رسائل تشيخوف إلى عائلته

رسائل تشيخوف إلى عائلته

فاطمة محمد

“أنطون تشيخوف”، الأبّ الروحي للقصّة القصيرة كما يطلق عليه البعض. كنتُ قد سمعتُ عنه منذ سنين خلت، لكن لم يسبق لي أن قرأت أي عمل أدبي له. نعم، هو في قائمة المؤلفين الذين أودُّ القراءة لهم، لكن لم تسنح لي الفرصة ولا الوقت، حتى جاء كتابه “رسائل إلى العائلة” هديّةً مع عدد مجلّة الدوحة لشهر نوفمبر. ألقيته في حقيبة الدوام لأقرأه عبورًا، حتى صارت كل رسالة من رسائله، قطعة حلوى دافئة ولذيذة، أقرأها مع  كوب قهوة استراحة منتصف النهار.

الرسائل التي تشبه المذكرات المتقطعة وغير المنتظمة، جعلتني أحبّ “تشيخوف الإنسان” -كما يسمّي نفسه في آخر رسائله- قبل أن أقرأ له أي عمل أدبيّ، وأعرف تشيخوف الأديب. وأعتقد أنني بعد هذا الحُبّ، لن يُعوّل على شهادتي في أعماله. صحيح أنني أحبّ قراءة كُتب السير عمّا دونها من الكتب، ويشدّني كثيرًا الأدب الذي يحكي عن العلاقات العائلية البعيدة منها والقريبة، لكن لم يكن هذان السببان الوحيدان اللذان جعلاني أعلَق بين صفحات الرسائل.

فـ”تشيخوف” الابن، والأخ القريب، والمُحبّ، وكما يقول واصفًا نفسه: “مغرمٌ بالحديث عن أعمامه وعمّاته”، لم تكن عائلته مثاليّة، ولم يكن أفرادها من أفضل ناس المجتمع، ولم يتلقَ من العناية في طفولته والاهتمام ما يدفعه ليقوم بردّ الجميل، بل على العكس. فقد أوصلني لقناعة تامّة ببطلان مقولة “إنّ فاقد الشيء لا يعطيه”. فـ “الشجرة الـ تحرقها الشمس تهبني أجمل ظلّ. فاقد الشيء، يعطيه ونص”.

كانت طفولة “تشيخوف” قاسية، وكان والده يتعامل بإسلوب تربويّ رهيب معه ومع إخوته،كان مستبدًا ويميل للعقاب الجسديّ. بينما لم يعُرف عن تشيخوف سوى الطيبة والدماثة، ورقّة الطبع، حتى في نقده كان ناعمًا لا يجرحُ أحدًا، ومن كلماته يشع دفء العاطفة ونورها.

كان تشيخوف، متعلّقًا بأسرته ومهتمًا لأمرها بشكل ظاهر جدًا، فهو يرسل الرسائل لجميع الأفراد وكلًّا على حدة باستثناء الوالد، فلم تظهر أي رسالة موجهة من أحدهما للآخر. ورغم كثرة سفره وتنقلاته، كان قريبًا منهم، يعرف مجريات الأمور عندهم، ويفكّر في أوضاعهم المعيشيّة “طالما أنا على قيد الحياة، فسيكون وضع عائلتي المالي بأمان”. وكثيرًا ما كان يختم رسائله لأخته بعبارات، مثل: “استمتعوا بوقتكم، لا تقلقوا بشأن النقود، سنحصل على الكثير منها، لا تحاولوا الاقتصاد في النفقات، وتفسدوا عطلتكم الصيفيّة”.. “أقيموا قدّاسًا كبيرًا في السابع عشر من يونيو، كذلك احتفلوا في التاسع والعشرين من يونيو قدر استطاعتكم، سأصاحبكم في فكري، ويجب أن تشربوا نخبًا في صحتي”.

وبالحديث عن أخته، فقد كانت أكثر الرسائل التي وردت في الكتاب موجهة إليها، وتتميّز رسائله إليها عن بقيّة الرسائل بأنه يُظهر لها ما حصل معه بتفاصيل لا يذكرها لغيرها، فعندما يخبرها عن وقوع أمر سيء له يذكّرها ألّا تخبر أمّه بذلك كي لا تقلق، فهي الوحيدة (أعني أخته) التي قد يُعبّر لها عن أمرٍ كهذا: “لستُ مبتهجًا أو ضجرًا لكن هناك خدرٌ يسري بروحي، أرغب في الجلوس دون أن أتحرّك أو أنطق”. وفي رسائله بالعموم تركيز على ذكر ما يحصل معه من أمورٍ جيدة، رغم أنه في البُعد والوحدة وقد يصيبه الملل، أو المرض، لكنه يواريه بالكتمان “أنا حيّ وبخير حال، نقودي بأمان، وكذلك باقي متعلقاتي. فقط فقدتُ جوارب صوفيّة، لكنني وجدتُها سريعًا”.

أمّا رسائله لإخوته الأولاد فلا تقلّ حميمية وعاطفيّة عن التي لأخته أو أمّه، وكم هو مدهش هذا الـ”تشيخوف” الذي لم يمنعه بُعده الجغرافيّ عن أسرته من مشاركته لهم لكلّ مناسباتهم.ومعرفة مواهبهم وما يرغبون في أن يكونوا عليه. فمرّة يبدأ الرسالة بـ “أخي المصوّر غزير الانتاج” ولآخر “أخي الأوربّي” ولأخيه الكاتب ميشا يكتبُ مشجّعًا وداعمًا: “أسلوبك جيّدٌ، ولم أجد في الرسالة أي خطأ إملائي، لكن هناك شيء واحد لم يعجبني، لماذا أطلقت علي نفسك عبارة (أخوك الذي لا قيمة أو أهميّة له)..؟” وفي مشاركته ودعمه لقرارات حياتهم نجد في إحدى رسائله التي هي رد على أخيه “ميخائيل”، والذي يبدو أنه قد حدّثه بشأن رغبته بالزواج، فكانت نصائح “تشيخوف” له في الرسالة: “وبالنسبة للزواج الذي تتوق إليه، ماذا بوسعي أن أقول لك..؟ فأن تتزوّج يعني أن تُحبّ. لأن الزواج من فتاة لأنها جميلة يشبه شراء شيء ما، لا يرغب فيه المرء، فقط لأنه وجده في السوق، ووجد أنّه من صنفٍ جيّد”.

وبالحديث عن الزواج، كان تشيخوف يُحبّ إحدى الممثلات المسرحيات واسمها “أولجا كنيبر”، والتي كانت قد مثلت بعض المسرحيات التي ألّفها، وقد تزوجها فيما بعد لكن لم تُتح لهما الفرصة أن يعيشا في مدينة واحدة، نظرًا لانشغالها بالمسرح في موسكو، وعمله هو في يالطا، وحالته الصحيّة التي كانت تتطلب منه البقاء حيث كان.

وكما حرص على إخفاء أوجاعه عن أسرته كان الأمر معها أيضًا، لكنه سيذكر لها بعد ذلك “عانيتُ صداعًا شديدًا وارتفاعًا في درجة الحرارة قبل مغادرة موسكو، كان الأمرُ خطيرًا وحبّذتُ إخفاءه عنك. أنا الآن بخير حال”. ودائمًا ما يختم رسائله لها بعبارات رقيقة، اعتذار عن مزحة، طلب أن تكتب له، “متي سترسلين لي صورك؟”، ثم “المُخلص لكِ دائمًا”، أو “أُقبّل يدك الصغيرة”.

وفي آخر الكتاب وردت رسالتان من أولجا لـ “تشيخوف”، وهي من الرسائل التي كتبتها له بعد وفاته، تتحدّث عن مشاعرها بطريقة واضحة جدًا، وربّما تكون رسائلها هذه تكفيرًا عن صمتها الطويل معه أثناء حياته، فإلحاحه الظاهر وطلبه المستمر بأن تكتب له جعلني أشكّ في أنها لم تكتب له في حياته إلّا مرّاتٍ معدودة، وربّما كل هذه المرّات كانت تعاني فيها من الاكتئاب وتطلب منه التخفيف عنها بكلماته الرقيقة. جاء تعبيرها متأخرًا، مؤلمًا لها حسب ما أظنّ “لا أستطيع أن أصدّق أنّك لستَ بين الأحياء، أنا في حاجة ماسّة للكتابة إليك”.

وفي تذكّر ما كان بينهما من لحظاتٍ جميلة، “هل تتذكّر كيف كنّا نتجوّل، كنتَ تعتصر يدي بتؤدة، وعندها كنتُ أسألك عمّا إذا كنت بخير حال، ولم تكن تُعلّق بشيء، فقط تؤمي برأسك، وتمنحني ابتسامة على سبيل الإجابة، ورغبة منّي في التعبير عن احترامك، كنتُ أحيانًا أُقبّلُ يدك” … وتُنهي رسالتها “حبيبي الغالي.. أين أنتَ الآن..؟”.

رُبّما لو كنتُ قريبة من هذه المرأة لسألتها: هل كان يجب أن يموت لتشعري كم أحببته، وتعبّري له عن ذلك؟. على كلّ حال يبدو أن “تشيخوف” هذا سيظلّ معي لفترةٍ طويلة، وأفكّر باقتناء عدد من كتبه واكتشافه أكثر، إن كانت رسائله التي يكتبها واقفًا في محطةٍ أو مستلقٍ في باخرة قد أحببتها كثيرًا، فأعتقد أن ما كتبه وهو يودّ الكتابة الأدبية سيكون جميلاً بما يكفي.

وأخيرًا شدّني كثيرًا معرفته بالدين الإسلامي، ويبدو أنه قرأ شيئًا ليس بقليل عن سيرة النبي محمّد صلّى الله عليه وسلم، ففي إحدى رسائله لأخته يحكي لها عن مجيء أحد الضبّاط إليه في العيادة، فوصف لها: “دخل عليّ في حجرتي كما لو كان داخلاً على النبيّ محمّد في مكة ليُعلن إسلامه”.

عدد المشاهدات : 1650

 

Tags: , , , , ,

 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.