شحاذون ومومسات | فالتر بنيامين

شحاذون ومومسات | فالتر بنيامين

مدير التحرير

كنت في طفولتي أسيراً للغرب البرليني القديم والجديد، فأهلي سكنوا هذين الحيين في الماضي في موقف يخلط بين التعنت والاعتزاز، وصنعوا منهما غيتو، اعتبروه إقطاعيتهم.

ظللت حبيس هذه المنطقة الموسرة دون أن أعرف غيرها. وبالنسبة للأطفال الأغنياء في مثل عمري، لم يكن ثمة فقراء إلا في هيئة شحاذين. وكان تقدما معرفياً كبيراً، عندما تجلى الفقر لي لأول مرة متجسداً في هوان العمل بأجر متدن. كان ذلك من خلال نص صغير، ربما يكون أول نص أكتبه بنفسي، وكان عن رجل يوزع منشورات دعائية، وعن الإهانات التي يتلقاها من الجمهور الذي لم يهتم بمنشوراته. وهكذا يتوصل هذا المسكين-كما خلصتُ في النهاية- إلى التخلص سراً من كل منشوراته.

بالطبع لم تكن هذه أفضل تسوية مثمرة للوضع. إلا أنني لم يخطر ببالي آنذاك أي شكل آخر من أشكال التمرد سوى التخريب، وقد نبع هذا من تجربتي الذاتية جداً. وإليها كنت ألجأ عندما كنت أسعى للتملص من قبضة أمي، وخصوصا عند “شراء المؤن” وكنت أفعل ذلك بعناد جامح يدفع بأمي في كثير من الأحيان إلى حافة اليأس. وتحديداً كنت قد تعودت أن أبقى على مسافة نصف خطوة وراءها، وكأنني لا أريد بأي حال من الأحوال تشكيل جبهة، حتى ولو كان ذلك مع أمي.

وقد اكتشفت لاحقاً كم أنا مدين بالعرفان لهذه المقاومة الحالمة في خروجاتنا المشتركة عبر المدينة، عندما فتحت الأخيرة متاهتها للغريزة الجنسية. لكن الغريزة لم تبحث في تلمساتها الأولى، عن الجسد بل عن النفس المنبوذة تماماً، التي كانت أجنحتها تلمع في خمول في ضوء المصباح الغازي، أو تنعس مطوية تحت الفراء الذي تتشرنق فيه. وكنت أشعر بالرضا عن هذه النظرة التي لا يبدو أنها ترى ولا حتى ثلث ما تلتقطه في الحقيقة.

في السابق عندما كانت أمي توبخ عنادي وتلكؤي، كنت أشعر على نحو مكتوم بإمكانية تحالفي مع هذه الشوارع التي لم أكن على الأغلب أعرف طريقي فيها، بحيث أتحرر من سلطة أمي لاحقاً. لا شك بأي حال من الأحوال في أن شعوراً- خادعاً للأسف- برفضها ورفض طبقتها وطبقتي هو الذي أدى لوجود هذا النزوع الذي لا مثيل له لمحادثة مومس في الطريق العام.

استغرق الأمر سنوات حتى تحقق ذلك. والفزع الذي شعرت به أثناء ذلك كان هو الفزع ذاته الذي سيتملكني لو كنت بصدد تشغيل آلة يكفي طرح سؤال وحيد عليها لكي تعمل. وهكذا كنت ألقي بصوتي عبر الفتحة، ويفور الدم في أذني فلا أعود قادراً على التقاط ما يخرج من الفم المصبوغ بكثافة بأحمر الشفاه. هربت لكي أكرر المحاولة الجسورة في الليلة نفسها- كما كان يحدث كثيراً. وعندما كنت أحياناً أتوقف قرب الصبح عند مدخل أحد البيوت، أكون قد وقعت بلا أمل في حبائل أربطة الشارع الإسفلتية، ولم تكن أنظف الأيادي هي التي حررتني منها.

_______________________________
* مقطع من ترجمة أحمد فاروق، لكتاب فالتر بنيامين “طفولة في برلين عند مطلع القرن العشرين”. عن مشروع كلمة.

عدد المشاهدات : 534

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.