قطة القرية لا تبحث عن سمكة السردين

قطة القرية لا تبحث عن سمكة السردين

أشعار الباشا

جسرٌ بتّرته بكاءات القلقين والخائفين، ثم جسرٌ فرحت القرية حين زف لهم مجنونهم أن البلدية أعلنت عن التفكير في تشييده. توقف عند مرحلة التخطيط، عرقلته قلة حيلة المفكرين في أسباب ما يحدث رغم أن الحال من الخارج يوحي بالكمال. حدث ان اكتشف الأولاد أن كل شيء في الحياة حر كذرة هيدروجين. قرروا أن الحرية هي التحرر من كل مبالاة بأي شيء، وأن من يتفلسف عن ضرورة الحفاظ على تراث يجعل من الشيء حصناً حين يغزو العمالقة سور القرية، هو محض منافق يريد أن يسلبهم حقاً بأن يكونوا غوغائيين، لأن الحياة صوت ضاجٌ بما تفتعله الأرواح وآلاتها لا أكثر، وهو الوصف الذي يؤطره كبار القرية العاقلين بالفساد، وآخرون يرادفونهم بالقول إنه العالَم الآيل للانهيار. يتفق الجميع أن الحفاظ على القرية هدف أسمى يجب التحرك انطلاقاً منه كما تنطلق هليكوبتر من مهبط على سطح ناطحة سحاب. أي أن تكون الانطلاقة بعيداً عن عين من يقطن أسفل السافلين. المتواضعون في أحلامهم، أصحاب قضية الخبز والمأوى وكفى. هؤلاء أمام أصحاب قضية الرؤوس النووية والجسور الجوية والمعابر النهرية وأنفاق مناجم الفحم والغاز، قضايا في قضية شكواها وبغيتها الوحيدة هي كيف تصبح مدير العالم بلا نائب ولا وريث.

ينبغي عليك زراعة جناحين خلف ظهرك كي تكون ساحراً بهي الطلعة مهيوب الحضور حين تعلن أن الحفاظ على الأرض هو الرسالة التي كلَّفت بتوصيلها وتعمل بكل قوتك على إيصال كل سطر منها إلى المرسلة إليه دون تمزيق شيء من الورقة في الطريق. يحدث أن تصل الرسائل مثل هذه إلى أهالي القرية قبل أن تُكتب! هذا الوضوح في الخطوات ما يجعل الخبازين والمزارعين ومعلمي المدارس ومساعدي التمريض في مستوصف القرية يقلقون لدرجة الخوف من سوءٍ سيحدث، وإذ يحدث. مثل جسر ناتئ في جسد الطبيعة منعهُ خيرٌ هو حبّ الله، أو ما سمي دوماً في قانون الفوقيين بأريد ولا أريد، وليس تريد أو نريد. يخترقني وأنا أتواسى هكذا قول وديع صاحب السعادة: “لا تقل إنك مستعجل، وصائبٌ تمامًا كالطلقة. ساعدني قليلاً، للاستلقاء على هذا الرصيف، ومنع العبور إلى تلك البقعة، ساعدني فقط، لكي يمر الهواء”.

عملية خفة. هذا كل ما تحتاجه روح ظلّ قصير. في الحقيقة هو عند أقرانه طويلٌ وفارع السمعة كنخلٍ ذي طلع نضيد، إلا أن الأمور لا تسير هكذا في شارع الصخب والعنف والعين البصيرة والكلمة القصيرة. شقيقة المعلِّم المغتربة في بلاد على مسيرة كوكب وقمرين، في كل مساء تعد الجدران والأحذية وكم تفاحة وبرتقالة وعلبة حليب وحبة بسكويت تبقت في الثلاجة. إنها تمعن في إجراء الخفة على ما تصل إليه يدها وكَلِمتها حين تقرر أن هذا لازم التواجد هنا وهذا يجب رميه إلى حاوية الشارع المجاور. أي إلى طريق بلا رجعة. تستعيدها عنوستها بفضل كلمة أخيها الطولى في رفض جميع الرجال وتتدلى من حافة السرير كمن يُدلي حبلاً إلى بئر لإنقاذ ما تبقى من الروح. تظن أنها تستعيد روحها من حفرة تختلف عن الحفر التي يقع فيها الآخرون على غفلة. إذ تم حفر الهاوية لها أمام حياتها مُذ كانت ترى. اختارت ان تعيش عدَّادة بعد أن ماتت فرص نجاة النور الذي كان في قلبها. تعُد ما تبقى لها من كل شيء، من أي شيء، وتتخفف كمن يتبرع بممتلكاته للمستحقين لأن رائحة الموت تسللت إليه وبات يعرف أنه سيغادر في وقتٍ يظن ذووه أنه بخير. مثل هذه الفارعة في الجهاد على جبهة شخصية، تتبرع للبحر والشارع وحاوية النفايات وكلاب الأزقة الخلفية لأن هذه قيمة ما سُمح لها بأن يكون طوع يدها، إلى أن تغرب عن وجه الخاسئين. ومثلها صديق كاتب المحتوى في مجلة الشعب الممنوعة من النشر ورقيًا. عرفت أن اسمه عبدالقوي. سخرية الخطأ الذي مزق خطة الإحراج. كانت النظرية بين الصديقين: لنضع حقيقتهم في وجوههم كي نوقعهم في حرَج يشمت عليه جيران الكواكب والقبور، في كل مرة أجبرتهم التهديدات على التراجع كانوا يبررون الأمر بمحاولة خاطئة سنباغتها بصوت جديد من مكان غير متوقع. كان الجميع يعرف كاتب المحتوى بالرجل ذي الأفكار الإبداعية. وعندما يحيل الفضل إلى صديقه مؤسس المجلة، ترتفع صيحات التشجيع قائلةً إنه الظل الطويل لمن زرع البذرة الأولى في حقل مفخخ بالألغام بدلاً من السنابل، إذ أنَّ الحقل يقع في منتصف القرية، حيث تحيطه أكواخ الأهالي من كل صوب.

في فطرة القرية يحب الناس بعضهم. تتقارب أرواحهم كلما تقاربت خطواتهم الفوضوية أثناء الركض إلى الأشياء في الشوارع. يشبهون الغمام وهو يلون الزرقة بنقاءٍ أبيض إن لم يشي بمَطر، وشى بنفحة لُطف من الرحمن. ستبحث كثيراً بين جموع السائرين في القرى وجموح العابرين إلى حُمرة الغوايات عن لسانٍ واحد لا يضجر من نفسه ومنك حين ينطق كلمة فِطرة، هذا إن تذكَّر ماذا تعني، وهل لها وجود في القاموس أم اخترعها من لم تكفهم مفردات اللغة، مثلما اخترعوا كلمة “ثقافة” وهي غير منتمية إلى لغة هذا المكتوب. مثل امتنانٍ لم يصل إلى صاحب الفضل أحملُ حديث صلاح الحيثاني حين كتب: “كان وحيدًا، كجهة تغيب عن المكان، وتتفقد طريقها إليه. تأمّل، وأراد أن يقول شيئًا، فسكَت المكان، وأصغى هو”. بيْدَ أن المكان في أحوال القرية لا يسكُت. يثور كما ثيران الساقية التي عطَّلتها عجلة التنمية منذ وقتٍ بعيد. يتبجح كما مرتزقين يرفعون شكاوى التخوين على المشغولين في كسب أقواتٍ قليلة كما تحارب سفينة القراصنة مركِب صياد السمك. ويصغي النائحون على أطلالهم الباقي من روحها، شيء ينفع أن يُنقذ، لو انتبه إلى عِرق الحياة فيه أحد، يصغون في أسوأ ذكرياتهم كمن يصلي في مسجد تم تفجير مآذِنه، ولم يعد يرتفع فيه صوت الأذان جهورًا بل خجولًا. أما في أحسن حالاتهم، أولئك المصغون، فإنهم يبكون بترنُّم يشبه تمزق فيروز وهي تغني: “بتذكر آخر سهره سهرتا عنّا؟ بتذكر كان في واحدة مضايق منا؟ .. هيدي أمي، بتعتل همي.. منّك إنتا.. ملّا إنتا. ../ كيفك قال، وعم بيقولو صار عندك ولاد، أنا و الله كنت مفكرتك براة البلاد”.

أن تستفيق على صوت النسَّاجين في الأكواخ، وبائعي البخور والمساويك في السوق الشعبي، وتشعر أنه حقًا صباحُ الخير، فتباغتك أخبار نِسَب البطالة، وفي صفحةٍ أخرى خبر بحجم دبابة، عن برامج توظيف جديدة ستقضي على كل ما يسمّى شخصٌ نائم على سيرته الذاتية الحافلة بالعِلم بلا عمل. تتباطأ ضربات قلبك، ويعتريك حزن مشوبٌ بخيبة أمل فيمن أثبتوا أنهم سادة باب الكذب العالي. كنت تواسي نفسك بأن البقاء في البيت وكسب الرزق من خدمة الآخرين الكسالى في انجاز شؤونهم الشخصية هو عطاء أقدار يجب أن يُشكَر بعبارة: “انظر إلى ما تم إعطاؤنا إيّاه لا إلى ما تمّ أخذهُ منا”. تقاطعك دومًا أفكار هي في الحقيقة أحداث مهمتها الوحيدة إيصال ما يغزوك من تفكير بأن الخطأ هو الصواب لأنه الواقع الذي يجب أن تتعايش معه بدلاً من النزوح إلى مصحَّة الوهم وتخيلات بلاد الصلاح الخيرية. تتساءل ما الذي كان سيخسره أصحاب هذه الأفكار لو تقمصوا ثوب جنيَّة التوت التي تسحَر الألباب بحلوُ كلامها وجاذبية وعودها التي وإن لم توفى، فقد أوقعَت في القلب وقودًا يدفئ حجرة الأمل الخاوية على عروشها كعَراء بلا ضوء قمر. تدرك جيدًا ما الفرق بين الكذب الفج والإيهام الخلّاب. لذلك تتساءل برعونة من سرقَ منه سطلُ السمك وشبكة الصيد. تقول: “برغم وضوح الأجوبة وحشد المنتظرين عيدًا: جاءت أعياد آخرين لم يصوموا ليستحقوها، ولم يأتي عيدنا نحن اللذين أسرفنا في الصوم عمّا حرَّمتهُ السلطة وردده الكورال بثمن باهظ رغم النشاز”.

العمر أقصر مما يكفي للشعور بالملل من التحمل واليأس من طول حدوث لا شيء، كلما تفاقم التعب، أو تضاءل، أو حتى حلت محله استراحة مسافر يتفادى أن تترجمهُ الأقدار إلى عابر سبيل. عندما تفعل شيئًا يتطلب الانتظار لجمع المحصول، يعتريك شعور متطاول البصر في سيمياء أبدية. هل تعرف هذا المشهد؟ التحديق في المحيط الهادي بعد منتصف الليل؟ التمعن في سواد الماء الحالك بحثًا عن لمعة نجمٍ غارق تستطيع الاستيلاء عليه؟ ثم الشعور بدُواخٍ حاد إما يسقطك في المحيط بلا هوادة، أو يمنح غريزة حب الحياة فيك فرصة التقيؤ والسقوط على بطن القارب المسكين. عندما مررتُ بهذه الحالة يومًا، أو لأكن صادقة، أكثر من يوم، أعني أكثر من مرّة، أسميتها بحالة الاغتراب الشقي. لم أكُن أنا الشقية بل كان اغترابي، لأنه ذهب دون اختياري إلى محلاتٍ ضالة. تفصح لوحاتها عن شيء وترى في مكونات أرففها شيئًا آخر لا يمكن الكتابة عنه! أما أنت فربما تشعر أنك مثل مركب مشيد على مناكب ناطحة سحاب ليس بها نوافذ ولا شرُفات.

في القرية نويت الرحيل يومًا، فعاودني الظمأ إلى حرث حياة كريمة فيها وكأن لسان ترابها يؤنبني. حدَّثتُ خياطة القرية عن هواجسي فأخبرتي أن التراب كان يحذرني. تراب الطيبين الأشقياء بكدحهم ليس مثل تراب الطيبين أيضاً لكن القاطنين في حاضرة الشمال. هناك حيث لا أحد يميز الطيب من الخبيث سوى الأسلاف الذين دونوا ما لحقوا عليه من تاريخ بعض الحقائق، وهناك حيث المواقف لا تكشف ما يسمى بالمعادن البشرية كما يجب، إذ تندلع هنالك ثورة اسمها مونتاج الحياة.

في ليلة بعيدة عن ليالي الوعي والتفكير في بشاعة الأشرار، وكيف يمكن إيجاد حلّ يوضع قيد التنفيذ دور المرور على بيروقراطية وديكتاتورية السلُطات، استودعتُ قوت عُمري في تربة الحقل المجاور لبيتنا. منذ شهور لم نعد نعرف إن كان الحقل قد بيع من قِبل صاحبهِ أم تم اختطافه منه بالقوة. اختفى السيد غريب فجأة مثلما جاء واستوطن القرية فجأة كما قال المختار. قطته ترفض النوم على عتبة باب بيته كما كانت طوال سنوات وجوده. أصبحَت تتسكع في كل مكان ولمحتها مرتين متسخة ومصابة بجروح. أردت مساعدتها فتوحشّت. عرفتُ أن هناك قطاع طرق ضربوها وحاولوا تعذيبها أو ربما نجحوا في تعذيبها وهربت منهم قبل أن يدركها القتل.

كنت قد نويت كما قلت، ثم بعد ذلك، اتخذت بالنأي عن القرية. والنأي ليس هجرًا، بل نحيبٌ لا يُسمع، وانحياز لحق استراحة محارب أثناء الحرب. يستحق من سلاحهُ في الحرب الصبر والرفعة، إجازةً مدفوعة الأجر أكثر من المتسلح بالرصاص ولا شيء غير الرصاص. ثم وجدت أن في الزوايا اطمئنانٌ يشبه هدوء الخالي من العشق. إحدى الزوايا أن تتكلم بلسان قطة أو فأر حقل. زاوية الذي يُدرك أين الحل ولا يبالي. لا لأنه ضعيفٌ بمفهوم لا يُمكن إنكاره و إن احتوى على الذل، بل لأنه في عالَم ديزني المليء بحكايا الطيبين الآمنين، كائنٌ خُصص له مكان بعيد في بلَّورة النبلاء الذين سيصلون إلى قصورهم يومًا إن ساروا على درب الشظايا و الورود على حدٍ سواء، بأقصى ما يستطيعون من الهدوء، الجَمال، وعدم الأذى.

عدد المشاهدات : 532

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.