رحلة إلى فلسطين

رحلة إلى فلسطين

مدير التحرير

“ظهرت يافا، داكنةً بجانب الرمال البيضاء أمامها، وعلى يسارها ظهرت المدينة اليهودية الجديدة؛ “تل أبيب”. رمال، حدائق، نساءٌ عربيات ذلِقات اللسان، أشجار تينٍ بريّ، قطوف تمر، أرصفة، أسوار، أبوابٌ حصينة، جلابيات بيضاء، شالاتٌ حمر وخضر، رائحة التوابل الشرقيّة، فواكه منثورة، صيحاتٌ هائجة.
وفي القدس، كان المسيحيون العرب، غائمو العيون، المنفعلون، الذين يطلقون الصيحات، يرتدون الطرابيش والجلابيب الملوّنة، ويتسلقون السطوح القرميدية، والأمهات يكشفن عن صدورهنّ، أمام هذه الجموع الغفيرة، ليقمن بإرضاع أطفالهن.
كانت رائحة العرق البشريّ تملأ الجوّ.. كانت الأنفاس تتردّد واحدًا بعد الآخر، وكانت الروائح المختلطة تهبّ عليّ، بعضها يحمل رائحة الخمر والثوم، وبعضها يحمل رائحة الشموع المحترقة، البخور، واللبان.  وبين لحظة وأخرى كان يداعب أنفي شذا رائحة زهور الربيع السماويّة؛ فقد جاءت إحدى الفلاّحات وهي تحمل باقة من الزهر، ووضعتها على القبر. وكنتُ أحاول المرور بسرعةٍ خلال هذا الحشد البشريّ الحائر، وأنا مفتونٌ بسحر الألوان، والعطور، وضجيج أولئك الأناضوليين القذرين الرائعين.
وفي بيتِ لحم، تقدّمت نسوة بيت لحم، وهنّ يرتدين عصابات الرؤوس المخروطيّة الطويلة، وشالاتهنّ البيضاء الناصعة، ورمَيْن بأنفسهنّ داخل هذه الأمواج المختلطة ألوانها، في تناغمٍ مُنعِش وعنيف، يشبه احتفالات عودة القوّات المحاربة… أخذت الأذرع السمراء تضرب بعنف، وأخذت الأساور التي تزيّن معاصم النساء تصطخب، ولمعت أظافر النسوة المطلية بالحناء كقطراتٍ من الدم.
صحراء البحر الميت: لقد اكتوت عيناي وأنا أنظر إلى تلك الصحراء المتبخّرة من القدس حتى نهر الأردن، والبحر الميت. لم أرَ زهرةً واحدةً تنمو، ولا قطرة ماءٍ تتصاعد من تلك الأرض الجافّة، كانت الجبال موحشةً صارمةً وصعبة المنال؛ كانت نموذجًا رائعًا للفنان الذي يعشق الجمال المتقشّف التراجيديّ في هذا العالم، ونموذجًا رائعًا للخصب الذي يتوالد داخل الأنبياء الذين يريدون العيش داخل عزلتهم، لكنّه للناس العاديين، الذين يريدون أن يبنوا بيوتًا، ويزرعوا أشجارًا، وينجبوا أطفالاً، فإن هذه البريّة الموحشة القاسية لا تُحتمل أبدًا.
وفجأة، ترى أريحا تبتسم لك، كواحةٍ معزولة، وتجد نفسك أمام بساتين الرمّان، وأشجار الموز، التين، والتوت، وكلّها محاطةٌ بسياجٍ من أشجار النخيل الطويلة الرشيقة، فترتاح عيناك، ولكنّ هذه الواحة سرعان ما تختفي وتبتلعها الرمال! وفي حيفا، ترى بساتين الرمّان المزهرة والمتجددة، وبساتين أشجار البرتقال والليمون، وفي الجنوب، في مدينة إبراهيم الخليل القديمة، تحسّ بألفة وطمأنينة الأرض وهي تستقبل محراث الإنسان.
وفي السامرة والجليل، تبدو الجبال أكثر ودًّا وأُلفةً في مظهرها العام، حيث ترى الطيور والمياه والأشجار، تعطي للطبيعة أُنسها وألفتها. 
لقد اجتمع اليهود في هذا المكان الذي جاؤوا إليه من جهات الأرض الأربع، ليغرقوا جميعًا في هذا الطقس البكائيّ الغريب، جاؤوا من غاليسيا، بسترهم الطويلة، وشعورهم التي تتهدّل على الصدغ، ومن الجزيرة العربية بجلابيبهم البيضاء، ومن بولندا بشعورهم الحمراء القصيرة، ومن بابل بكلّ جلالهم ومهابتهم، تلك المهابة التي يتصف بها الآباء التوراتيون، وجاؤوا من روسيا، إسبانيا، اليونان، والجزائر. كانوا مبعثرين في كلِّ بقاع الأرض، في غيتوهات اليهود المظلمة، وفي العصور الوسطى، كانت الجدران العالية تفصلهم عن بقيّة المدينة… وكانوا يلبسون لباس الخزيّ، حتى يتمكّن معذِّبوهم من تمييزهم، وفي مخاض حياة العار هذه، وفي حمّى الموت والاستشهاد، كان هذا الحائط يومض أمام عيونهم، كأنّه الملجأ. كان يومض في مدارج روسيا المغطّاة بالثلج، وفي سهول إسبانيا المشّمسة، وكان صهيون يسمو في صرخاتهم وبكائهم.
بعد ثمانية عشر قرنًا، ها هم الآن، ينوحون، ووجوههم تتّجه نحو هذا الحائط. وبعد قرونٍ عديدة، ها هم الآن، يرسلون ممثليهم: الفقراء، والمسنين، الذين سخِرت منهم شعوب الأرض، إلى هذا الحائط، حتى يستطيع “يهوه” أن يرى الهوّة السحيقة التي سقط فيها شعبه المختار، وليدرك أنّه قد حان الوقت كي يتذكّر ويحفظ كلماته، ألم يعدهم بأنه سيورثهم الأرض؟.
فتاةٌ يهودية شابّة، تعمل معلمة، وتدعى “جوديت” كانت في حوالي العشرين من العمر، سألتها: ماذا حصل كي تصبحي صهيونية؟ قالت: كنتُ قلقةً حائرة، فقد كانت أوروبا كلّها تبدو لي قديمة، مألوفة، ومبتذلة، كنتُ متعطشةً لشيءٍ جديد، ولهذا فقد جئتُ إلى فلسطين. قلت: لِمَ لَمْ تذهبي إلى روسيا، يقولون إن عالمًا جديدًا يتشكّل هناك؟ قالت: لأنّه لا توجد حُريّة هناك. مجموعة فظّة قاسية، تحكم الآخرين، كلّ الآخرين. والحقيقة إن مجموعة البروليتاريين هذه لم تكُن تريحني مطلقًا. كنتُ أريد الحُريّة. هنا نعمل بشكلٍ حُرّ، نحاول، نجرّب، ونبحث من أجل إيجاد شيءٍ ما. هنا تستطيع أن تجد شعبًا تعمل معه، طبقًا لمزاجك الشخصيّ، هنا تجد الثوريين المتطرفين في ثوريّتهم، والمحافظين الموغلين في تقليديتهم، هنا تجد الحُريّة. للمرة الأولى أشعر أنني حيّة، قويّة، وقادرة على حبّ الأرض التي لم ألتفت إليها أبدًا وأنا في أوروبا، وقادرة على الإحساس بالغبطة لأنّني أنتمي للجنس اليهوديّ.
قلتُ: لقد بدأتِ بفقد حُريّتك، لقد بدأتِ بتقييد نفسك وشدّها إلى ركنٍ معيّن من الأرض، وبدأتِ بتضييق مساحة قلبك، فبعد أن كان فيه متّسعٌ لكلّ العالم، أصبح الآن يميّز، ويفرّق، ويختار، ولا يتقبّل سوى اليهود، ألا تشعرين بالخطر؟
أنتم لا تريدون التقدّم أكثر من ذلك. إذا كان الهدف من الحياة هو السعادة، أن تأكلوا جيدًا، وتناموا بأمان، وتعيشوا بسلام، فهذا ليس سوى تبريرٍ بأنّكم تريدون أن تهربوا من الاضطهاد. لكن إذا كان الهدف من الحياة، أصعب من ذلك بكثير، وهو أن يناضل المرء من أجل إحداث أقصى ما يستطيع من تغييرٍ في سلوكه وتفكيره، وقيمه الجمالية، وأن يسمو على عذاباته، عندها، وبلا جدال، تكون الحركة الصهيونيّة منافية ومناقضة لمصالح جنسكم اليهوديّ.
كلّ هذه الأشياء التي تطلقون عليها “الشتات”، ألزمت الجنس العبريّ منذ ألفيْ عام، وشكّلته وكوّنته. لقد عانى اليهود وذاقوا الرعب والقتل، وقد ترك هذا صبغته التي لا تُمحى على نفسية اليهود. هذا هو السبب الذي جعل المثقفين الذين يحتلّون المراكز العُليا ويقودون صُنّاع القرار في العالم من اليهود، لأنكّم كنتم مشتتين في بقاع الأرض، وقلقين. هكذا كنتم في ذلك العصر البائد الذي دمّرتموهُ بأيديكم. الشتات هو وطنكم! لا جدوى من هذا الهرب من قدركم، والبحث عن السعادة والأمن، في هذا البلد النائي.
آمل، أن يتمكّن العرب، عاجلاً أم آجلاً من طردكم من هنا، وأن يعيدوا تشتيتكم في هذا العالم. هذه الحركة الصهيونيّة الحديثة، أيضًا ليست سوى قناعٍ يلبسه قدركم المتجهّم ليخدعكم إلى ما لا نهاية، ولهذا السبب فأنا لا أخاف الصهيونيّة؛ كيف يستطيع خمسة عشر مليونًا من اليهود أن يحشروا أنفسهم هنا؟! لن تجدوا الأمن هنا، فخلفكم -وهذا هو الذي لا يجب أن تنسوه أبدًا- جموعٌ من العرب السُّمر الأشدّاء المتحمّسين”.

——————–

من نص كتبه الروائي اليوناني الكبير: كازانتزاكي عن رحلته إلى فلسطين، عام 1926. نُشرت مشاهدات “كازانتزاكي” في الصحف اليونانية في عام 1926، ثمّ أعاد نشرها ضمن كتابه “ترحال” في عام 1927، والذي اشتمل على مشاهداته في كلّ من فلسطين ومصر وإيطاليا وقبرص. نُشرت النسخة العربية من “رحلة إلى فلسطين”، ترجمة منية سمارة ومحمد الظاهر، في عام 1989، عن مؤسسة خلدون للدراسات والنشر (عمّان-الأردن).


عدد المشاهدات : 633

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.