ماذا حدث عندما قرر تشارلي أن يموت؟

ماذا حدث عندما قرر تشارلي أن يموت؟

مها إبراهيم

تشارلي مصاب بالضجر. ضجر طويل حاول علاجه مرات كثيرة، لم يعد قادرًا على الدهشة، كان يملك أسئلة عن الطريقة التي تعمل بها الأشياء، كيف للأرض ألا تسقط في الفراغ؟ كيف لها ألا تستمر في السقوط فيه؟ كيف لا يملك الصوت شكلاً؟ أي شكل لا يهم. كيف يفقد الناس ملامحهم عندما يعتادون الحياة؟ عندما أحس بالضجر لأول مرة، نظر في المرآة ليتأكد أن وجهه ما يزال هنـاك. ما زال هناك. لكن شيئًا ما تغير فيه لوهلة، كأنه بات قابلاً للاختفاء. ارتعب تشارلي، من فكرة أن يختفي وجهه، بدأ باستحضار كل تساؤلاته، كلما عد سؤالاً، أمسك جزءً من وجهه.

تشارلي يسكن في علية أحد المباني الخربة في الجزء الفقير من المدينة، أصحاب البناية لا يعلمون بوجوده، كلما أتوا بصحبة شخص، لإقناعه بشراء هذا المكان المعدم، يرفض العرض قبل وصولهم الى الجزء الذي يسكنه تشارلي ويختبئ فيه. لخمس سنوات، اعتاد التسلل الى هناك في الليل، ثم الخروج قبل مطلع الشمس، مع مرور الوقت بدأ في ترك حاجياته، لأن أحدًا من سكان الحي لم يكن مهتمًا، سوى بمراقبة فتات الرغيف الذي قد يسقط من فم ما، خارج من المخبز الوحيد في الحي، المخبز الذي يتعرض للسرقة يوميًا حتى صار صاحبه يبقي السلاح في متناول يده، وعلى مرأى من الجميع، يتبجح به على الرصيف، كلما احتاج الصعود لقضاء حاجته.

تشارلي لم يكن يملك المال ليأكل. ولم يكن يبالي، يحتفظ ببزة قديمة يبقيها في حالة نظيفة. وجدها في أحد الليالي على جسد أحدهم، كان قد قُتل للتو. وقف تشارلي فوقه متسائلا: أين يذهب هؤلاء؟ أم أنهم ينتهون وحسب؟ فكرة الموت لم تكن معروفة له بعد، ولكن البدلة التي كان يرتديها كانت نظيفة، ولم يعد بحاجة اليها، وتشارلي بحاجة الى وظيفة، ولا أحد هناك يوظف صبيًا يرتدي أسمالاً مشقوقة.

كان يقوم بالتطفل على بعض الأعمال، ليحصل على ثمن رغيف اليوم. لم يكن يشعر بحاجة لأكثر من ذلك، لم يملك ثمن الكتب التي يمكنها الإجابة على أسئلته في يوم من الأيام. حدث في يوم من الأيام أن فكر في أن يهندم نفسه بشكل أكبر، ليستطيع الدخول الى المكتبـة. تخلى عن رغيف اليوم، طلب من سيدة أن تغسل له بدلته، وأن تسمح له أن ينظف نفسه في ساحة الغسيل. أمام باب المكتبة، قام بمسح حذائه للمرة الأخيرة، صلّى لأن يذوب في الجمع دون أن يلحظ أحدهم أنه يمشي متباطئًا أكثر من اللازم. كان يفعل ذلك لئلا يظهر الشق الكبير في مقدمة الحذاء الذي يرتديه وقام بتلميعه قبل الدخول.

قضى سبع ساعات في ذلك المكان قبل أن يخرج. لم يفهم كلمة واحدة مما قيل، هو لا يعرف أكثر من مما يتكون الخُبز، وبأن الأرض كروية كما يقولون، ولكنه اعتاد كل ليلة وقبل أن يخلد للنوم أن يستمع الى صوت بطنه والى أسئلة عقله. في تلك الليلة التي لم يتساءل بها، أصابه الضجر لأول مرة، عندما صار الأمر متكررًا، كان تشارلي في كل مرة يدرك فيها شعوره بالضجر، ينظر الى المرآة الصغيرة التي اعتادت والدته أن تنظر اليها عندما تكون بحاجة لتهذيب شعرها، ينظر أي جزء فقده اليوم، يحاول استرجاع أسئلته، ولكن الدهشة التي كانت تبقيه حيًا، كانت تخبو.

فقد وجهه كاملاً في أحد الليالي، ولم يعد يتساءل منذ ذلك اليوم، صارت أصوات معدته أعلى من السابق، وانشغل في البحث عن الرغيف، حتى حاول في أحد الأيام سرقة المخبز، كان ينظر نحو السلاح الموجه إليه، ولا يبالي، صاحب المخبز المتبجح، لم يستطع الضغط على الزناد. كلما أراد ذلك، نظر الى عينيه الجائعتين، حتى تركه يذهب متمسكًا بالرغيف في النهاية.

عادت اليه الرغبة في زيارة المكتبـة، حاول هندمة نفسه والدخول، لم يلاحظه أحد. قرأ كثيرًا، دون أن يفهم أي شيء، كان جائعًا، ولم يعد يملك أي أسئلة، ولكنه لم يرد أن يموت. كان يبدو كأن شيئًا سينقذه، ولكن قبل أن يحدث ذلك، تم الإمساك به وإلقاؤه في الخارج.

باع بدلته وتخلى عن النظر الى السماء، كان يكفيه النظر في الحائط المقابل، وتصور نفسه يأكل. تذكر الرجل المقتول ومشهد النهاية ذاك، ولم يبدُ له الأمر بتلك الفظاعة. نظر في المرآة الصغيرة للمرة الأخيرة، مستدعيًا كل ملامحـه، ولكن وجهه لم يكن يظهر، كل ما كان يراه هو البياض. ارتعب. وقرر أن ينتهي هو الآخر، يبدو الأمر أفضل في نظره، كان مسيّرَا بالأمل، في أن يسترجع وجهه في المرآة، أن تبدو الكلمات التي تحملها الكتب مفهومة، أن يعود ليسأل نفسـه كيف يبدو شكل الصوت؟ وأن يتخيل أشكالاً مختلفة تخرج من أفواه الناس.

أراد أن يعرفه سكان الحي، ارتقى الحافة، تصور كيف سيبدو الخبر غدَا، أحدهم سقط من تلك البناية، تلك حاجيـاته، يبدو أنه يسكن هنا منذ وقت طويل. كان يعرف جيدًا، أن أهل الحي لن يطيلوا النظر الى جثته بقرف أكثر من دقيقتين، ثم سيعودون لصراخ أطفالهم الجياع ولصاحب المخبز وسلاحه. بدا الأمر جامدًا بالنسبة إليه، ذلك الجمود الجذاب الذي لا تستطيع تصور أي شيء بعده، نقطة النهاية تلك دفعته للقفز.

بعد يومين، مرت صبية بجانب جثته، كانت قد بدأت تجمع الذباب وتفوح منها رائحة، لم يهتم أحدهم بما فيه الكفاية ليبلغ عن وجود شخص ميت في ذلك المكان، لم تشعر بالقرف، نظرت مطولاً الى وجهه.
– مؤسف، كان يمكن أن أقع في حُبّ وجه كهذا.
ثم نظرت الى مدخل البناية، ونظرت حولها لتتأكد أن لا أحد يشاهد، واختبأت في الداخل.

عدد المشاهدات : 1114

 
 

شارك مع أصدقائك

One Comment