عن هوارد زِن: “استمرّ”

عن هوارد زِن: “استمرّ”

مدير التحرير

عُرف هوارد زن على نطاقٍ واسع باسم “مؤرّخ الشعب” أثناء حياته، وكان باحثًا غزير الإنتاج وناشطًا فذًّا أحبه الناس، ولعبَ بالنسبة لكثيرين (ومنهم أنا) دورَ الراعي والصديق. فضلًا عن ذلك، هناك قلة من المؤرخين الذين يكتبون التاريخ ويصنعونه في آن، بيد أن هوارد زن فعل هذا لأكثر من نصف قرن. وعلى غرار شبّان كثيرين من أبناء جيلي، تعرّفتُ على هوارد للمرة الأولى من خلال الصفحات الافتتاحية لكتابه “تاريخٌ شعبيٌّ للولايات المتحدة”. فقد “فجّر هذا الكتاب عواطفي فعلًا”، كما عبّرتْ شخصية “مات دامون” في الفيلم الحائز على جائزة الأوسكار عام 1997 “غود ويل هانتينغ”. نُشر كتاب هوارد الثوري والرائد لأول مرة عام 1980، في الوقت الذي كانت فيه ثورة ريغان المضادة على وشك أن تسحق بلا رحمة الروحَ الثورية للستينيات والسبعينيات. لن أنسى أبدًا فقراته الافتتاحية التي كتبها دون مقدمة أو تحذير:

“نزل رجالُ ونساء شعب الأراواكس العراة والسمر والمفعمون بالدهشة من قراهم إلى شواطئ الجزيرة وسبحوا كي يشاهدوا عن كثب السفينة الكبيرة والغريبة. حين ترجّل كولومبس وبحارته إلى الشاطئ متمنطقين بالسيوف وناطقين بلغة غريبة ركض الأراواكس كي يسلّموا عليهم ويقدموا لهم الطعام والماء والهدايا.  

كان الأراواكس القادمون من جزر باهاما يشبهون كثيرًا الهنود الذين في البر الرئيس وكانوا يتصفون (كما كرر المراقبون الأوروبيون مرة بعد أخرى) بكرم الضيافة والإيمان بالمشاركة. إلا أن خصالًا كهذه لم تظهر في أوروبا عصر النهضة التي هيمن عليها دين البابوات وحكومة الملوك وسعار المال الذي وسمَ الحضارة الغربية ورسولَها الأول إلى الأميركيتين، كريستوفر كولومبس”.

قلب زن هنا نص التاريخ رأسًا على عقب، كاشفًا أن الرواية التي لقنوها لنا كي نوقرها ونرددها كأطفال في المدرسة عن “اكتشاف” كولومبس “البطولي” لما يُسمى بالعالم الجديد يمكن أن تُرْوى من وجهة نظر مختلفة جذريًّا. وفي الحقيقة ينبغي فعل ذلك.

لا أحد قرأ الفصل الأول من كتاب ”التاريخ الشعبي للولايات المتحدة” يمكن أن تفوته هذه النقطة: إن هذه النظرة للتاريخ “كتاريخ شعبي” هي أفضل ترياق نملكه لمواجهة صناعة الأسطورة القومية التي غالبًا ما تخدم لتبرير مصالح الأغنياء والأقوياء. وهذا ما فعله هوارد زن، فقد كان واضحًا وصريحًا في سياسته ولم يكن التاريخ بالنسبة إليه مجرد استقصاء أو إضاءة لماض بعيد فحسب، بل كان تدخّلًا أيضًا في الحاضر لصالح مستقبلنا الجمعي. كتب هوارد: “أعتقد أنه لكي يكون التاريخ إبداعيًّا ويتنبأ بمستقبل ممكن من غير أن يُنْكر الماضي ينبغي أن يشدّد على احتمالات جديدة من خلال كشْف الحوادث المخبأة للماضي التي بيّن الناس فيها (ولو لمددٍ وجيزة) أنهم قادرون على المقاومة والتوحّد والانتصار أحيانًا”. في قلب كتابة هوارد نقدٌ لا يُهادنُ ولا يلين للذين يُمسكون بمقاليد السلطة ويسيئون استخدامها، وثمة أيضًا تفاؤلٌ عنيد حيال قدرة الناس العاديين على صناعة التاريخ، وتأصّلَ هذا التفاؤل بقوة في تجارب حياته التي أسهمت في صنعه أيضًا، ذلك أن الشخصي والسياسي كانا بالنسبة لهوارد متشابكين دومًا مع التاريخي.

وُلد هوارد في بروكلين عام 1922 لوالدين يهوديين كادحين ونشأ نشأة متواضعة خاض فيها باكرًا صراعات الحياة اليومية للعمال. بلغَ سن الرشد أثناء الركود الكبير وتأثر في شبابه على نحو عميق بأدب الاحتجاج لدى تشارلز ديكنز وأبتون سنكلير ولانغستون هيوز ورتشارد رايت وجون شتاينبيك. وحين بلغ الثامنة عشرة من عمره شرعَ بالعمل في حوض لبناء السفن. وفي مذكراته المشهورة “لا تستطيع أن تكون حياديًّا على قطار متحرك”، وصفَ تجربته قائلًا إنه “عمل لثلاث سنوات على رصيف المرفأ في البرد والقيظ الشديد وسط ضجيجٍ يصم الآذان وأبخرة سامة تصنعُ سفنًا حربية في الأعوام الأولى للحرب العالمية الثانية”.

وفي 1943، بعد أن بلغ الحادية والعشرين من عمره، تطوع في القوى الجوية ونفّذ مهمات قصفٍ جوية في أوروبا وقادتْهُ هذه التجربة فيما بعد إلى التشكيك بأخلاقية الحرب. وفي الحقيقة إن نشاطه المناهض للحرب لاحقًا (والذي وصل إلى ذروته في مرحلة فيتنام وتواصَلَ أثناء الحروب المعاصرة في أفغانستان والعراق) تأثّر بشدة بمشاعر الندم التي انتابتهُ لكونه طيارًا مسؤولًا عن رمي القنابل. وبعد الحرب التحق هوارد بجامعة نيويورك وجامعة كولومبيا بمقتضى قانون جي إي (كان يتباهى بأنه لم يدفع سنتًا واحدًا أبدًا مقابل تعليمه). وحين تخرج حاملًا شهادة في التاريخ الأميركي كان يعمل ليلًا في مستودع ويدرّس نهارًا وليلًا في عدة مدارس قريبة لتأمين قوت يومه.

وبعد أن تزوج عاش هوارد مع زوجته روز وطفليه الصغيرين في بناء في مانهاتن السفلى حيث كتب أطروحته لجامعة كولومبيا، وهي دراسة مهمة تناول فيها فيوريلو لاغوارديا الذي اتسمت مسيرة عمله الأسطورية في الكونغرس في العقد الثاني والثالث من القرن العشرين، كما قال هوارد، “بمعاينة دقيقة على نحو مدهش للصفقة الجديدة”. وفي 1956، وقبل أن يكمل الدكتوراه حصل هوارد على منصب أستاذ في كلية سبيلمان في ولاية أتلانتا حيث درّس عددًا من النساء السوداوات اللافتات، وكان بينهن الروائية والناشطة المعروفة أليس ووكر وماريان رايت (فيما بعد إديلمان) مؤسسة ورئيس صندوق الدفاع عن الأطفال. وتزامنت السنوات السبع التي أمضاها في كلية سبيلمان (سُرّح بتهمة “العصيان” عام 1963 بسبب نشاطه السياسي) مع ظهور صراع السود من أجل الحرية في الجنوب. ويمكن القول إن ما تبقى تاريخ. وألهم انخراطُ هوارد العميق في الحركة التزامًا استمر طيلة حياته بالحقوق المدنية والعدالة العرقية والاقتصادية والاجتماعية. وكان في الستينيات والسبعينيات أحد أبرز الأصوات المعارضة لحرب فيتنام. وفي 1967 دعا إلى “الانسحاب الفوري” للقوات الأميركية من هناك. ومن 1964 حتى تقاعده في 1988 عمل هوارد أستاذًا للعلوم السياسية في جامعة بوسطن حيث حقق شهرته (التي استحقها بجدارة) كأستاذ محبوب وباحث غزير ومشاغب من الدرجة الأولى.

ورغم وجود مدافعين مخلصين عن هوارد ضمّوا كثيرًا من المفكرين والفنانين والناشطين البارزين لزمننا إلا أن مساعيه الأكاديمية والتزاماته السياسية عرّضتْهُ أيضًا لنقدٍ جارح. يحتاج المرء أن يطّلع فحسب على الصفحات الـ423 من ملفاته لدى مكتب التحقيقات الفيدرالي والتي أُفرج عنها بمقتضى قانون حرية المعلومات عام 2010، لكي يفهم أي نوع من التهديد شكّل للقوى التي كانت موجودة. فهذا الراديكالي الذي لا يعرف التبرير جعلتهُ حقوقه المدنية ونشاطهُ المعارض للحرب هدفًا رئيسًا لمراقبة السلطات الفيدرالية بدءاً من أواخر الأربعينيات حين شرع مكتب التحقيقات الفيدرالي “بجمع معلومات إضافية عن عضوية هذا المواطن في الحزب الشيوعي أو أنشطته لصالح هذا الحزب”، واستمر هذا الوضع حتى السبعينيات تقريبًا. (وينبغي القول من أجل التاريخ أن هوارد أنكر دومًا أنه عضو في الحزب الشيوعي وفضّل أن يصف نفسه بأنه “مزيج من فوضوي واشتراكي وربما اشتراكي ديموقراطي”).

لقيت أبحاثه الأكاديمية، وخاصة كتابه “التاريخ الشعبي للولايات المتحدة”، معارضة شرسة على نحو مشابه. ففي مقال بعنوان “البقعة العمياء لليسار” انتقد المؤرخ ريك شينكمان، محرر شبكة أخبار التاريخ، هوارد بحدة لأنه “لعب دور المتمرد الخطير والذي يبدو جذابًا في ثقافة تيار رئيس اتسم بعبادة الأنا وغياب الروح النقدية”. أما دانييل جي. فلين، المدير التنفيذي لمنظمة “الدقة في العالم الأكاديمي”، وهي منظمة محافظة غير ربحية تراقب الحرم الجامعي لأنها “تريد أن تعود المدارس إلى مهمتها التقليدية التي هي البحث عن الحقيقة”، فقد اتهم “هوارد زين، الماركسي المعادي لأميركا والذي يحتاج إلى إعادة تثقيف”، بامتلاك “عقل معتقل أغلقته الأيديولوجيا طويلًا”. واعتبر فلين كتاب “التاريخ الشعبي للولايات المتحدة” “قذفًا يربو على 800 صفحة ضد بلاده”.

لم يأت جميع نقاد هوارد من اليمين. ففي مقال نقدي لاذع في مجلة “ديسينت” عام 2004 قال المؤرخ الاشتراكي المرموق مايكل كازن: “إن كتاب “التاريخ الشعبي للولايات المتحدة” تاريخ سيء رغم أنه مموّه بنوايا فاضلة. يختزلُ زن الماضي إلى خرافة مانوية ولا يقوم بمحاولة رصينة كي يجيب على السؤال الأكبر الذي يمكن أن يطرحه يساريٌّ عن الولايات المتحدة: لماذا قبلَ معظمُ الأميركيين شرعيةَ الجمهورية الرأسمالية التي يعيشون فيها؟”. كان مؤرخ جامعة كولومبيا الشهير إيريك فونير أكثر تعاطفًا، ففي مراجعته المنشورة في “نيويورك تايمز ريفيو” لكتاب “التاريخ الشعبي للولايات المتحدة” أثنى على نثر هوارد “الذي اتصف بحيوية نادرًا ما وُجدت في النثر البليد والكئيب للتاريخ الأكاديمي” وتنبأ أن “المؤرخين يمكن أن يعدّوا كتابه خطوة جيدة نحو نسخة جديدة متماسكة من التاريخ الأميركي”. ثانية، وفي مقال أثنى فيه على هوارد زن بعد وفاته نُشر في مجلة “نيشن” أقر فونير أيضًا “أن روايته تميل أحيانًا إلى المانوية وتفرط في تبسيط المعركة بين قوى الخير والشر”.

وفي شباط 2010 نشرتْ “مدونة نيويوركر” مادة بعنوان “تاريخ زن”، قارن فيها مؤرخ هارفارد جيل ليبور بين تجربة قراءة “التاريخ الشعبي للولايات المتحدة” في الثانوية وقراءة رواية جي. دي. سالنجر “الحارس في حقل الشوفان” في العمر نفسه: “إنه عظيم وفظيع ويشعرك كأن شيئًا انتهى لأن هذا حصل”. وبينما استطاع فونير وليبور (رغم أن كازن لم يفعل) أن يصفحا عن هذه القيود واعتبراها نتيجة طبيعية لتأليف التواريخ الأولى الشاملة للولايات المتحدة “من أسفل”، وجد آخرون في عمل هوارد دليلًا واضحًا على التلاعب الأيديولوجي (أو ما هو أسوأ) الخيانة السياسية. ففي مقالة نُشرت بعد مرور يوم على وفاة هوارد في كانون الثاني/يناير 2010 قال رون رودوش، أستاذ التاريخ الفخري في جامعة سيتي في نيويورك، الذي بدا كأنه مسرور وهو يرقص على قبر هوارد: “فَتَّشَ هوارد التاريخ بدقة كي يعثر على نماذج بديلة لصراعات المستقبل”.

وذهب الناقد اليميني ديفد هوروفيتز إلى أبعد من ذلك في اليوم نفسه حين هاجم في حوار أجْرتْهُ معه الإذاعة القومية العامة الكتاب ونعته بأنه “مهزلة”، وأضاف “لا يوجد إطلاقًا أي شيء في نتاج زن الفكري يستحق احترامًا من أي نوع”. وبعد يومين، وبسبب قلقه من أن الإذاعة القومية العامة حررت مقابلته بشكل أدى إلى اختصارها كتب هوروفيتز على مدونته كي يوضح نقطته الرئيسة: “إن كتاب زن البائس، التاريخ الشعبي للولايات المتحدة الأميركية، لا قيمة له كتاريخ وإنها لمأساة قومية أن كثيرًا من الأميركيين وقعوا تحت تأثير سحره.. كانت كتابة زن كلها موجهة لغاية واحدة: أن يدين بلاده كدولة شريرة ويقلل من مكانة أبنائها. وعلى غرار شريكه في الجريمة، نعوم تشومسكي، كان لكتابات زن تأثير خبيث في الشبان والجهلة ونتائج تدميرية بالنسبة للناس في جميع الأمكنة”. وكي أجاهر بالحقيقة، أنا من “الشبان والجهلة” الذين وقعوا فريسة “التأثير الخبيث” لهوارد. لكنني أفضّل أن أصف نفسي، كما فعل فونير في مكان آخر، بأنني أحد “طلاب التاريخ الممتازين والكثيرين” الذين “قدحت شرارةَ ولعهم بالماضي قراءةُ هوارد زن في البداية”.

إن الأعداد تتحدث عن نفسها بالطبع. فقد باع كتاب زن الشهير حتى الآن نحو مليوني نسخة مما جعله أفضل كتب التاريخ مبيعًا حول التاريخ الأميركي في التاريخ الأميركي. وبحسب هيو فان دوسين، محرر هوارد في دار هاربركولينز للنشر، كانت مبيعات الكتاب تزداد كل عام منذ طباعته في 1980 وتواصل الأمر بعد وفاته. وكتب فان دوسين: “لم أسمع أبدًا عن كتاب آخر لدى أي ناشر سواء كان رواية أو غير رواية حول أي موضوع يمكن أن يُقال عنه هذا، وسألتُ كثيرين يعملون لدى ناشرين آخرين إن كانوا قد سمعوا بكتاب كهذا”. ثمة عوامل كثيرة أسهمت في الشهرة الواسعة للكتاب، إذ كان أول تاريخ يروي تاريخ الولايات المتحدة “من أسفل”، وجسّد الروح الثورية للستينيات ونأى بنفسه عن غياب الروح في ثورة ريغان المضادة ورجعيتها، وخدم أسلوبه النثري الحيوي كبديل منعش للبحث الأكاديمي التقليدي وعبّر عن وجهة نظر جريئة حول قوة التاريخ، ووجّه نقدًا لاذعًا لرجال السلطة ولمؤسساتها. كتابٌ سمح لكثير من الأميركيين (عمال ونساء ومزارعين ونسويات واشتراكيين وطلابًا ومهاجرين وسكانًا محليين وشيوعيين ونشطاء حقوق مدنية) بأن يروا أنفسهم كصنّاع للتاريخ للمرة الأولى أكثر مما سمح لهم بذلك أي شيء آخر.

لكنّ الكتاب لا يدّعي الكمال. ففي طبعة لاحقة أقرّ هوارد أنه “أغفل جماعات في المجتمع الأميركي غُيبت دومًا من التواريخ الأرثوذكسية” وأخص بالذكر اللاتينيين والمثليين. وكمثليّ علنيّ أتذكّرُ أنني تحدثتُ مع هوارد عن عمليات الحذف هذه وعبّرتُ عن تقديري لإقراره المباشر بأن “توجّهي الجنسي الخاص.. هو السبب في معالجتي المحدودة لمسألة حقوق المثليين والمثليات”، وهذا أمر حاول أن يتلافاه في طبعة 1995 من الكتاب. هكذا كان هوارد (كما في نظرته إلى التاريخ) يراجع نفسه دومًا. ولم يكن ساكنًا ولا ثابتًا في طرقه. وكما يوحي عنوان مذكراته، كان دومًا في قطار متحرك رغم أنه لم يكن أبدًا حياديًّا أو “موضوعيًّا”. وعبّر نقاد هوارد (وهناك كثير منهم) عن ثلاثة اعتراضات رئيسة على عمله: أولًا، اتهموه بالتطرف الأيديولوجي وبالسماح لسياسته اليسارية بإفساد السعي الأكثر نبلًا وراء “الموضوعية التاريخية”. ثانيًا، اتهموه بالإفراط في التبسيط وتحويل “الأبطال” إلى أوغاد و”الأوغاد” و”الخاسرين” إلى أبطال كي يؤلف رواية مانوية عن الماضي الأميركي. ثالثًا، اتهموه بالشهرة كما لو أن إنجازاته كلها دفعها حب الأنا وليس الصراع من أجل المساواة. سأرد على كل هذه الانتقادات بالدور وسأبدأ من التهمة الأخيرة.

كان هوارد من المشاهير فعلًا في أعوام حياته الأخيرة. لا شيء يوضح هذا أكثر من المشهد في فيلم “غود ويل هانتينغ” الذي يقوم فيه مات دامون، وهو شخصية من الطبقة العمالية، بذكر كتاب “التاريخ الشعبي”. وفي أعقاب النجاح الكبير للفيلم صمم دامون الذي تقاسم مع الممثل بين أفليك عام 1997 جائزة الأوسكار لأفضل سيناريو على تقديم كتاب هوارد الذي حقق أفضل المبيعات على الشاشة الكبيرة. وبعد أن انسحبت شركة روبرت مردوك توينتيث سنشري فوكس من صفقة محتملة عملَ دامون مع هوارد لصناعة الفيلم من خلال قنوات أخرى، وتتوّجت هذه الجهود في 2009 في الفيلم الوثائقي لقناة التاريخ “الناس يتحدثون”، والذي ضم قائمة مؤثرة من المتعاونين البارزين. لكن منتقدي “شهرة” هوارد الحديثة نسبيًّا أغفلوا عدة نقاط مهمة. أولًا، عرف هوارد صديقه دامون منذ أن كان طفلًا صغيرًا ترعرع في كامبردج، وسبقت علاقتهما شهرة الرجلين. ثانيًا، كان هوارد سيئ السمعة قبل وقت طويل من شهرته. ويمكن القول إن “شهرته” الحالية لم يصْنعها تبنّي ممثلين ليبراليين له في المرحلة الأخيرة من حياته بل الهجمات التي لم تتوقف لنقاده المحافظين، من جي. إدجار هوفر الذي نعتهُ ب “الشيوعي” إلى رئيس جامعة بوسطن جون سيلبر الذي اعتبره “تهديدًا”. وإذا كان هوارد قد أصبح محبوبًا للإعلام (إن فترة حياة من الصور الكاريكاتيرية الساخرة والنقد تفند فرضية كهذه) فالسبب هو أنه حقق في النهاية شهرة حظيت باحترام أكبر نجمتْ عن وقوفه على الجانب الصحيح من التاريخ لأكثر من نصف قرن. أخيرًا، من المهم أن نذكر أن هوارد أمضى نصف حياته يكدح كعامل وجندي وطالب وأستاذ مساعد مجهول نسبيًّا قبل أن يحصل على أية شهرة أو ثروة. فقد فهمَ الفقر لأنه جاء منه وقدّرَ صراعات الناس العاديين لأنه كان أحدهم. ربما حقق الشهرة فيما بعد في حياته لكنه لم يبدأ حياته بها ولم يتوقعها.

إن تهمة الإفراط في التبسيط نقد أكثر صدقية ونسمعه في معظم الأحيان من مؤرخين محترفين ملتزمين بمهن أكاديمية وشهادات أكثر تقليدية. وهنا ثانية (كما كتب المؤرخ الراديكالي ستوتون ليند صديق هوارد وزميله في أيامه الأولى في سبيلمان) لم يكن هوارد مهتمًّا أبدًا بشكل رئيس بإثارة إعجاب النخبة الأكاديمية: “إن الشيء اللافت أكثر حيال هوارد كأكاديمي هو أنه كان دومًا مهتمًّا بأن يتحدث ليس مع أكاديميين آخرين بل مع الجمهور العام. وفي الحال بعد الوصول إلى أتلانتا سألتهُ أية أبحاث يحضّر ولأي اجتماعات أكاديمية مفترضًا أن هذا ما يفعله المؤرخون. نظر إليَّ هوارد كما لو أنني أنطق بلغة أجنبية. كان أحد المشرفين البالغين على لجنة التنسيق الطلابية اللاعنفية وكان مشغولًا بمسألة كيف يمكن التغلب على العنصرية”.

وبعد أن قيل هذا، يجب أن نضيف أن هوارد قارن بالفعل بين تجارب “الناس” وبين مصالح “الأقوياء” في كثير من كتاباته. وكما أقر فونير على نحو صائب في مراجعته في النيويورك تايمز، “إن المعتادين على نصوص جيلٍ سابق كان فيها صعود الديمقراطية الأميركية ونمو القوة القومية رمز التقدم يمكن أن يفاجئهم سرد الأستاذ زن. ومن صفحاته الأولى التي تستعرض قصة الغزو الأوروبي للمستوطنات الهندية في الأميركيتين هناك عكس للمنظور وتغيير لأدوار الأبطال والأوغاد. تشبه علاقة الكتاب مع النصوص التقليدية علاقة صور النيغاتيف مع الصور المطبوعة: يتم عكس مناطق الظلام والنور”. ويمكن أن يقال الأمر نفسه عن كثير من التاريخ الاجتماعي التعديلي الأول، الذي سعى فيه الباحثون المهتمون بالتاريخ الأميركي الأفريقي وتاريخ النساء وتاريخ المهاجرين وتاريخ العمالة وتاريخ المثليين والمثليات إلى توسيع التأويلات التقليدية للماضي الأميركي إلى ما وراء تجارب ومنظورات الرجال البيض الأثرياء. وكما في كثير من أعمال هوارد، وسّع كتاب “التاريخ الشعبي” وأظهر إسهامات الأميركيين العاديين الذين أُغفلوا في كثير من التواريخ التقليدية. وهدفَ الكتاب إلى أن يكون تحويليًّا وليس نهائيًّا، رشقةَ افتتاحيةٍ لا كلمةً أخيرة. ثانيًا، عرفَ هوارد مثل الجميع أنَّ الذين يحطمون القوالب غالبًا ما يُنتقدون من أجل فعل ذلك.

جاءت الانتقادات الأكثر صخبًا لعمل هوارد ولبحثه ونشاطه من الذين انتقصوا منه سياسيًّا وبعضهم ليبراليون تقليديون، وآخرون أكثر محافظة. يستطيع المرء أن ينتج أنطولوجيا أخرى كاملة بسهولة (أو عدة منها!) للكتابات التي تنتقد هوارد بسبب “تشاؤمه” و”تحيزه لليسار” و”ماركسيته” و”افتقاره للوطنية”، وهلم جرًّا. لم تبق صفة إلا ونُعِتَ بها لكنّ هذا لا ينتقص من أهمية أو تأثير الكتب الثلاثين التي ألفها.

إن جذر المشكلة هي أن هوارد ارتكب أسوأ الذنوب: كان مؤرخًا رفض “الموضوعية” وناشطًا رفض أن يجلس مغلق الفم، وجنديًّا كره الحرب، ومواطنًا تجرأ على انتقاد بلاده. بتعبير آخر، فهمَ (وأرادنا أن نفهم) أن إنكار المرء لسياسته سياسة أيضًا. إن الذين كرهوا هوارد فعلوا هذا لأنهم لم يستطيعوا أن يتحملوا حقيقة أنه كان دومًا صريحًا في قيمه ومعتقداته. وتجلت لي جرأة صدق هوارد السياسي حين دعوته لأول مرة كضيفٍ محاضر إلى أحد صفوفي في هارفارد حول “أدب الاحتجاج الأميركي من توم بين إلى توباك” في ربيع 2002. طلبتُ منه القدوم كي يتحدث حول الستينيات ويساعد طلابي على فهم الصلات بين الحقوق المدنية والحركات المناهضة للحرب. قدمتهُ بطريقة رائعة رغم أنه لم يكن بحاجة لذلك لأن سمعته سبقته على نحو كبير في تلك النقطة. وكان طلابي متحمسين لمجيئه وكان هو متلهفًا كي يتفاعل معهم بعد المحاضرة. لسوء الحظ ذاع خبر زيارته وجاء أشخاص لحضور الصف من دون دعوة رغم أنني حرصتُ على أن تكون هذه التجربة خاصة بالمسجلين في الصف لا مناسبة عامة. وحين أنهى هوارد محاضرته طرح أحد الزوار غير المدعوين (وهو خريج مبغض للبشر عُرف سابقًا بين الطلاب بأنه مهووس) سؤالًا. بدأ بنقد مباشر وقاس لي وخاصة لمقدمتي التي شبّهها بـ”التتويج”. أنهى تعليقاته بسؤال: “أستاذ زن، ألا تعتقد أنه من غير المسؤول أن يُعَبَّر عن سياسة علنية كهذه داخل صف؟” شعرتُ بالغضب. فرغم حقيقة أن هذا الخريج اعتدى على الوقت الخاص بطلابي شعرتُ بأنني قدّمْتُ هوارد على نحو صادق وبمودة معبّرًا عن امتناني لتأثيره فيّ ولكرمه مع طلابي. وقبل أن أعترض حدث أمر جيد، فقد ابتسم هوارد ونطق جوهرة من الحكمة: “كلا، لا أعتقد أنه من غير المسؤول على الإطلاق. إن السياسة هي في جميع غرف الصفوف. وبقدر ما يهمني الأمر، كانت حياتي مكرسة لدفع عربة تفاحي الصغيرة إلى سوق الأفكار آملًا ألا تدهسني شاحنة”. ضحك الطلاب. وهكذا فعلتُ. عبّر هوارد زن عن فكرته.

ورغم أن هوارد كان معروفًا على نحو أفضل من خلال كتاباته الغزيرة ونشاطه الذي لا يكل. يعلمُ من أمضى منا وقتًا معه خارج إطار نشاطه العام بأنه كان متواضعًا جدًّا وكريمًا. التقيتُ بهوارد لأول مرة في ربيع 1999 حين كنتُ طالب دراسات عليا. وبعد أن دافعتُ عن أطروحتي في كولومبيا، الجامعة التي درسَ فيها هوارد، انتقلتُ إلى كامبردج كي أصبح الوصيّ على فتى بدأت برعايته منذ أن كنت طالبًا في هارفارد. انطوى هذا القرار على مجازفة بالنسبة لي في تلك النقطة من دراساتي العليا. وحذرني عدد لا بأس به من زملائي وأساتذتي من أن هذا سيعرقل “تقدمي المهني” (كانوا مصيبين بالطبع لكن الحياة تتدخل أحيانًا في طريق طموحات المرء الأكثر أنانية). كنتُ محظوظًا بما يكفي حين حصلت على وظيفة لتدريس بعض الساعات في برنامج هارفارد الجامعي حول التاريخ والأدب لكن قلقي تواصل وأنا أفكر بمشقة خلق توازن بين كتابة الأطروحة وقيامي بالتدريس وواجباتي الأبوية. مهما كان السبب، أرسلتُ إيميلًا لهوارد، تمامًا دون سابق إنذار، سألته فيه إن كان بوسعه تناول الغداء معي. وبعد أن أصبحتُ راديكاليًّا في كولومبيا افترضتُ أنني يجب أن أبحث عن راع مناسب لي وأنا في مكاني البعيد يحل مكان إيريك فونير ومانينغ مارابل، اللذين كانا يشرفان علي في الجامعة. رد هوارد بعد 48 ساعة وحدد موعدًا واقترح أن نلتقي في مكان مفضل له في هارفارد سكوير. أحضرتُ نسختي الأولى المهلهلة من كتاب “التاريخ الشعبي للولايات المتحدة” كي يوقعها لي وكنت في غاية القلق. كان هوارد في النهاية بطلًا من نوع ما بالنسبة لي لكنه لم يكن مدينًا لي بأي شيء. قلقتُ من أن يجدني مزعجًا ومثيرًا للشفقة أو كليهما. وكما تبين كان مسالمًا وأصغى باهتمام وصبر لحديثي الجنوني المتنقل عن التاريخ والسياسة والحياة والدراسة الجامعية. كان لطيفًا بما يكفي كي يؤكد أن هناك مجالًا لدراسة أخرى لإلغاء الرق في أميركا (موضوع أطروحتي) وكان أكثر لطفًا حين أثنى على قراري بالعودة إلى كامبردج كي أشرف على تربية الفتى الذي ذكرته وأعيش الحياة وفقًا لشروطي. وأتذكر أنني كنت محرجًا قليلًا من أنني هيمنتُ على الحديث مما جعلني أكثر امتنانًا لصداقته في ذلك اليوم. ولقد دفع ثمن سندويشتي وشايي المثلج. غادرتُ المكان الذي تناولنا فيه غداءنا بإحساس متجدد من الطاقة ووضوح الهدف وبتقدير أعمق لحقيقة أن بعض الأبطال يمتلكون القدرة على أن يكونوا إنسانيين وعاطفيين في آن. كان هذا درسًا حيويًّا لي تعلمته في سن مبكرة ولم أنسه.

تعمقتْ صداقتنا الشخصية والمهنية والسياسية مع مرور الأعوام. وكان هوارد ضيفًا محاضرًا منتظمًا في صفوفي الدراسية الجامعية حول “أدب الاحتجاج الأميركي”. ساعد جون مكميلان وساعدني في الحصول على عقدنا الأول لكتاب “القارئ الراديكالي” وكتبَ دعاية كريمة عنه. (سيكون من الصعب أن نعبّر كم عنى هذا كثيرًا لنا في مرحلة مبكرة كهذه في حياتنا المهنية). ومع مرور الأعوام غالبًا ما كنت أنا وهوارد نصادف بعضنا في الاحتجاجات والمسيرات نفسها (من أجل أجور عادلة، ولدعم السلام وما شابه) وصرّح المجلس الأميركي للأوصياء والخريجين الذي ترأسه لين تشيني بأنني أنا وهوارد “نفتقر للوطنية” بسبب معارضتنا الصريحة للحرب في أفغانستان ولاحقًا في العراق”. وفي تشرين الثاني/نوفمبر، حين نشر المجلس في البداية تقريره عن العراق “الدفاع عن الحضارة: كيف تخذل جامعاتنا أميركا وماذا يمكن أن نفعل حيال ذلك”، والذي تضمن قائمة بأكثر من 100 “رد من الحرم الجامعي” في أعقاب 9/11، اتصلتُ بهوارد كي أنكت معه حول حقيقة أن كثيرًا من الاحتجاجات وضعتني في المرتبة 32، أي أعلى منه بنقطتين. قال: “حسنًا، حان الوقت كي يبدأ جيلك”. أشعرني ضحكٌ كهذا بالتحسن والتحرر في تلك الأوقات المظلمة.

وكناشطٍ وباحث شاب دون أمان وظيفة استمددتُ الراحة والقوة من معرفة أن هوارد كان أيضًا على الخطوط الأولى في وقت كانت فيه قلة من الأميركيين ترغب برفع صوتها والتحدث ضد الخطْو المتسارع للإمبريالية الأميركية في العقد الأول من هذا القرن. فضلًا عن ذلك، كان هوارد دومًا على الخطوط الأولى في أي وقت وأي مكان يهم فيه هذا. كان أيضًا ملتزمًا بالنشاط السياسي وعثر دومًا (ربما بسببه) على الوقت للشبان. وطلبتُ منه منذ عدة سنوات المجيء كي يتحدث مع مجموعة من الطلاب كنت آخذهم إلى الجنوب كي أساعد في إعادة بناء كنيسة للأميركيين من أصل أفريقي دمرها حريق مُفتعل. وفي كل عطلة ربيع في الـ15 سنة الماضية كنت أنظم رحلات كهذه ألهمت دومًا محادثات عميقة حول العرق والدين والحقوق المدنية والعدالة الاجتماعية. وفيما كنت أبذل الجهود لتقديم فرصة للتعليم والتأمل حول هذه المسائل اعتقدتُ أن هوارد سيكون شخصًا عظيمًا كي يتحدث مع طلابي حول كيف ارتبط هذا العمل بالتاريخ الطويل لنشاط حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة. اخترنا أصيل يوم أحد ووعدتهُ بأن أدعوه إلى غداء مبكر قبل ذلك. تأخر هوارد عن موعده معنا محاولًا العثور على مكان لركن سيارته في هارفارد سكوير. وبعد أن دار عدة دورات في الحي قرر أن يركنها بشكل مخالف للقانون. وحين قدمتهُ للقادة الطلابيين للرحلة قال مازحًا: إن “القليل من العصيان المدني لا يؤذي أحدًا أبدًا”. أصغى طلابي بانتباه أثناء الغداء المبكر فيما كان هوارد يروي لهم قصص انخراطه في حركة الحقوق المدنية ويحدثهم عن الحرب والسلم والتاريخ والنشاط السياسي وصداقته مع أليس ووكر ونعوم تشومسكي. وبعد الغداء المبكر التحقنا ببقية المجموعة وأمضى تقريبًا ساعتين وهو يتحدث معهم مجيبًا على أسئلتهم ويتخذ وضعيات من أجل بعض الصور. وفيما كنت أمشي معه إلى سيارته شكرتهُ على كرمه وعرضتُ أن أدفع غرامة مخالفة ركن السيارة. فرد على نحو شيطاني: “لا يعطونني بطاقة أبدًا”. تبين أنه على صواب. لو فقط عرفوا أن هذه كانت سيارة هوارد زن!

أروي هذه الحكايات كي أشدّد على أمور عدة عن شخصية هوارد يبدو أن كثيرين من نقاده لا يفهمونها أو يقدرونها: التزامه الذي لا يكلّ بالتعليم والرعاية وكرمه غير العادي وسرعة بديهته. (الروح المتمردة، بالطبع، موثقة بشكل وافر). هناك صفة أخرى صرتُ أقدّرها وهي حبه للفنون. كان كاتبًا مسرحيًّا وراعيًا للفنون ويحضر بانتظام الأمسيات الشعرية والمسرحيات والأفلام والأوبرات في كل أنحاء بوسطن. قال هوارد في مقابلة في 2004 مع صحفي الإذاعة البديلة ديفد باراساميان: “يلعب الفنانون دورًا خاصًّا جدًّا في التغير الاجتماعي، أظن أن الفن يقدم لهم دافعًا خاصًّا من خلال إلهامه وتأثيره العاطفي لا يُقدر بثمن. احتاجت الحركات الاجتماعية عبر التاريخ إلى الفن من أجل تعزيز ما تفعله وكي تلهم الناس وتمنحهم رؤية وتجمعهم معًا وتجعلهم يشعرون بأنهم جزء من حركة حيوية”. جعلنا هوارد أيضًا نشعر بأننا “جزء من حركة حيوية” من خلال إصراره على أن الفن والتاريخ والنشاط السياسي يمكن أن يكونوا ربات إلهام بعضهم بعضًا. آمن بهذا بعمق.

ومما يستحق الذكر أن آخر مرة رأيتُ فيها هوارد كانت في السابع من كانون الثاني/يناير 2010 في عرض مسرحي. جلسنا في الصف الأول من مسرح الأندرجراوند ريلوي في سنترال سكوير في كامبردج. وطُلب منا أن نشترك في برنامج الإنسانيات العام كي يتزامن مع إنتاج مسرحية ليديا. ر. دياموند الجديدة المذهلة “هارييت جاكوبز” التي استلهمتها من قصة عن العبيد من عام 1816 بعنوان “حوادث في حياة فتاة عبدة”. كانت هذه هي المرة الأولى التي تم فيها إعداد السيرة الذاتية للمسرح وكنت أنا وهوارد متلهفين كي نشارك في سلسلة من المناسبات التي ستساعد في تقديم القصة اللافتة لحياة هارييت جاكوبز وهربها من العبودية إلى جمهور أوسع. كنت عازمًا أنا وصديقي جون ستاوفر على أن ندير حديثًا مع الجمهور بعد الأداء ليلة الافتتاح وكان من المقرر أن يقوم هوارد بأمر مماثل في الأسبوع التالي. كانت المسرحية مكتوبة ومُتَصَوَّرَة على نحو رائع ومُثلت على خشبة المسرح بشكل ممتاز ومؤثر جدًّا. وأثناء التصفيق وقوفًا لوقت طويل في نهاية العرض تذكرتُ أنني قلقت من أنه سيكون لدي القليل كي أضيفه لما شكّل على نحو جلي انتصارًا كبيرًا للمسرح وللتاريخ. وحين تحركتُ أنا وجون كي نجلس وسط خشبة المسرح السوداء التفت إليّ هوارد واعتذر بأنه مضطر للمغادرة باكرًا. كان يشعر بوعكة. قلت له إنني أنوي التواصل معه من أجل أن أدعوه كي يحاضر ثانية في هارفارد فأجاب أنه سيفعل هذا حالما يتحسن. ثم ارتدى معطفه ومد ذراعه الطويلة وشد كتفي. “استمرْ!”، هذا ما قاله قبل أن يستدير خارجًا من الباب اليساري في خلفية المسرح. توفي هوارد بعد ثلاثة أسابيع.

“استمرْ”. ما تزال كلمته تسكنني. كان يجب أن أنتبه آنذاك إلى أنه كان ضعيفًا جدًّا وبأن عمره ظهر كما لم يحدث من قبل. اعتدتُ رؤية هوارد قويًّا لا يُقهر بحيث لم أكن قادرًا على تخيل بديل (كي لا أقول أي شيء عما هو حتمي). ما الذي لن أفعله كي أعود في الزمن إلى الوراء، كي أحظى باللحظة مرة ثانية، كي أعانقه وأشكره وأتأكد من أنه كان يعرف أنني أيضًا جزء من ذلك الكورس الديمقراطي العظيم الذي عثر على صوته وجذوره بسبب حياته. هذا هو الأمر حيال الموت: لا نحصل أبدًا على فرصة ثانية. عرفَ هوارد هذا وعاش وفقًا له. ربما رحل مؤرخ الشعب لكن هناك مزيدًا من التاريخ الذي يجب أن يُدون ومزيدًا من التاريخ الذي يجب أن يُصنع. جاء دورنا كي ننطلق الآن كي نفعل ما علمنا فعله: “استمرْ!”.

الكاتب: تيموثي باتريك مكارثي، أستاذ التاريخ والأدب والسياسة العامة في جامعة هارفارد، حيث يدير أيضًا برنامج الجنسانية والجندر وحقوق الإنسان في مركز “كار” لسياسة حقوق الإنسان. هو أيضًا باحث حصل على جوائز مرموقة، وناشط في مجال حقوق الإنسان. من كتبه “أمة الاحتجاج: كلمات ألهمت قرنًا من الراديكالية الأميركية”، كما نشر كتابًا يضم مختارات من أعمال هوارد زن بعنوان “زن الذي لا غنى عنه: الكتابات الجوهرية لمؤرخ الشعب”.

[ترجم هذا النص، المترجم القدير: أسامة إسبر، عن موقع ذا ديلي بيست، ونُشر في موقع جدليّة، بتاريخ 23 أغسطس 2021].


عدد المشاهدات : 607

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.