وبالتعطش إلى الشهرة، فكتب قصائد تكاد تكون أشبه باطروحات أو رسائل جامعية مختصرة، يتناول فيها أوهاما عديدة يعيشها الشعراء. كهذه القصيدة (الرسالة إلى مدير مجلة اسمه جورج بي مور، رافضا إعطاء مقابلة)، يدافع فيها عن نشر قصائد من دون ذكر اسم مؤلفها، فالهدف هو أن نقرأ قصائد لا أسماء شعراء، كما أصبحت الموضة اليوم:

 

..
دفاعا عن مجهوليّة اسم المؤلف
عزيزي جورج، لا اعرف لماذا نكتب.
أحيانا أتساءل: لماذا ننشر
ما قد كتبناه.
أيْ، نحن نلقي
بقنينة في بحر ملآن بأقذار وقناني تحوي رسائل.
ولن نعلم أبدا
إلى مَن وأين سيطرحها المدُّ والجَزر.
على الأرجح
ستستسلم للعواصف والهاوية
ترزح عميقا تحت الرمل، الموت.
غير أنَّ
تكشيرة غريقٍ ليست بلا فائدة.
لأن ذات يوم أحد
قد تتصل بي تلفونيا من ايست بارك في كولورادو.
وتقول: إنك قد قرأت كل ما كان في القنينة
(عبر البحار: لغتيـْنا).
وتريد أن تجري مقابلة معي.
كيف أشرح لك اني لم أعط أيّة مقابلة
وطموحي أن أكون مقروءاً لا “مشهوراً”
وما يهمني هو النص وليس كاتب النص
واني لا أومن بالسيرك الأدبي؟
عندها أتلقى برقية ضخمة
(يا للوقت الذي استغرقَ فيه إرسالـُها).
لا أستطيع الإجابة ولا أستطيع أن أبقى صامتا.
وهذه الأبيات تخطر ببالي. ليست قصيدة.
ولا تصبو إلى ميزة الشعر
(فهي ليست قصديّة).
وسأستخدم، على طريقة القدماء، الشعر
كوسيلة من أجل
(النادرة، الرسالة، المسرح، القصة، وموجز زراعي)
كل ما نقول في النثر اليوم.
وبدءا لا لأجيبك، وإنما لأقول:
ليس لدي ما أضيفه إلى ما في
قصائدي كلها،
وليس لي اهتمام بالتعليق عليها، و
“مكاني في التاريخ” (إذا كان لي مكان) لا يهمّني
(فالانهيار ينتظرنا جميعاً
آجلا أو عاجلاً).
أنا أكتب وهذا كلُّ ما في الأمر. اكتب. أهيّئ نصف
القصيدة.
فالشعر ليس علامة سوداء في صفحة بيضاء.
اسمّي شعرا مكان الالتقاء
مع تجربة الآخرين. فالقارئ، القارئة،
هو الذي سينـْظُم، أو لا، القصيدة التي وضعتُ صيغتـَها الأوليّة.
نحن لا نقرأ الآخرين: وإنما نقرأ أنفسَنا فيهم
يبدو لي كمعجزة
أن شخصا لا أعرفه يستطيع أن يرى نفسَه في مرآتي.
“وإن كان ثمة فضل في هذا”، يقول بيساوا
“فانه يعود إلى الأبيات لا إلى كاتبها”.
وإذا هو مصادفةً شاعرٌ كبير
لترك أربع أو خمس قصائد أثيرة
محاقة بالفشل والمسوّدات.
أما آراؤه الشخصية
فهي فعلا قليلة الأهمية.
غريبٌ عالمنا: كلَّ يوم
يزداد الاهتمامُ بالشعراء؛
وبالقصائد يتناقص.
كفّ الشاعرُ عن أن يكون صوتَ قبيلته
هذا الذي يتكلم نيابةً عن الذين لا يتكلمون.
فقد أصبح مسليا آخر لا غير.
نشواته الخمرية، مضاجعاته، ملفّه الطبي،
تحالفاته أو معاركه مع سائر مهرجي السيرك،
أو مع لاعب العُقلة أو مروّض الفيل،
كل هذا ضَمَن له ازدياد معجبيه
الذين لا رغبة لهم في قراءة القصائد
ما زلت أعتقد
بان الشعر شيء آخر:
شكل من أشكال الحب لا يوجد إلا في الصمت،
في مكان سري بين شخصين،
نادرا ما يعرف واحدُهما الآخر.
ربما قد قرأتَ بأن خوان رامون خيمينيث
كان له قبل خمسين عاما مشروع إصدار مجلة.
أن تسمى “مَجهولُ المُؤلّف”.
وينشر فيها نصوصا، لا أسماء،
وأن تكون معمولة من القصائد وليس من الشعراء.
ومثل المعلم الاسباني، أودّ
أن يكون الشعر مُغـْفل الاسم مثلما هو جماعي
(وهكذا هي أشعاري وترجماتي).
ربما ستقول أنا على حق.
قد قرأتني وأنت لا تعرف اسمي.
سوف لن يرى واحدنا الآخر، لكننا أصدقاء.
وإذا أحببتَ قصائدي فيا تُرى
مَن تهمه إذا كنتُ أنا كاتبَها، أو شخصٌ آخرُ، أو لا احدَ
في الحقيقة إنّ القصائدَ التي قرأتَها هي قصائدُكَ
إنك أنت، مؤلـّفها، الذي يبتدعها عند قراءتها.

______________________________________________________________
* فصل مستلّ من كتاب عبدالقادر الجنابي: “انطلوجيا بيانيّة”. توفي خوسيه ايميليو باتشيكو قبل أمس الأحد: 26 يناير 2014، بمكسيكو سيتي عن 75 عامًا، إثر سقوطه على رأسه في البيت.

عدد المشاهدات : 931

 

Tags: , , ,

 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.