عن هنري ميللر

عن هنري ميللر

سارة فهد

كتبتُ كتابًا عن د. هـ. لورانس، دونما منّةٍ، لأنه من أيقظني. أخذت الكتاب إلى ريتشارد فأعدّ عقد النشر، ثم تحدث عن صديقه هنري ميللر. لقد عرض مخطوطتي على هنري، فقال هنري: لم يسبق أن قرأت مثل هذه الحقائق الراسخة معبّرًا عنها بمثل هذه الرقّة. فقال ريتشارد: أودّ أن ندعوه للغداء. قلت نعم. سيكون اللقاء مفعمًا بالرقة، والعنف وسيكون التحدي وجهًا لوجه.

عندما رأيت هنري يسير باتجاه الباب حيث كنت أقف، أغمضت عينيّ للحظة كي أراه بما يدعونه العين الداخلية. كان هنري دافئًا حميمًا، مسترخيًا، مرحًا، وطبيعيًا، ومرّ وسط الحشد كأيّ شخص مجهول. كان ممشوقًا ونحيفًا متوسط الطول وبدا مثل راهب بوذي، راهب له بشرة وردية بصلعته الصغيرة المحاطة بشعر فضيّ لامع، وفمه الشهواني الممتلئ. عيناه الزرقاوان كانتا باردتين ويقظتين، لكن فمه كان عاطفيًا وعرضة للغواية. ضحكته معدية، وصوته لطيف حميم كأصوات الزنوج، كان مختلفًا جدًا ابتداءً بقسوته وعنفه وحيوية كتابته وشخصياته الروائية وهزلياته الرابلية، ومبالغاته وابتسامته الوقحة عند زاويتي عينيه ونبرات صوته الليّنة. هنري رجل يمتلك حياةً ثملةً دونما حاجة للشراب، رجل يعوم في خفّة من ابتداعه الشخصي. كان يتحدث ببطء كأنما يتلذذ بكلماته، إنه يحتلّ اللحظة الراهنة بكاملها ويبدو مهذبًا وعطوفًا. كان شخصًا مسكونًا بالفضول.

يعيد هنري كتابة أوّل كتبه “الديك المجنون”، إنّه يعيش يومًا بعد يوم، يقترض، يشحذ، يتطفّل، يريد أن يقرأ المجموعة الكاملة لـ مارسيل بروست. وضعت مع الرزمة بطاقات القطار لكي يتسنّى له المجيء لرؤيتي متى شاء ذلك. لم يكن يمتلك آلة كاتبة، أعطيته طابعتي. ولأنه مغرم بالوجبات الفخمة صرت أطهو أطباقًا فاخرة، باذخة. أريد أن أمنحه بيتًا، ودخلاً، وضمانًا؛ ليستطيع الكتابة.

يشبه هنري ميللر مخلوقًا أسطوريًا، وتموج كتابته باللهب، كتابة متدفقة هيولية، مضطربة، خدّاعة خطيرة: عصرنا بحاجة إلى العنف. أستمتع بسلطة كتابته، بقبح هذه الكتابة وتخريبها وجسارتها وتدفّقها. هذا المزيج الغريب من عبادة الحياة، وهذه الحميّا والتلذذ الشغوف بكل شيء. الطاقة والخصب، الضحك والعواصف المدمّرة التي تربكني، كل شيء يهبّ عاصفًا: الرياء، الرعب، الشفقة، الزيف. إنها ثقة الموهبة نفسها.

يستخدم هنري ضمير الشخص الأول في حديثه، والأسماء الحقيقية دون الألقاب، ويرفض السباقات والأشكال، يرفض الرواية نفسها. كثيرًا ماكنت أؤمن بحريّة أندريه بريتون، أن يكتب المرء كما يفكّر، بنظام أو بفوضى، وبالطريقة التي يحسّ بها ويفكّر، ويتّبع سلطة حواسه مع افتقاد التناسب بين الأحداث والصور، ومنح الثقة للآفاق الجديدة التي يقود إليها قارئه. طقوس عبادة المعجزات. وثمّة طقوس قيادة اللاوعي، طقوس الأسرار؛ الإنفلات من المنطق الزائف. إنّ طقوس اللاوعي كما صرّح بها رامبو ليست طقوس الجنون، بل مسعى لتجاوز الجمود والقوالب التي أوجدها العقل القويم. كان هنري ميللر يمتلك مزيجًا غريبًا من كل هذه الأشياء، وكان طبيعيًا أن ينسحر بكتاب أو يخلب لبّه شخصٌ ما أو تفتنه فكرة، إنه موسيقي ورسام.

إنّ هنري يلاحظ كل الأشياء من حوله؛ يلاحظ الامتلاء الفاتن لقنانيّ النبيذ، هسيس الحطب في المدفأة، ويختار من كل شيء ما يتيح له أقصى المتعة. لقد ابتهج هنري بكل شيء هنا، بالطعام والأحاديث والشراب، ورنين جرس البوابة وحيويّة الكلب بانكو، الذي كان يتجول ويلطم الأثاث بذيله. خيّل لهنري أنّني لا بدّ أعرف الكثير عن الحياة لأنني مارست مهنًا شتى، وعملت موديلاً للرسامين عندما كنت  في السادسة عشرة، كان يفاجأ بمقدار البراءة التي أملكها. كنت أبحث في القواميس عن بعض الكلمات التي يستخدمها في حديثه غير أنها لم تكن موجودة هناك.

بعد مغادرته انهارت بهجتي، إذ فكرت بأنّني لم أكن ممتعةً له، لقد عاش هنري كثيرًا جدًا، عاش حياةً مضطربة، قاسية ومفعمة بالأحداث، وكأنه أحد شخصيات دوستويفسكي في الحضيض الأسفل، ولسوف يجدني إنسانة عديمة التجربة.

ما شأني بما يظنّه هنري بي؟ لسوف يعرفني عاجلاً كما أنا، إنّ له عقلية ساخرة ولسوف أراني في هيأة كاريكاتورية. تُرى، لماذا يصعب عليّ التعبير عن أناي الأساسية؟ أنا أيضًا ألعب أدواري، فلماذا أبالي إلى هذا الحدّ؟ غير أنّي كنت شديدة المبالاة، أهتم بكل شيء. العاطفية المفرطة والحساسية هما رمالي المتحركة، لقد فُتنت بخشونة هنري وزوجته جون. كان الأمر جديدًا عليّ. كان هنري يعلن عداءه للروائيين التقليديين لذلك وقع اختياري على د.هـ. لورانس، وكرّست جهودي للكتابة عنه.

أنا لا أثرثر في مواضيع السياسة لأنّني أجهلها، لقد اخترت شيئًا بوسعي أن أحبّه وأنغمر فيه، فاستغرقني هنري، هنري الذي لم يكن متيقنًا حتى من نفسه والذي يوجّه النقد لنفسه. المخلص الذي يحمل في أعماقه بعضًا من قوّة عظمى. كنت قد أُنهكت في الحبّ، فمالذي يبغيه بعد؟ كان يريد كل شيء. إنّه يكاد يكون صعلوكًا، ينام أينما اتفق، في بيت صديق، في محطة قطار، أو غرفة انتظار، على مصطبة في دار للسينما، في متنزّه. إنّه لا يملك ثيابًا وما يرتديه ليس له.

شباط 1932، وضعتُ في متناول يدي رسائل هنري ميللر النفسية، الهائلة: انهمارات. كنتُ قد علّقت على جدران غرفة الكتابة لوحتين كبيرتين غطيتهما بكلمات كان هنري قد كتبها لي مع بانوراما عن حياته: قائمة بأسماء أصدقائه، وعشيقاته والروايات التي يكتبها، الروايات التي كُتبت، الأماكن التي زارها وأسماء أولئك الذين يعتزم زيارتهم. كانت اللوحتان مزحومتين بملاحظات عن روايات المستقبل. كنتُ أقف بين هنري ميللر وزوجته جون، بين قوّته البدائية التي يشعر معها بالأمان (وهذه حقيقته الكبيرة) وبين أوهام جون وانفلاتاتها من الوهم. كنتُ أحسّ بالعرفان إزاء غنى وامتلاء شخصية هنري ميللر، كنتُ أودّ أن أرد على هذا الأمر بالفيوض والتدفقات التي توازي غناه، ولكنّي وجدت نفسي أحتفظ بأسرار معيّنة كما فعلت مع جون. هل كنت أشفق من السخرية؟ كنت أرجئ التمردات. أعتقد هنري أن جون أغوتني، لكنّه سيعرف الحقيقة من خلالي في النهاية. مثلما فعل مارسيل بروست عندما كان يتحدث في غاية الانتشاء مع صديقة لـ البرتين ذاتها التي كانت تكتم عنه كل شؤون حياتها. لقد وعدته أن أقوده وآخذ بيده إلى عالمنا .. عالمي.

الكاتبة القابعة في أعماقي كانت تجد متعة مع هنري. هنري يمنحني عالم الكتابة. يتحدث هنري ميللر عن القديس فرانسيس متأملاً في فكرة القداسة. سألته: لماذا؟ لأنّني أعتبر نفسي آخر الرجال على هذه الأرض، يقول. بدأت أفكر بهذا الاعتراف المخلص الذي منحني إياه وبقدرته على أن يكون باعثًا على المهابة. ذلك أنه لم يكن شخصًا فاسدًا، أو منافقًا. عندما أكون في تجليّات حالتي الطبيعية فإنّني أنغمر في إعداد الطعام. أوقد النار وأمارس الطهو.

يقول هنري: لا أشعر بأنّني أكون طبيعيًا إزاءك حتى هذه اللحظة. يقولها بتواضع واستمتاع فأرى هنري آخر مختلفًا عن ذلك المدوّن في الدفاتر والكتب. يعيش هنري حياة يمكن أن توصف بالدّعة. وفي أحيان أخرى يفلت من الحاضر. دفاتر الكاتب، أحاسيسه لاتكون ضمن مدى اللحظة دائمًا. عندما ينغمر هنري بالكتابة يبدو دافئًا وتظهر ردود أفعاله بتعبيرات مسرحية.

 أحاديثنا: هو بلغته الشاعرية المألوفة وأنا بلغتي. لم أكن أستخدم مفرداته أبدًا. هو بحذره الدائم وأنا باندفاعاتي الصادقة. ويبدو أنّ لائحتي أكثر باطنية وحدسية وانتماءً للغريزة. لم تكن تظهر أو تطفو على السطح مثلما يحدث الأمر مع هنري. أفكاري حيويّة، متحركة مقابل تحليلاته القاسية. إيماني بالمعجزات يقف مقابل فجاجة تفاصيله وواقعيتها. ينتابني بالمرح عندما يقتنص خلاصتي: تبدو عيناكِ مثل معجزتين دفّاقتين. من سيجترح هاتين المعجزتين؟

 ظهيرة أخرى في المقهى. أخبرني هنري ميللر أن جذوره وخلفيته الشخصية ألمانية ولكنه يبدو لي سلافيًا أو أنّه سبق له وأن أمتزج مع دوستويفسكي روحًا ونسيجًا واختلطت حياة الاثنين معًا.

كان ذا عاطفة ألمانية مفرطة. وكان يتنقلّ بين العاطفة وجمود القلب. يمتلك هنري مخيلة جرمانية، ويقترب أسلوبه الأدبي من جورج كروتشه. هنري عاشق القبح تستهويه الخشونة الرعاعية والعامية المفرطة وأحياء الهنود الحمر والفاقة والفظاظة. ويتلذذ برائحة الملفوف واليخنة كما يحب روائح الموز والعاهرات. منحتني رسائل هنري إحساسًا فيّاضًا بالامتلاء الذي لا أناله إلا نادرًا. كانت رسائل استثنائية. وكنتُ أحسّ بمتعة طاغية وأنا أجيب على رسائله، غير أن جسامة عددها كان يضعضعني. وبالكاد أرد على رسالة فيكون قد كتب لي أخرى: تعليقات على مارسيل بروست، على قوائم الكتب الصادرة حديثًا، وصيفات، أمزجة، حالات نفسية.. حياته الخاصة، الرغبة الجنسية التي لا تعرف الكلل، وكيف يمزج بين كل هذه الأشياء فتشتبك الأفعال.. أفعال بالغة الإفراط بالنسبة لي.

ولا عجب أنّه كان مفتونًا بمارسيل بروست. ولا عجب في أنّني كنتُ أرقب حياته وأعرف أنّني لا أستطيع مطلقًا ممارسة الحياة بالطريقة ذاتها. حياتي تمضي متريثة عبر التفكير والحاجة إلى فهم ما أحياه.

رسالة منّي إلى هنري. أنت تطالبني بأشياء مستحيلة ومتناقضة. تريد أن تعرف ماهي الأحلام؟ ماهي الدوافع و النزوات التي تشغل جون ولكن كيف بوسعها الإفصاح وهي تحيا مثل غواصة غاطسة على الدوام في المستوى الأعمق للغريزة والحدس؟ لعلّني أمتلك القدرة على إخبارك بكل هذا، فأنا لست تلك التي تحيا وتحبّ وتجترح العجائب. لسوف أجلس ذات يوم وأخبرك أنّني سوف أمضي في الحياة على نحوٍ أعمى.

ولسوف تضرب رأسك بجدران عالم جون. ثم تطالبني بأنّ أمزّق كل الأقنعة. تريد أن تنتزع الرهافة والأعماق والغموض والظلمات والأسرار والأحاسيس الشهوانية في أيّ شيء تستطيع القبض عليه وتقوم بانتهاكها جميعًا. علام تطالبني بالوضوح؟ كنت أول من قال ذات مرّة: إن غموض جون يمنحك الإلهام، وأنكَ تمنح أيّة امرأة أخرى الكثير من الإهتمام. فلماذا تريد تبديد السرّ؟

كنتُ أتلقى رسائل من هنري كل يوم وأرد عليها في الحال. وكنتُ قد أعطيته آلتي الكاتبة وصرت أكتب بيدي وأفكر بـ جون ليل نهار. كنتُ مفعمة بالطاقة وأكتب رسائل لا نهاية لها.

في الليلة الماضية بعد قراءتي لرواية هنري الأخيرة لم أستطع النوم. إنه منتصف الليل، أردتُ أن أنهض وأمضي إلى غرفة الكتابة وأكتب إلى هنري عن كتابه الأول. هناك بابان يجب أن يفتحا ويُحدثا ضجة. استلقيت بلا حراك وأرغمت نفسي على النوم والعبارات تندفع إلى رأسي مثل زوابع صغيرة. أستطيع أن أفهم وأرى فيما إذا كنت هناك.

آذار 1933، مهاتفة من هنري ميللر: المقابلة مع د. أوتو رانك، المحلل النفسي نجحت مئة بالمئة. أصبح رانك صديقًا له. إنّه شديد الإعجاب بهنري. قال له أن كتابه مدار السرطان لم يقدم ماتنطوي عليه شخصية هنري بأكملها، وقام بتفخيم هيأته فحسب.

قال هنري: إنني مدين بكل هذا لك أنتِ. قلت: بل أنت مدين لما أنت عليه بذاتك. كنتُ قد أخبرت هنري أن د. رانك سوف يقّدره. كان هنري مرتبكًا إلى حد ما. لكنه وثق بي، إنه بحاجة إلى الثقة التي سيمنحها له هذا التحدي.

تحدث هنري ميللر عن الفصام وعالم الموت، عن عصر فاوست، هاملت.. عن القدر والمصير، والروح، عن سكان المدن العظمى وعن الاستسلام للحتمية البيلوجية. كان هنري ميللر منهمكًا في العمل وهو يتصارع مع د. هـ. لورانس، ويبحث في كدس من الملاحظات، يحرّك ذراعيه ويشير ويدخن ويلعن ويستخدم الآلة الكاتبة ويحتسي النبيذ الأحمر وقد تناهى إليه أنّني أعدّ بحثًا كلّفني به د. الليندي عن تاريخ الطاعون والعنف والإرهاب الذي يتفجر فجأة جراء الرعب من مواجهة الموت. كانت دون ريب فترة غنية نابضة، وأخذ هنري يصغي إليّ معتقدًا أن هذه المادة تناسب مشروعه، ووجه لي أسئلة صاخبة وكان مقتنعًا بالمعطيات والمعلومات التي أغنت بحثه. إنه لا يتورع عن استخدام أيّ شيء يمكنه أن يغني موضوعه ويخدمه.

يقول هنري ميللر: يمثّل هنري جيمس روح المدينة الكبرى، يمثّل الحماسة والتعلقات والخيبة، بينما جيمس جويس مثّل المنقب الآثاري بحثًا عن الأرواح الميتة. أيقن هنري ميللر أنه يمرّ الآن في مرحلة تحوّل كبرى من التلذذ الرومانسي بالحياة إلى الاستمتاع الكلاسيكي بالأفكار.

قبل عام عندما قال له فرانكل: الناس هم محضر أفكار، تساءل هنري: لماذ الأفكار؟ لماذا الرموز؟ وهاهو يعود ثانية ليصبح فيلسوفًا. جلسنا في المقهى وشربنا وبدأنا نتحدث عن إشبنغلر. استغربت لماذا يحدث هذا؟ أمن أجل أن يحاول تنظيم تجاربه وموضعتها؟

 إنّني مزهوّة بنشاطه وفعاليته. أحسست الآن أنّني قد خُدعت بهنري المغامر وبعالمه السفلي ومباهاته بكوارثه وليالي فجوره وبحثه المسعور عن المتعة وفضوله وحياته في الشوارع وعلاقاته بكل شخص في أيّ مكان.

أيار 1933، قاعة الحفلات الموسيقية (صالون شوبان) القاعة مغمورة بالأبيض والذهبي، المقاعد مكسوّة بالمخمل الأحمر. حفلة هذا المساء؛ سيحييها أخي خواكين. سيعزف هذه الليلة. لم يصل حتى الآن.

كان هنري ميللر جالسًا في المقصورة حيث لا يمكنني رؤيته. التقت عيوننا، لمست أسىً في عينيه وكثيرًا من الجديّة والرصانة التي أحبّها وتهزّ مشاعري. خلال الإستراحة؛ هبط هنري ميللر إلى الطابق الأرضي. بدا وجلاً ونفورًا وسط الزحام. صافحته، بدا لي غريبًا ومتنائيًا. شعرتُ هذه الليلة أن الطفلة التي بداخلي ماتزال هلعة مرعوبة، لكن المرأة بدت متألقة أمام الجميع. أدركت كم كان مأخوذًا بثوب السهرة الذي كنتُ أرتديه. كان شعري مضمومًا إلى الأعلى في خصلات لولبية وأنا في اكتمال رصانتي. وددت لو اختبئ في عباءتي المخملية السوداء، وأحسست بثقل أكمام ثوبي البالونية المنتفخة. أرهقتني مقابلة كل هذا الحشد من البشر وتلقي عبارات الإعجاب والإطراء عن حفل خواكين . أتعبني الحديث.

كتب لي هنري ميللر رسالة بعد الحفل الموسيقي: «فتنني جمالك، كنتِ تقفين هناك أشبه بأميرة، أنتِ ملكة إسبانية ولست تلك المرأة التي أقابلها خارج هذا المكان. لقد عرضت لي عددًا من الأناييسات وهذه إحدى جوانب شخصيتك، كما لو أنّك تجرّبين البرهنة على سرعة تلوّنك وتقلّبك. أتعلمين ماقاله لي ميشيل فرانكل عنك؟ لم أكن أتوقع رؤية امرأة بهذا الجمال تؤلف كتابًا عن د.هـ. لورانس. إنّكِ تنتمين إلى عالم آخر. ولا أجد في نفسي شيئًا أعهد به إلى رعايتك. يبدو لي الأمر مدهشًا. إنّه نوع من مزحة رائعة. دعابة قاسية تلعبينها معي».

أيلول 1934، سرنا طويلاً أنا وهنري ميللر في شارع دي لا تومب سوار؛ فقد أنتقل هنري من ذلك المحترف الصغير إلى فيلا سورا، وساعدناه جميعًا في طلاء الجدران وتعليق اللوحات والتنظيف. كانت غرفة المحترف (الأستديو) كبيرة لها نافذة علوية واسعة تمنحها فضاءً شاسعًا وارتفاعًا، وثمّة مطبخ ملحق بغرفة استراحة أقيم تحت الشرفة ويؤدي إليه سلّم ويطل على شرفة أخرى. عثرت وأنا أقوم بالتنظيف على صورة فوتوغرافية لـ أنطونين آرتو الذي سبق له وأقام هنا ردحًا من الزمن. كانت صورة رائعة تمثّله في دور الراهب الذي أحبّ جان دارك في فيلم دراير. بدت وجنتاه غائرتين وعيناه قاسيتين. كان يرفض أن يعطي صوره للآخرين، فهو يخشى لعنة السحر، كان يؤمن أنه سيتعرض للأذى إذا ما قام شخص شيطاني بغرز الدبابيس في صورته. وها هو الآن بين يديّ: راهب فاتن يقع تحت رحمتي ولكن لن أمسّه حتى بطرف إبهامي، وإنما سأحتفظ بالصورة في مكان ما.

(مدار السرطان) في المطبعة. أحسّ هنري أن مرحلة حياة جديدة قد بدأت بالنسبة له. وأظهر فريدْ إحساسه بالغبن لأن هنري لم يطلب منه أيعيش معه في فيلا سورا بعد أن عاشا معًا في المحترف القديم. أراد هنري أن يكون وحيدًا. قمت بتعليق اللوحات المائية والبطاقات التي تخصّ الشخصيات الروائية التي سيكتب عنها هنري. صدر كتاب مدار السرطان لـ هنري ميللر في اليوم ذاته الذي استقرّ فيه هنري في أول بيت حقيقي له. الكتاب الذي بدأ العمل فيه قبل أربع سنوات، بدأه في المحترف الذي كان يقطن فيه مع فرانكل. دائرة مكتملة. جلسنا جميعًا نرزم نسخ مدار السرطان ونثبت العناوين لكي نرسل نسخًا بالبريد.

أشعر أنّني مقسمة إلى ثلاث نفوس: إحداها تعيش في لو فيسانس، وتمتلك خادمة إسبانية، وتتناول إفطارها في السرير، وتأكل لحوم الطرائد التي يصطادونها لها، تستمع إلى الراديو، تصدر الأوامر إلى البستاني، تدفع فواتيرها بواسطة الصكوك، وتستلقي أمام مدفأة الحطب، وتنسخ يومياتها وتقوم بترجمتها من الفرنسية إلى الإنكليزية. نفسٌ تحلم جوار نافذة، وتقلق بشأن حياتها الراقية.

نفسي الأخرى في فيلا سورا مع هنري ميللر وفريد وسيل لا ينقطع من الناس يأتون ويخرجون. وأنا أقوم بتقشير البطاطا وأطحن القهوة على الطريقة الفرنسية، وأرزم الكتب وأحتسي المشروبات بأكواب وكؤوس مثلومة استغنيت عنها في قصر لوفيسانس، أمشي على الطرقات المرصوفة بالقرميد إلى السوق لأصلح الغرامافون؛ لأن هنري لا يجيد مثل هذه التفاصيل العملية. أستقل الحافلة، أجلس في المقهى، أتحدّث طويلاً عن الكتب والأفلام والكتابة والكتّاب، أدخّن بنهم وأرقب دخول الناس وخروجهم من الفيلا؛ فقد أقام هنري علاقات صداقة مع الجيران، أوّلهم دي ماغريت الذي كان يأتي خارجًا من غرفة نومه إلى شرفته ثم إلى شرفة هنري ثم يتجه إلى السلم، وأقام صداقة مع المرأة التي تقيم في الطابق الأرضي. وهي سيدة كانت تعيش في اليونان ومع مصوّر فوتوغرافي يعيش في الطابق السفلي.

نفسي الثالثة تلك التي تجهد لتتعلّم وتكون كاتبة محترفة تكتب كما تريد وتؤمن. شخصية تتوق لكل ماهو مجهول وغير مألوف.

ذبلت جميع الزهور التي تلقيتها أثناء مرضي، أنظر أحيانًا إلى باقات الزهور وأرغب في سري أن أعود إلى أيام نقاهتي. إلى لحظات السكون والغبطة قبل أن تستعيد الحياة الدفاقة قوّتها ودراماها من جديد. قاومت العودة للحياة الحقيقية مرة أخرى، ثم اندفعت إليها وأحسّ الآن بنشوة الصراعات الدائمة واستمتع على مدى بضعة أيام بالاختلاف والانفصال والتباعد. أراقب كلّ شيء عن بعد. رسائل والدي الوعظية، أفراح هنري ميللر أثناء صدور كتابه مدار السرطان. يقول د. رانك: لقد تعلّم هنري الثبات منكِ. أما أنا فقد تعلّمت السرعة والتغيّر منه، الأصدقاء يغيّرون القيم و المفاهيم، هاهو هنري يتحدث عن حياة الوقار والرصانة.

قلتُ لهنري ميللر: حقًا أنّكَ تبتكر شخصيتك في كتبك وتقدّمها كل مرّة على نحوٍ مختلف. ففي مدار السرطان كنتَ مجرد شخص معني بالجنس والطعام، أما في كتابك الثاني ربيع أسود، فقد بدأت تمتلك عينين ويدين وقلبًا وأذنين، ومع كلّ كتاب تتم تخليق الرجل الذي فيك. وستصبح فيما بعد جديرًا بالكتابة عن المرأة، إنّما ليس الآن، ولكن لماذا وهبت العينين في كتابك لشخصية براساي، المصور الفوتوغرافي؟ لقد كانتا عينيك، وقمت بوصف ماكنت تراه أنت، وليس مايراه براساي.

لماذا جعلت من لوينفليس شاعرًا؟ إنها قصائدك تلك التي كنت تطربها وتمجّدها في هذا الكتاب. أهذا كل ماتستطيع قوله؟ للمرضى، والمذعنين والناس المرهقين الذي كانوا يجلسون في غرفة انتظارها؟

بدأت أعدّ صناديقي للرحيل إلى نيويورك، وأخرجتُ صوري الفوتوغرافية من أُطرها. إنّ التفاصيل الصغيرة التي تمنحنا المتعة ليست ضرورية في عالم الأفكار، إنها تدرج في الحياة من أجل المتعة. جمال الحياة وقبحها وتفاصيلها. الرائحة المبتذلة للملفوف الساخن، رائحة العالم. بعد دوامات الأحلام والأفكار ، تأتي الأشياء الملموسة الدافئة، وحتى السقيمة المبتذلة.

في البدء عندما كنتُ صغيرة، كنت أحبّ الأزرق، والآن البرتقالي، ولكنّي وجدت أنّ البرتقالي يكمّل الأزرق. حزمت مخطوطةً بيت سفاح القربى، ودفاتر يومياتي ومخطوطة شتاء الخديعة. ذهبتُ إلى د. رانك، لأحللّ أسباب صراعي مع أبي، ثم لم أفعل شيئًا سوى إضافة أبٍ آخر لحياتي، وفقدان جديد. أوجعني أن أؤجر لوفيسناس للغرباء. كانت النوافذ في آخر ليلة أمضيناها هناك عارية من الستائر. كان القمر قد وجد له سبيلاً في النوافذ وكأنه ضوء ثلجي، مستحيل درامي وراء الأغصان السوداء العارية، رأينا الفجر يبزغ أيضًا. إنّه قمر بيلياس وميلزاند وفجرهما.

لقد اقتلعتُ نفسي من عالم حكايتي الخرافية، وتخليت عن قوقعتي، وعشّي وملجأي، مستلقيةً في سريري الفارسي، أنظر إلى الحديقة، محمومة بالذكريات، وأتطلّع إلى الوسائد البرتقالية والصندوق الصيني الأحمر والظلّة الفارسية التي جُمعت معًا. والأثاث في الشارع، والبوابة الخضراء الكبيرة قد فُتحت وخلا البيت من محتوياته. البيت خالٍ ومفتوح مثل هيكلٍ عظميّ، والرجال يتحركون ليغلّفوا قطع الأثاث العزيزة بالبطانيات البالية. كيف يمكن العيش في الحاضر حينما لا يكون ثمّة أحد هناك في الوقت ذاته. لا أحد يتقاطع معك. ولا أحد بوسعه الرد على أسئلتك. إنّ الحاضر مصنوع من متعة تصادم جسدين غير سماويين في اندماجٍ سماويّ.

_________
* مقتطف من يوميات الروائية والأديبة أناييس نن، ترجمة: لطفية الدليمي، دار المدى.

عدد المشاهدات : 1237

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.